السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
دعوة لجمع الحكاية الشعبية الجنوبية وتوثيقها - عبد الحكيم باقيس
الساعة 11:29 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 
 

اليمن بلدٌ غنيٌ بمورثاته الثقافية المتعددة بتعدد بيئاته وجغرافيته، ومن مظاهر التعدد والغنى ما يتصل بالموروث الشعبي اليمني، الذي يشكل مادة ثرية لم تزل تتعرض حتى يومنا هذا إلى الإهمال بسبب الجهل بأهميتها في ذاكرتنا الوطنية، وبسبب الانشغالات السياسية والاجتماعية وظروف الحياة التي تعصف بكافة جهود التمنية الثقافية، بالإضافة إلى أن الاهتمام بالموروثات الثقافية والفولكلورية وحمايتها من الضياع لم تكن يومًا في سلم أولويات الجهات الرسمية أو السلطات المنشغلة بصراعاتها السياسية منذ أكثر من نصف قرن، وإلى يومنا هذا، وباحتساب أهمية تأثيرات عوامل الزمن، فقد سقط الكثير من ذاكرة الموروث، وتعرض بعض ما بقي منه للسطو من قبل قراصنة الموروثات الشعبية، ممن حاولوا استزراعه في تربة بلدانهم المغايرة.
وتشكل الحكاية الشعبية اليمنية أحد أهم مكونات المخزون الفولكلوري، وكيف لا واليمن عبر مراحل تاريخها البعيد منجم للملاحم والأساطير والمرويات التاريخية والشعبية، والمخيال الشعبي الخصيب في تحويل الحكمة والتجارب الحياتية، وشؤون التعاطي مع الطبيعة إلى مادة حكائية مروية تتناقلها الأجيال، ولكن عند النظر إلى المجموع من الحكايات الشعبية، وما تم توثيقه منها في السنوات الماضية قليل جدًا، قياسًا بغنى موروثنا الحكائي ووفرته، ولعل السبب في ذلك يعود عدم التبكير في جمعها وتوثيقها، قبل أن تتدخل العوامل المؤثرة في تغيير أنماط الحياة الحديثة التي لا تتيح للموروثات الشفاهية، ومن بينها الحكاية الشعبية، ديمومة الاستمرار والتلقي، فأصبح ما بقي منها محاصر في ذاكرة كبار السن وحدهم، ممن يمثلون اليوم حالة استثنائية خارج سياق تأثيرات الحياة العصرية ووسائلها التواصلية الحديثة التي اجتاحت كل شُعب وواد وقمة جبل، وزاحمت وأزاحت الكثير مما تحتفظ به الذاكرة من موروثات شفوية، وحالت دون قصد عن أساليب تبادل المعرفة الشعبية التي تعتمد على التواصل أو التلقي الشفاهي المباشر، ومع كل يوم جديد، وفي ظل المؤثرات التقنية الحديثة يوشك جزء كبير مما بقي من موروثات شفاهية أن يندثر، ما لم تتداركه يد العناية التي تعي أهميته ووظيفته في تاريخ الشعوب، وأكاد أجزم أن ما يمكن جمعه اليوم ربما لا يزيد عن معشار ما كان يمكن جمعه وتوثيقه قبل نصف قرن، فهل يمكن أن يُبادر الآن إلى جمع هذا المعشار قبل اندثاره هو كذلك!.
اليمن عبر مراحل تاريخها البعيد منجم للملاحم والأساطير والمرويات التاريخية والشعبية
تجدر الإشارة في هذا السياق إلى ثلاثة جهود مهمة في جمع بعض الحكايات الشعبية، وهي نتاج مبادرات فردية لأصحابها، الأول: كتاب (حكايات وأساطير يمنية) لعلي محمد عبده، في عام 1977، جمع فيه خمسة عشرة حكاية شعبية، والثاني: كتاب (الحكايات الشعبية) لمحمد أحمد شهاب، في عام 1980، وجمع فيه نحو ثلاثة وثلاثين حكاية شعبية يمنية، والثالث: كتاب (قراءة في السردية الشعبية اليمنية + 70 حكاية شعبية) لأروى عبده عثمان، في 2005.
هذه الجهود غير المنكورة سعت إلى توثيق المادة الحكائية الشعبية، ولكن بالنظر إلى المعيارين الكمي والنوعي، نجدها اشتملت على عدد محدود من الحكايات الشعبية، بالإضافة إلى تكرار بعض الحكايات مع اختلاف بسيط في أساليب روايتها، وبالانطلاق من خصوصية البيئة المحلية اليمنية المتعددة، والمتنوعة في الآن نفسه، فقد جاءت الحكايات نتاج جمع جزئي في إطار بعض البيئات المحلية في شمال اليمن (منطقة اليمن الأوسط) فيما غابت الحكايات الشعبية التي تنتمي لبيئات يمنية أخرى، ما يجعل الاهتمام بالحكاية الشعبية الجنوبية ضرورة ملحة، من حيث جمعها وتوثيقها ودراستها، لاسيما في كل من عدن ولحج وأبين (مع التأكيد على عنصر التداخل بالنسبة لمدينة عدن)، وفي البيئة البدوية الصحراوية في كل من شبوة وحضرموت والمهرة، بالإضافة إلى سقطرى، فهذه بيئات تتميز بالغنى، وتشكل مجالاً خصبًا لدراسة موروثاتها الشعبية والفولكلورية، وهنا أود أن أشير إلى عمل بحثي متميز في جمع الحكاية الشعبية السقطرية وتوثيقها ودراستها يقوم به أحد الباحثين من أبناء سقطرى تحت إشرافي، في أحد برامج الماجستير، في جامعة عدن.
الاهتمام بجمع الموروثات الشفاهية والحكائية وفق معايير علمية ضرورة أساسية في ظل تحولات الواقع التي تهددها بالتلاشي والضياع
إن الاهتمام بجمع الموروثات الشفاهية والحكائية وفق معايير علمية ضرورة أساسية في ظل تحولات الواقع التي تهددها بالتلاشي والضياع، وهي مهمة المؤسسات الحكومية والأهلية على حد سواء، وحري بالجامعات ومراكز البحوث أن تجعل حماية الموروثات الثقافية ضمن برامجها الأساسية، وأن تتضافر الجهود من أجل توفير التمويل اللازم لمشروعات حماية الموروثات الشفاهية، بوصف ذلك عملاً وطنيًا يندرج في إطار حماية الهوية الوطنية، ولا يقل أهمية عمّا يحتل مكانة متقدمة في سلم الأولويات، ولا يتناقض مطلقًا مع استحقاقات الواقع ومتطلباته الكبرى في ظل هذه اللحظة الحرجة من تاريخنا الحديث، وهنا لا يمكن أن أخفي رغبة أكيدة في القيام بعمل جمع المادة الحكائية الشعبية الجنوبية وتوثيقها في إطار أحد برامج مركز الظفاري للبحوث والدراسات اليمنية، في جامعة عدن، من خلال إعداد فريق بحثي يتم تأهيله للنزول الميداني وتسجيل المرويات الشفاهية في مختلف مناطق جنوب اليمن، متى ما توفر الحد الأدنى من تمويل إنجاز هذا المشروع، فلم يعد في الوقت متسع من ترف الانتظار أو التأجيل قبل أن يتم استنقاذ ما يمكن استنقاذه من موروثاتنا الشعبية التي تتعرض للاندثار.

منقولة من العربي...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً