السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
زيارات الحول في حضرموت - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 12:52 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



مقدمة:
من المؤكد أن الزيارة الدينية في حضرموت عادةٌ قديمةُ جداً، تعود إلى فترة ما قبل الإسلام. وبما أنها كانت من الفرص القليلة التي تتجمّع فيها أعدادٌ كبيرة من الناس، ذكوراَ وأناثا، من الطبيعي أن تستغل تلك الزيارات للمبادلات التجارية والمبارزات الشعرية. لهذا ربط الأستاذ عبد القادر محمد الصبان، في كتابه (عادات وتقاليد: زيارة هود)، الزيارة بعادة إقامة العرب للأسواق التجارية والثقافية في بعض الأمكنة التي اكتسبت قبل ذلك شيئا من التقديس لأسباب مختلفة؛ فهو كتب: "للعرب أسواقٌ يجتمعون بها في تجارتهم، ويجتمع فيها سائر الناس، ويأمنون فيها على أموالهم ودمائهم. وذكر بعض الإخباريين أن أسواق العرب في الجاهلية ثلاثة عشر سوقا: أولها قياما دومة الجندل. وحظ اليمن من هذه الأسواق حظ كبير، فهي سوق هود أو سوق الشحر، وسوف الرابية وسوق عدن وسوق صنعاء. ويظهر من روايات أهل الأخبار أن حظ المفاخرة والمباهاة والتمدح والذم لم يكن بأقل من حظ البيع والشراء. ويظهر من تلك الروايات أن أماكن الزيارات كانت في الأصل كلها مواضع مقدسة بها أصنام تعبدها القبائل وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة هي مواسم حجها، فتحولت تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء". ص21-22 
 

ومن المعلوم أن الدين الإسلامي، حينما أمر بتنزيه الحج من الرفث والفسوق والجدال، رخص فيه التجارة، ولم ينه عن إقامة السوق التجارية في مكة. وقد قال تعالى في كتابه العزيز: "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ. لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ". 
 

وفي حضرموت هناك زيارات دينية كثيرة؛ منها ما يعود إلى فترة ما قبل الإسلام مثل زيارة شعب نبي الله هود، ومنها ما استجد بعد ظهور الإسلام. بل أن بعضها لم يظهر إلا في القرن المنصرم. وفي الغالب كانت القبور والأضرحة هي الأماكن التي أدت إلى قيام معظم تلك الزيارات الدينية. وكان هذا سبب عدم قبولها من بعض الطوائف الدينية في حضرموت وخارجها. ومع ذلك تقام في حضرموت زيارات سنوية تحمل أسماء رجال دين لكن ليست لها علاقة بذكرى وفاتهم، مثل زيارة الهدار التي تنظم خلال شهر جماد الآخر من كل عام هجري في مدينة القطن، وذلك تذكيرا بتاريخ توقيع الصلح بين قبائل المنطقة الذي تمّ سنة 1288هـ بتوصية ووصية من الحبيب المصلح عمر بن محمد الهدار. ويغلب على هذه الزيارة الطابع التجاري الصرف منذ بداية تنظيمها. 
 

وإذا كان معظم الزيارات الدينية في حضرموت قد احتفظت بتسمية (الزيارة)، مثل زيارة هود وزيارة سلطانة بنت علي وزيارة المشهد، (التي تقام في 12 ربيع الأول وليس في تاريخ وفاة علي بن حسن العطاس مؤسس المشهد)، وزيارة قيدون وزيارة الحوطة، فهناك زيارتان دينيتان -(الثالثة لم تدم)- في حضرموت اختار منظموها إطلاق تسمية (الحول) عليها: حول عبد الله حسين بن طاهر وحول علي بن محمد الحبشي. ومن المؤكد أن تلك التسمية قد اختيرت تأكيدا على إقامة الزيارة سنويا، وذلك على الرغم من أن جميع الزيارات الدينية الأخرى تقام سنويا أيضا. ومن المؤكد أن زيارة الحول في حضرموت لا تنظم إلا احتفاءً بذكرى وفاة أحد العلامة أو رجال الدين، وفي الغالب القريبين من الاتجاه الصوفي. وسنحاول أن نبيّن في الصفحات الآتية ما يتميّز به (الحول) عن الزيارة بشكل أوسع.
 

ولا شك أن كلمة (حول)، التي تعني في لغتنا العربية: العام، والدورة السنوية، كانت ولا تزال تستخدم في جميع اللغات العربية الجنوبية، القديمة والحديثة ومنها المهرية، للدلالة على إله المطر عند سكان جنوب الجزيرة قبل الإسلام، ولا تزال الكلمة تردّد اليوم بهذه الدلالة فيما يسمى بـ(التحويلة/الدعاء) التي يقال فيها: (حول حولاه حموم كل وادي ملان [بمياه الأمطار]، يا حول حولاه حموم ...). وحموم تعني المطر والماء في اللغات العربية الجنوبية. ومن المعلوم أن القائمين على حول الحبشي في سيؤن فضلوا مؤخرا إطلاق تسمية (حولية) على ذكرى وفاة جدهم الحبيب علي بن محمد الحبشي. وأكد لي المنصب الحبيب علي بن عبد القادر بن علي بن محمد الحبشي، الذي يحمل شهادة جامعية في اللغة الإنجليزية، عدم وجود علاقة بين إقدامه على تغيير التسمية من حول إلى حولية بما علق بكلمة حول من دلالات قديمة.
 

أولا: حول الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر
يُنظّم حول الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر في قرية المسيلة الواقعة جنوب شرقي مدينة (الغرف) وسط وادي حضرموت، فجر السابع عشر من شهر ربيع الثاني من كل عام هجري منذ سنة 1273هـ، وذلك احتفاء بذكرى وفاة العلامة عبد الله بن حسين بن طاهر، الذي ولد في مدينة تريم سنة 1191هـ، وتربى فيها على يدي والدته وأخيه. وتردّد منذ صغره على معاهد التعليم والتهذيب وتفقه في العلوم الدينية والعربية وغيرها، ثم رحل إلى بلاد الحرمين لطلب العلم الشريف ثم التدريس. ومن أشهر تلامذته هناك محمد بن حسين الحبشي الذي تولى الإفتاء في مكة، وهو والد الحبيب علي الحبشي. ثم عاد ابن طاهر إلى مسقط رأسه تريم واستقر فيها فترة من الزمن قبل أن يضطر إلى مغادرة المدينة إلى المسيلة سنة 1210هـ بسبب جور آل غرامة حُكام تريم، وفراراً من الضغوط الاجتماعية السائدة بها آنذاك.
 

وفي المسيلة دأب ابن طاهر على تقديم الدروس في الفقه واللغة، وكثر تلامذته ومحبوه. وألف عددا من الكتب المهمة، منها: (سلم التوفيق في الفقه)، و(مفتاح الإعراب في النحو) ومجموعة كبيرة من الرسائل والمكاتبات. 
 

وفي ليلة الخميس السابع عشر من شهر ربيع الثاني من سنة 1272هـ وافت المنية الحبيب عبد الله بن حسين بن طاهر في المسيلة. ومنذ العام التالي وفي التاريخ نفسه من كل سنة يقام الحول السنوي احتفاء بذكرى وفاته.
 

وبعكس حول الحبيب علي بن محمد الحبشي لا تمتد طقوس حول ابن طاهر لعدة أيام، بل أنها لا تتجاوز عادة الساعتين؛ فهي تبدأ بعد صلاة فجر السابع عشر من ربيع الثاني وتنتهي نحو الساعة السابعة صباحا. ويتضمن البرنامج قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، ومجموعة من الأذكار، وكلمات يلقيها بعض العلماء بغرض التذكير بمناقب العلامة الحبيب ابن طاهر، ثم تقرأ (الوهبة) ويختتم الحول بالفاتحة. وبعكس حول الحبشي الذي اكتسب شهرة واسعة في حضرموت وخارجها، لا يعرف معظم سكان حضرموت اليوم شيئا عن حول ابن طاهر، ومعظم المشاركين فيه يأتون عادةً من تريم وعينات، ومن المناطق المجاورة فقط.

 

ثانيا- حول علي بن محمد الحبشي:
يرتبط اسم زيارة الحول اليوم بحول العلامة الأديب الحبيب علي بن محمد الحبشي، الذي وُلد في بلدة قسم الواقعة شرقي مدينة عينات في أسفل وادي حضرموت، وذلك في الرابع والعشرين من شهر شوال سنة 1259 هـ، حينما كان والده مقيمًا بها. وبعد سفر والده إلى الحجاز، تكفلت بتربيته والدته علوية بن حسين بن أحمد الهادي الجفري. وفي سنة عام 1271 هـ، سافر معها إلى سيؤن، وفي طريقهما إليها عرجا على المسيلة لزيارة شيخ والده عبد الله بن حسين بن طاهر، صاحب أول حول في حضرموت، فقرأ عليه في (المختصر في الفقه الشافعي). وفي سيئون الشاب علي حرص على حضور جميع مجالس العلم والمذاكرات العلمية. وفي سنة 1276 هـ سافر إلى الحجاز بطلب من والده، ومكث هناك نحو عامين نهل خلالهما من مختلف العلوم والمعارف الفقهية والأدبية واللغوية. وحالما عاد إلى سيؤن شرع في تقديم الدروس في الفقه والنحو في مسجد حنبل. ثم بادر، في سنة 1295 هـ، إلى تشييد مسجد الرياض، وبجانبه رباط علمي استقبل فيه طلبة العلم من مختلف مدن وقرى حضرموت وخارجها.
 

وكان الحبيب علي أديبا متميّزا ترك لنا عددا من المؤلفات الأدبية التي طبعت ونالت شهرة واسعة، منها: (سمط الدرر مختصر في السيرة النبوية) الذي تتم قراءته في كثير من مساجد حضرموت، و(مجموع الوصايا والإجازات) الذي قمنا بنشر دراسة ضافية عنه، و(مجموع الأنفاس العلمية والدعوية)، وديوانه (الجوهر المكنون والسر المصون)، و(المكاتبات).
 

وتوفي الحبيب علي بن محمد الحبشي في مدينة سيئون في العشرين من ربيع الثاني سنة 1333 هـ، وشيدت في العام التالي على ضريحه قبة كبيرة تبرع بأرضيتها أحد آل بارجاء (مقابل دفنه داخل القبة)، الذي سارع بشرائها عندما عرف برغبة آل الحبشي في شرائها، وذلك من حيمد باسعيدة المقبور عند الجدار الغربي للقبة. 
 

وفي التاريخ نفسه، ومنذ سنة 1334 هـ يقام (حول) سنوي احتفاء بذكرى وفاة العلامة الحبيب علي الحبشي. وفي الحقيقة، تمتد طقوس حول الحبشي من العاشر إلى العشرين من الشهر. وفي البداية، تتم خلال الأيام العشر الأولى قراءة أجزاء من القرآن، والمذاكرة وقت صلاة العشاء التي تحضرها أعداد كبيرة من سكان سيؤن، رجالا ونساءً، صغارا وكبارا. وفي صباح اليوم الثامن عشر من الشهر ينظم احتفال كبير يسمى (التلبيسة) يتم فيه إلباس الضريح بكساء أخضر، وهي عادة صوفية تمارس في بعض الأقطار الإسلامية مثل أفغانستان. وفي فجر يوم العشرين ينفذ برنامج لا يختلف كثيرا عن برنامج حول ابن طاهر، فهو يبدأ بعد صلاة الفجر وينتهي نحو الساعة السابعة صباحا. ويتضمن البرنامج قراءة ما تيسر من القرآن الكريم، ومجموعة من الأذكار، وكلمات يلقيها بعض العلماء على رأسهم المنصب الحبشي بغرض التذكير بمناقب العلامة الحبيب علي بن محمد الحبشي، ثم تقرأ (الوهبة) ويختتم الحول بفاتحة طويلة. ومنذ نحو عشرين سنة يتم تنفيذ هذا البرنامج النهائي من بعد صلاة العصر من اليوم نفسه أي العشرين من ربيع الثاني الذي يصادف هذا العام يوم الخميس القادم.
ولا شك في أن المستوى العلمي والأدبي الرفيع الذي بلغه الحبيب علي بن محمد الحبشي قد ساعد على إعطاء مدينة سيؤن مكانة دينية وعلمية استطاعت سيؤن أن تنافس بها علميا مدينة تريم في مطلع القرن الرابع عشر الهجري. ومن المؤكد أن المكانة السياسية والتجارية لمدينة سيؤن التي أصبحت في تلك الفترة عاصمة آل كثير قد رفعت من الجانب التجاري المرافق لحول الحبشي الذي يمتد لفتر عشرة أيام. ومن المعلوم أن مدينة سيؤن باتت منذ البدايات الأولى للحول تشهد نشاطا تجاريا وثقافيا كبيرا طوال أيام الحول وذلك منذ أيام السلطنة الكثيرية. وفي فترة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لم يتم الحد من زيارة الحول ولا من النشاط التجاري والثقافي والفني –والرياضي- المرافق لها. وفي عقد السبعينيات من القرن العشرين قامت بعض الأندية والمستثمرين باستقدام فرق رياضية وفنانين –بل وراقصات وسيركات – للمشاركة في فعاليات موسم الحول. 

 

فمنذ الواضح أن الحول أصبح منذ تلك الفترة يشكل في سيؤن موسما تجاريا وثقافيا أكثر منه زيارة دينية. فإضافة إلى الطقوس الدينية للحول التي ذكرناها، وإلى استعدادات التجار وأصحاب الفنادق لزوار سيؤن، تقوم اليوم جهات عدة بالاستفادة من فترة الحول بإعداد برامج مختلفة. وإذا كان البرنامج الذي تعده إدارة رباط العلم الشريف التابع لآل الحبشي تحرص على المحافظة على الطابع الديني في برنامجها الذي يتضمن محاضرات ومسابقات ولقاءات ثقافية، فالبرنامج الذي تعده إدارة (حافة الحوطة بمدينة سيؤن) يركز على إقامة الألعاب الشعبية والزيارات الاجتماعية وتنظيم الزواجات الجماعية، و(مطلع المطالع) الذي يشارك فيه سنويا فرق شعبية من مختلف مدن حضرموت، ساحلها وواديها. ومن اللافت أن الفعاليات التي تنظمها هذه الجهة هذا العام تقام برعاية مباشرة من اللواء الركن فرج سالمين البحسني محافظ حضرموت وقائد المنطقة العسكرية الثانية. (انظر البرنامج). ومنذ بضعة سنوات دأبت (جمعية الاحقاف للسياحة والتراث) التي تأسست في يناير 2015م على تنظيم خيمة تراثية تعكس المورث الشعبي والعادات والتقاليد والحرف اليدوية المتنوعة المشهورة في وادي حضرموت.
 

وبفضل تضافر جهود تلك الجهات كلها من الطبيعي أن تصبح فترة حول الحبشي موسم جذب سياحي لمختلف الناس من حضرموت خارجها. وهو ما جعل حول الحبشي يزداد شهرة مقارنة بحول ابن طاهر الذي لم يعد تعرفه إلا قلة من الناس في الوادي.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً