السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
"أحذية ورمال".. نصوص تجرم الحرب - محمد الغربي عمران
الساعة 10:47 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

ثلاثة وسبعون نصاً جُمعت تحت عنوان "أحذية ورمال" للأديب مروان الشريفي. صادرة عن دار أروقة في القاهرة.
جاء الغلاف لافتاً.. بتلك اللوحة الغالب عليها اللون الأصفر اللهبي.. كثبان رملية توحي بأنها السنة لهب. يدرك القارئ بأنها دلالة هامة لمحتوى نصوص المجموعة.. إضافة إلى مفردتي العنوان "أحذية ورمال" التي ترمز إلى أن أمراء الحروب.. لا أثر لها بالمعنى الإيجابي في مسير الحياة الإنسانية .. وأن الرمال لا تحتفظ بأثار أحذية قبحهم.. رمزية وإيحاء يحمله باطن العنوان.. دال على قدرة اللغة على ايصال الفكرة بصورة أبعد وأعمق مما يجزم به البعض.

 

ما سطره الشريفي في نصوصه لم يعبر عن الحرب وما يعيشه المجتمع في اليمن من ويلاتها.. بل تجاوز في نصوصه إلى تلك الأوجاع والآلام لمعاناة الإنسانية ممن عشقوا سفك الدماء والتدمير والتسلط.
 

نصوص المجموعة في معظمها فارقة.. لكاتب متمكن من أدواته.. يرى من زوايا لا يستطيع إلا القلة النظر منها.. ليعبر بلغة مكثفة عن قضايا ومشاعر إنسانية غاية في الألم.. ويمكننا هنا إدراج بعض نصوصه .. الأول بعنوان مشهد " كلاب.. قطط.. نساء.. أطفال.. ورجال أيضاً.. الجميع جنبا إلى جنب.. يقتاتون من مقلبٍ واحدٍ طرف المدينة.
 

في أقصى المكان رجل يرتدي بدلة سوداء وربطة عنق أنيقة ممسكاً بلوحةٍ كتب عليها "نعم للتعايش"."
هذا النص الذي أُختتم بكلمتين "نعم للتعايش" وهما يمثلان إنارة لما يعنيه النص.. لما لهما من معنى فاضح.. بعيداً عن دلالات التعايش بين الأعراق والألوان والأديان.. لكنها هنا تُستخدم كمفارقة لمستوى الانحطاط الذي وصلت إليه مكانة الإنسان.. بتساويه بالحيوان.. وما يزيد من وهج المعنى أن يقف ذلك المتأنق.. ليُحمل المعنى سخرية بين مظهره أوضاع من تجمعوا حول النفايات .. قد يرمز لسياسي.. ونعلم بأن سياسيُنا يفكرون بعهر فاضح.. وأفضلهم من يفكر بعقلية رئيس عصابة أو قاطع طريق.

 

ونورد نصاً آخر بعنوان خطيب "يجول شوارع المدينة عارياً نصفه الاسفل, سألت عجوزا يشرب قهوته جواري... هل يدري بذلك؟
قال بعد أن فتح شدقيه ضاحكاً: لا أظن ذلك.. كان يقف خلف منبرِ الجمعة خطيب.. وذات يوم خرج أمامنا لأول مرة.. وكان عارياً"
العري رمز للتدليس والكذب.. وقد يدل على الحقيقة الفاضحة.. ولذلك لم يكن الخطيب صادقاً.. وهنا يرمز إلى المتأسلمين من يمتطون الدين مستغلين جهل العامة ليقودوا الجهلة من عامة الناس إلى مآربهم في التسلط والاستغلال.. بينما يظل الضحايا يرونهم أولياء صالحين.. ولا يشكون بأنهم ذئاب تدعي جموع المصلين وتراهم قطيع للذبح ليس إلا.

 

بين نصوص المجموعة نصوص عصية على الفهم.. ولإيماني بأن كل قارئ له قراءته الخاصة بكل نص.. مثل نصوص: طبقية و فقر .. وجريمة. ونص حكومة صـ "81" وغيرها.. قد يقرأها الكثيرون من زوايا مختلفة.. إذ أن النص المباشر السهل هو نص غير متقن.. وذلك العصي الذي يحتاج من المتلقي إلى بذل جهد لقراءة خاصة به.. هو النص متعدد القراءات نص باذخ الإتقان.
 

توزعت تيمات هذه النصوص بين: العنف.. الدجل.. الفقد.. الخيانة.. الفقر التشرد.. وإن ظلت الحرب هي العامل المشترك بين جميع النصوص.. كمحور وقضية عالجها الكاتب بشكل متنوع وثراء مدهش.
تلك الفضائع التي صورها الكاتب في مشاهد ولوحات ولقطات غاية في الدقة والتكثيف.. بدلالاتها وايحاءاتها المؤلمة.. وكأن للحرب ألف وجه ووجه.. أكثر من أوجه المكعب الستة.. وأكثر من أوجه موشور ضخم.. بل أن تلك النصوص صورت الحرب على شظايا متناثرة تعكس كل شظية قبح أمراء الحروب وبشاعاتهم.

 

سيدرك القارئ أن كل نص قد نشأ في بيته الداخلية على ثلاث مرتكزات: البداية.. عادة ما تمثل العتبة أو التمهيد.. لتضع القارئ بين الأمل والرجاء.. ليأتي المنتصف.. وفيه يرسم الكاتب قبح القتلة في أقصى درجات عنفهم.. ثم الخاتمة بمفارقة صادمة.. تحيل المشاعر إلى مجرد نواح أمام مشهد بتر.. قتل.. نسف.. فقد.. فرقة.. دك.. هدم.. ضياع.. بؤس.. حاجة... الخ ذلك من الفضائع التي يخلفها عنف الحروب بأدواتها الجهنمية.
 

ملمح آخر برع فيه الكاتب بشكل رائع.. إذ نجد العنوان مكمل للنص.. وبدونه يصعب فهم النص.. فأكثر نصوص المجموعة يستعصي فهمها إذا أقصينا قراءة العنوان.. وبالعودة إليه نجده ينير دلالات النص ويظهر معانيه.. وأتصور أن العنوان لو تم تغييره لضاع المعنى.. وظللنا الطريق عن الهدف الذي أراد الكاتب أن يصل المتلقي إليه.
 

جانب آخر يتعلق ببناء النص.. وأتصور أن الكاتب قد بذل جهدا في اختيار تلك المفردات.. وتركيب جمل كل نص.. لتأتي بذلك البناء المحكم.. فجل تلك المفردات تمثل مفاتيح لجلاء المعاني.. ولإظهار ما بطن من دلالات ورموز.. ولذلك فإن أصعب النصوص السردية هي الأقصر.. مع أن كثيرا من الكتاب يستسهلونها.. ليكتبوا ويكتبوا ظانين بأنهم بذلك في عداد المبدعين.. ونجدهم يكررون أنفسهم بسذاجة.. دون بذل جهد لتقديم الأفضل والجديد.. ولذلك نجد الكثيرين يكتبون دون اضافة أي جديد.. مستسهلين حجم النص.
 

الشريفي مع أول إصداراته.. تنبئ بميلاد مبدع سيكون له شأن.. فقط إذا جعل من القراءة اليومية مواعيد له.. وأن يجعلها جزء من حياته.. لها ساعاتها كالعمل والغذاء والنوم.. والأصحاب.. أن تكون بشكل متنوع من الرواية إلى الشعر وعلم الاجتماع والفكر والتاريخ. فلا كاتب متجدد بدون قراءة دائمة.

منقولة من مجلة أقلام عربية ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً