الاثنين 25 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
قصة قصيرة
نازحاً وطنيا - مسعد السالمي
الساعة 12:13 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الكل متعب ويشعر بالبرد عكس السكان المحليين المتذمرين من الاجواء الحارة التي ترهقهم أيام الخريف، في طرف المدرسة من بهو الملعب المعشوشب جوار اعمدة المرمى الصدئة، كان هناك رجل اسمر طويل ذو جسم رياضي، تغازل قدميه الكرة التي كادت ان تفقد لونها ومكانتها التي صنعت من أجلها، جراء الهجران والتسيب، يهتف إلى ابنه وابنتيه للمجيء، ليتشاركا معا مداعبة الكرة، التي اعادت أيضا إليها الحياة مجددا، من الطرف المقابل للساحة رجل آخر يباشر مسرعا بالمجيء إليهم صارخا بوجههم: 
ممنوع... ممنوع.... من سمح لكم بأخذ الكرة؟ انها حق المدرسة من أين أخذتها؟
يأخذها الاب في يديه متجها صوب الرجل الذي تبين لهم انه الحارس، متحدثا بابتسامة يملأها وجع لو وزع على أهل الأرض لكفاهم في البقاء ما بين الألم والحزن إلى ان تقوم الساعة، قائلا:
لا عليك اخذتها بأذن من المدير بوعد ان اعيدها لك وقتما تشاء، لدي ابنة تعشق الكرة كعشق ابيها ولهذا سنتدرب قليلا إلى ان يتم توزيعنا.. لا تقلق..
الحارس بلهجة استعلائية، غير مبالي بكل ما في المكان باستثناء الفضول في اطفاء أي بذرة نور تنبء بالفرح لأي كائن حي في هذا الكون:
تمام ... لكنني اعرفها منك إذا حدث لها شيء او سرقت..
ولماذا تسرق؟
نحن هنا كل شيء لا نعرف كيف يتبخر في الهواء على الرغم من كونه أمام اعيننا، كن حذرا..
وانصرف إلى حال سبيله لمتابعة مهامه التي وجدت فجأة دون سابق انذار، عاد صبري إلى ابنتيه (رهف و بسمة) وابنه (وجدي) غامزا بأحد عينيه:
استعدوا، مسددا رمية نحو المرمى الذي يحرسه وجدي وبقاء الفتاتين كفريق الخصم لأخذ الكرة منه، الضحكات تعلو رويدا رويدا وتلك الام تراقب شغف عائلتها من جوار سارية العلم متكورة بردا حول نفسها مع ما تبقى لهم من ممتلكات بسيطة، ينادى بصوت من أمام أحد الفصول المقرر كمكتب خاص بالمنظمة:
صبري صالح التهامي.. الاخ صبري.. صبري صالح التهامي...
يمرر الكرة صوب ابنته رهف ويتحرك باتجاه المكتب المؤقت وكان مدرب المنتخب دعاه لتبديله بلاعب آخر لأخذ مكانه لتغيير طارئ في خطة اللعب مع الخصم، قاطعا المسافة الفاصلة بخطوة رياضية مثالية ملتقطا انفاسه:
هل أنت صبري؟
نعم، (مبتسما) الكابتن صبري.
يعرض عليهم هويته الشخصية مدليا بكل المعلومات المراد تدوينها، يأخذ مخصصه من الفرش والبطانيات والمخاد وقليل من سبل التغذية الفورية المتواضعة، تاركا توقيعه الاستثنائي في مستند التوقيعات مقابل اسمه، يرف بيديه لفتاتيه وابنه للمجيء، يهرعون إليه اخذين مخصصهم باتجاه الساحة جوار السارية برفقة الكرة حيث الام، يضعون كل ما لديهم بهدوء إلى ان يحصلون على أحد الفصول حسب آلية توزيع افراد المنظمة كبيت جديد مؤقت، علهم من خلاله صنع حياة جديدة والتكيف مع هذا العالم العجيب إلى أجل غير مسمى.
تتحدث بسمة وفي يديها الكرة هيا نعود، مؤشرا بكفه: اذهبوا سأبقى مع امك لدينا بعض الحديث، مسنداً ظهره باتجاه السارية، رافعة كفيه خلف رأسه، وتارك المجال لنفَسٍ لا يعي كيف صعد بهذه العاصفة من الألم المدفون عمدا في رئتيه، لحظات وأنا اتقمص الفرصة المناسبة للحديث معه متعللا بممارسة دوري بتدوين المقترحات ورصد ما يحتاجونه، لتوفير وترتيب ما تبقى من تجهيزات لإيواء كافة الوافدين الجدد في هذا المركز، جرى الحديث كالعادة أثناء الجلوس مع أي وافد جديد قذفته رياح الحرب بعيدا عن مسكنه واحلامه عنوة، كان يتحدث مبعدا عيناه عمدا عني حتى لا اصطاد وجعُ ما يتجول بصمت وبحرقة في عينيه.
كنت لاعبا ومدربا في مدينة تعز، ومن تلك المدينة صقلت حلمي ليصبح واقعا، كرست جهدي لرفع اسم وطني عاليا بفخر، والحمد لله، كنت راضيا ومتحمسا للمزيد أيضا، بدأت حينها بتكوين اسرتي الصغيرة، و عشت أجمل أيام عمري، بنينا هذا الفريق من الأولاد الذين تراهم هناك أمام المرمى، لم نكن نحدد سقف لحلمنا أنا وزوجتي سحر في رسم طريق امن ومستقر لبيتنا الصغير، وكذلك زوجتي كانت تعمل في أحد المدارس الاهلية، نملك شقة في الحي الذي وقع في خط المواجهة، نصحونا بعض الاصدقاء للخروج من المدينة لفترة وهي قصيرة والعودة كالكثيرين من الناس، لقراءة تخيلية عمياء بان امد الحرب لن تطول، غادرت تعز ببعض ما نملك إلى منطقتي الام بالقرب من مدينة المخا؛ المدينة التي وصل صيتها العالم بما كانت تصدره من منتجات يمنية خالصة الهوى والهوية، استقريت كعامة الناس محاولا بكل قواي ان اكبح جماح شغفي وان اواكب الاحداث حتى تستقر الاوضاع لأعود مجددا كما كنت رقما وطنيا في كرة القدم، سافرت الكثير من البلدان عشت لحظات لا يسع الكون ان يحوي سعادتي بها في كل مشاركاتي وتمثيلي، ان حب الوطن ورفع اسمه عاليا يغلي في شراييني ليلا ونهارا، ولكن كان يجب عليا ان ابقى مع اسرتي في ذلك الوقت وربما لممارسة الحياة ببساطة في حارتي منطقتي الام وبين أهلي واقاربي واحبتي، جاهدت الصبر حتى ذهب الوطن بعيدا نحو القتلة وعدت كعامة الناس، واصبحنا فيه واسرتي كقشة تتقاذفها رياح الحرب من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى مدينة ومن مدرسة إلى مركز حتى وصل بنا الحال إلى هنا، هذه الساحة كما تشاهد الآن. ويتأوه وجعا لا آخر له.. عندها كنت بين شعورين غريبين، وعليا ان اصنع شعورا آخر، الشعور بالسوء كونني فتحت مجال الحديث عن الماسي التي مر بها وأسرته وغيرهم من مناطق الصراعات المتعددة، فجميعنا نتقاسم نفس الوجع، فقط تختلف درجات وكيفية الوجع من شخص إلى آخر، وشعور ثان كان يشدني الشغف عليِ اكتشف معاناة مختبئة خلف جدران المتعففين من الشكوى للبشر، وما يحدث لهم من شروخ تخلف دمارا نفسيا أكبر من كل ماديات العالم، وشعور آخر حتى يخرج كل ما في جعبته ليشعر ولو لوهله انه تخلص من آهات تسلبه مسببات الحياة، ابدو متحمسا لشعوري الأخير وما ذا بعد:
لقد خرجنا عنوة مرة أخرى من قريتي لدواعي الحرب والحفاظ على الارواح، وما سيكون عليه حال المنطقة في الأيام القادمة، كان عليا وعلى آخرين ان نأخذ الحيطة والحذر للبقاء على قيد الحياة، واخذ ما نستطيع متوجهين صوب المدارس ومراكز الايواء المحدد من قبل بعض المنظمات خارج المدينة، وعشنا هناك ما بين انتظار الحياة وانتظار الموت مجددا، وبين الآمال المعلقة لنعود إلى ديارنا لنحلم ونبني ما هدمته آلة الحرب القذرة، ما ذنبنا وذنب كل هؤلاء الذين تشاهدهم، كنا كثيرا جدا، افترشنا الساحات بلا مأوى ولا كهرباء ولا ماء ولا تغذية، لعلك لا تتخيل واقع تلك الأسر التي كانت لديها عجائز لا يقوون على الحركة بل مقعدين، وتراهم في حر الشمس بانتظار مندوبي المنظمات لصرف الخيام وبعض المواد الغذائية التي لا تكفي، أي حياة هذه تجعل الجميع ينتظر قوت يومه مقيد بمستندات يحتم صاحبه ان يضع بصمته انه استلم ما يسد به رمقه، وهو في العراء مع أسرته كفريسة سهلة لحر الشمس الملتهبة، و لكافة الاوبئة، حينها من يوم إلى آخر نشاهد غالبية المنظمات المحلية والخارجية تستثمر ادميتنا مستغلة كل الآمنا واوجاعنا بصورة بشعة، لتنقله بهيئة صورة مزورة مطبوعة بابتسامة محسنة، ومشبوهة، ليخبروا العالم اننا نعيش الحياة بأريحية وسعداء كثيرا بما قدم لنا، وعلى ذلك تتناقل الخبر كافة محطات العالم لاستثمار المزيد من الارصدة والسيارات الفارهة، ها أنا هنا وأخرين ممن دفعوا ضريبة الصراعات في جميع مناطق وطني، لا نريد كل ما تنفقه مؤسسات العالم من أجل نقل صورة لي أو لزوجتي أو لطفلي أو لشخص ما هنا أو هناك يتضور حياة مستقرة بابتسامة كاذبة، نريد ان تقف هذه الحرب ولتقف معه كل هذا الكم من الاستثمارات والمساعدات، والاكاذيب، نريد وطنا امنا مستقرا، أريد ملعبا وكرة ومجموعة من الفتيان لنصيغ حياة جديدة لرفع اسم وطننا عاليا بدلا من ان ترفع اسمائنا مقابل اسم وطننا تحت فئة نازحين وطنيين، فنتقبل هذا الامر ببلادة، لنعيش الحياة رغم انوفنا تحت هذا الاسم الذي اصبح للأسف كلعنة كونية حلت علينا، أي حماقة ان نكرس ثقافة النزوح وان نكيف انفسنا لمعايشتها كواقع محتوم ونكتبها في كراساتنا وكتبنا لننقلها للأجيال القادمة... يصمت لوهلة، تنبعث تأوهات لا اراديا كحالة ضعف انتابته مبعدا وجهه متأملا فضاء هذ المكان، ملتفتا إلى زوجته لتذهب مع أولادهما، الذين التف حولهم بعض الشباب للعب والمرح لكسر رتابة الانتظار حتى توزيعهم في فصول المدرسة..
الشمس تتدحرج نحو المغيب، والجميع لا يزال في ساحت المدرسة وتلك اللجان بأفرادها يملؤون المكان ذهابا وايابا.. يعود إليا معتذرا، ولم ابدي تذمري مستمتعا منصتا للحديث معه، يواصل حديثه قائلا:
حينها وردت اخبار بان نرحل مجددا من ذلك المركز إلى مدينة الحديدة وان هناك سيكون الحال افضل مما كنا عليه حينها، كان علينا ان نتخلص من بعض ممتلكاتنا ونذهب كالجميع، منكسرين لسبب عدم عودتنا ديارنا، واطالة جولات الحرب أيضا هناك، واستمر الحال عامين ونصف لم ابقى في تلك الاماكن المخصصة للإيواء لعدم ايماني بهذه الحياة القابعة تحت مسمى نازح، بحثت عن عمل بسيط، عن طريق بعض الاصدقاء حصلت على منزل متواضع في اطراف المدينة باتجاه رياح دياري المخا (مبتسما)، وعشت اللملم حلمي وشتات ذاتي لأبدا حياة جديدة، عليِ أغرس ألف حلم وألف وردة من جديد في ارواح هؤلاء (مؤشرا بسبابته الى الملعب)، وفعلا انتقلت من عمل إلى آخر خلال الفترة نفسها، حتى استقرت بي الحياة مجددا بعيدا عن عالم الكرة التي تناساها الكثيرون للوضع المعيشي المفروض علينا عنوة، تاركين الفضاء للقتلة للتجول وليصبحوا ابطالا وطنيين في سفك أحلام و دماء هذا الشعب، حقا صنعوا وبنوا تاريخا يليق ببشاعتهم، بقينا نتحسس الحياة حتى الشهر الثامن من السنة الثالثة تحديدا إلى ان وصلت رياح الحرب مجددا تهز تلك الأحلام التي سعينا لترميمها أكثر من سعينا للبقاء احياء في ظل هذا الواقع، دوت أصوات الانفجارات والقذائف بالقرب وبشراسة حتى سقط جارنا وزوجته ضحية هذا العبث، وكانت هذه الحادثة عربون مغادرتنا للمنزل بعد ان سئمنا الخروج والترحال، غادرنا للجهة الأخرى من المدينة عند أحد الاصدقاء، تطورت الاحداث والتأجيج، وتوقفت على اثرها الحياة، وكالمعتاد تركنا الكثير من ما لدينا واخذنا القليل متنقلين من صديق إلى صديق حتى ضاقت الدنيا، لنجد انفسنا فجأة في قارعة الطريق، ننتقل من مركبة إلى أخرى حتى استقر بنا القدر هنا، لا نعلم أي حياة قد تكتب مجددا، وأي مستقبل كيف سيتم دفع ضريبته، دمرت كل أحلامنا، مللنا الرحيل، نريد ان ننتصر على هذه الحرب و نلحق اماكن سعيرها نحن لنطردها خارج اسوار الحياة كما تفعل هي بنا، أول ما دخلت هذا المكان لم يثير اهتمامي سوى تلك الكرة المنسية، علها تنسينا واقعنا الذي اختصر لنا الوطن بهذه المساحة الصغيرة تحت هذه السارية التي لم تعد تحمل حتى العلم الوطني، لكنه باق يرفرف في قلوبنا مهما طالت مشاريع القتلة، ولا يزال الأمل بالوطن المنشود يشتعل في اوردتي وهو شريان الحياة بالنسبة لي، تبا للحرب وللقتلة الوطنيين ويحيى اليمن.


صنعاء/ 8 يوليو2018م

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص