السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
لكل عقل موهبة - طارق السكري
الساعة 13:00 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الحلقة الثانية

ولأهمية الأدب ومكانته يقول طودروف في كتابه الأدب في خطر: والأدب فكر ومعرفة للعالَم النفسي والاجتماعي الذي نسكنه ، والواقع الذي يطمح إليه الأدب هو التجربة الإنسانية ... فالأدب يجعلنا نحيا تجارب فريدة أما الفلسفة فتعالج المفاهيم . الأدب يصون ثراء المعيش وتنوعه ، والفلسفة تفضل التجريد الذي يتيح لها صياغة قوانين عامة . وتحت عنوان : ماذا يستطيع الأدب ؟ يروي الكاتب نفسه عن جون ستيورات - الممثل والكاتب والمذيع الأمريكي المشهور - أنه أصيب بانهيار عصبي فقد معه الإحساس بطعم الحياة وهو لا يزال في العشرين من عمره واستمر به الحال من التدهور حتى عثر على ديوان شعر للوردسورث ، لقد وجد فيه الملاذ والمنقذ ، لقد وجد فيه التعبير عن إحساساته الخاصة وقد تسامى بها جمال الأبيات " بدت لي منبعا منه أستقي الفرح الباطني ، ومتع التعاطف والخيال ، التي بمقدور كل الكائنات البشرية اقتسامها ، كنت في حاجة إلى من يجعلني أحس أنه يوجد في التأمل الهادئ لأشكال الجمال في الطبيعة سعادة حقيقية ودائمة . ثم يقول المؤلف تعليقا على القصة " لم أعش عذابات الانهيار العصبي لكني لا أستطيع الاستغناء عن كلمات الشعراء ، وحكايا الروائيين "

وكثيرا ما تبرز الموهبة والميل إلى الشعر والكتابة منذ الصغر ، كما حصل مع شاعر المعلقة لبيد : مهلاً أبيْتَ اللعنَ لا تأكل معهْ . وقصتها معروفة ، وكما تجلت موهبة المتنبي في صباه أيضا وفي ديوانه الكثير من أشعار الصبا ، وكذلك موهبة الموسيقي العالمي ياني ، وكما تجلت موهبة الغناء لدى صوت الأرض طلال مداح رحمه الله ، والكثير مما لا يخفى بالتجربة . وكما في قصة الروائية الإنجليزية المشهورة أجاثا كريستي والتي تعد أشهر مؤلفة روايات الجرائم في التاريخ ، إذ قالت ذات مرة في إحدى رواياتها : كنت في الصف السادس الابتدائي أكتب قصصا قصيرة، أقضي بها على الفراغ ، وكنت أعرضها على أمي ، وكانت أمي تمتاز بقدر كبير من الجمال ، فكانت تبتسم وتقول : أنت رائعة وما تكتبينه رائع لأنك ابنة أمٍّ جميلة .

وأنا قول هذا أيضا شفقة على أولائك الذين يزاولون مهنة الكتابة وهم يفتقرون إلى الموهبة الحقيقية التي تمكنهم من إشعال جذوة الكلمات ونفخ الروح فيها وإكسابها القدرة على مجاوزة الحدود والسفر إلى البعيد . يقول شوبنهاور في كتاب فن الأدب عن أمثال أولائك الكتَّاب : والقارئ الحريص على وقته ، حري بأن يلقي أمثال تلك الكتب جانباً ، لحظة أن تتكشف له حقيقتها .

ومن المؤكد أن يطرح هذا السؤال التقليدي : هل بالإمكان الاستغناء عن الموهبة ؟

والحقيقة أنه بالإمكان تعلم أي فن له قواعد وكتب وشواهد ، لكنه يظل علما بلا نور ! ولأضرب مثالاً على ذلك : فلنفترض أن أحدهم يحب الغناء ولكن ليس له صوت جميل ، وقلنا له ادخل معهدا للموسيقى وتدرب كثيرا على الآلات الموسيقية ، واحفظ المقامات والموشحات ، هل بذلك سيحصل على صوت جميل ؟ بالطبع لا . وكذلك كل فن له قواعده وكتبه وتراثه ، يستطيع هذا الفن أن يمد صاحبه بالخبرة والثقافة الموسيقية ، ولكنه لا يستطيع أن يمنحه الروح . فيكون الذي يقصد كتابة الشعر أو الرواية بعد كل ذلك كأشجار الزينة الصناعية ، تبرق في العين ، ولكن سرعان لاتنطفئ .

الكتابة حالة تتلبس الكاتب ، فينفصل بها وجدانيا عن المكان ، ويتحد كلياً بما وراء المادة ، ويحلق في سماء غير السماء ، ويمشي على أرض على الأرض ، ويتكلم ويلوّح بيديه كالمجنون ، وتقوم شخوص الأشياء والكائنات إليه ، ماثلة بين يديه ، كأنه مشعبذ يستحضر الأرواح . تماما كالحالة التي كانت تتلبّس الفرزدق عندما كان يجيش صدره بالشعر فتمتلأ بها روحه فيشعر بالضيق من البيت ، فيأخذ راحلته ويجوب بها في الصحراء ، فينهال عليه الشعر . وروي عن الشاعر بشار أنه كان إذا أراد أن يقول الشعر صفق بيديه ونفخ وبصق ، وكشاعر المعلقة الحارث بن حلِّزة الذي ارتجل معلقته الطويلة في مجلس الملك الجبار عمرو بن هند ، وقد أخذته الحمية على قبيلته فأنشد مدافعا عنها ومفتخرا بها ، وهو متكئ على قوسه لا يشعر بها من شدة الغضب :

آذَنتَنا بِبَينِها أسماءُ.. رُبَّ ثاوٍ، يُمَلٌّ مِنهُ الثَّواءُ

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً