السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ذوات ينسردن حكايا في «زرقاء عدن» - د. عبدالحكيم باقيس
الساعة 14:58 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


هي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة الإعلامية لارا الضراسي، والفائزة بجائزة القصة القصيرة في أبوظبي، وقد صدرت في زمن عدن الاستثنائي، زمن الحرب والرماد، في 2016، تلج من خلالها الكاتبة عالم القصة القصيرة وتلفت الأنظار إليها بوصفها كاتبة قصة استطاعت تجاوز مآخذ البدايات والإعلان عن رؤية سردية آخذة في التطور والاستمرار، تنطلق من وعي بفن القص واشتراطاته الأساسية ووظيفته، وتخوض لذة المغامرة والانتقال من فضاء الإعلام إلى عالم الأدب والتخييل الذي يعيد صياغة الواقع وأسئلته من زوايا جديدة، والانتقال من بوابة الصحافة إلى الأدب هو انتقال في الاتجاهين للمتابع تفاصيل المشهد السردي في اليمن في السنوات الأخيرة، ولج فيه عدد من الصحافيين والإعلاميين مجالي كتابة الرواية والقصة، وأنتجوا نصوصًا حافلة بالدهشة والجمال، بما يمتلكه الصحافي من حساسية المتابعة وسرعة التقاط مشاهد الواقع، وتحويلها إلى مادة أدبية، وبفضل ما يتيحه عالم التخييل نفسه من قدرة عميقة على ملامسة الكثير من قضايا الواقع وأوجاعه من منظورات متعددة، فضلاً عن العلاقة الوشيجة بين الأدب والصحافة منذ البدايات الأولى للصحافة التي تشكلت في أدبنا العربي في مهاد من الأولى.
في لغة سردية تجنح إلى اقتناص الدلالات من المفردات والجمل ذات الحمولات المجازية، والإيحاء والتصوير وتشعير السرد، والتهجين اللغوي الذي يتيح إخصاب السرد بمستويات من اللغة المحكية الاجتماعية وإبراز التعدد الصوتي، بالإضافة إلى توظيف عناصر من الموروثات الشعبية التي تنطوي على خرافة وغرائبية، استطاعت الكاتبة تناول لوحات سردية خصبة، تعتمد على ثيمات أساسية تتصل بقضايا اجتماعية وإنسانية غائرة في الواقع المحلي، وتقديم نماذج متعددة لذوات إنسانية محاطة بالأوجاع ومآسي الواقع: الخطيئة، الثأر، الحرب، الاغتراب، النفي، الفشل، الفقر، الظلم، الموروث، الاغتصاب، المرض، القهر، الإغواء، الفقد، والجنون، وغير هذه من الموضوعات التي قد تبدو كثيرة التناول في الخطابات القصصية المتصلة بشؤون المجتمع، لكنها تأتي في هذه المجموعة من وجهة نظر خطاب قصصي نسوي ينحاز إلى أوجاع الفئة الأكثر قهرًا واستلابًا، نسوة راشدات وطفلات راويات ومرويات، وإلى فكرة الأنوثة في تخيره لذوات نسوية مستلبة، يعشن في هامش الواقع، لكنهن يأخذن موقع بطولة السرد في قصص المجموعة: طفلات صغيرات، فتيات، سيدات أرامل وعوانس، وزوجات صغيرات مقهورات، تتشكل منهن شخصيات القصص، يخضن صراعًا في مواجهة الحياة ومشاكسة قيم المجمتع السلبية، وينتهي بأكثرهن المطاف إلى نهايات مأساوية، في إشارة دالة إلى جماعية الواقع المأساوي. وعلى الرغم من ذلك فهن نساء مختلفات عمن حولهن، ويدافعن عن ذواتهن واختلافهن، وتحاول المجموعة القصصية إبراز فكرة اختلافهن؛ وتلجأ إلى ترميزه، في عدة مستوياته:
ـ الاختلاف في الشكل والملامح، مثل قصة (زرقاء عدن) التي تحمل المجموعة اسمها، وهي فتاة تلد حاملة لملامح أجنبية: عيون زرقاء وشعر أشقر وبشرة بيضاء، وجميعها ملامح مغايرة لملامح أهل المدينة، ما جعلها موضوع استغراب الأهالي الذين أطلقوا عليها اسم (الخواجة)، ونظروا إليها في البداية وكأنها ابنة زنا، لكن السرد يكشف عن براءة من هذا الاتهام، أما اختلافها الأبرز فهو مقدرتها الفائقة على الرؤية في أحلك الظلمات، وتصبح سببًا في مساعدة أهل الحي، لكن فتنة الاختلاف سرعان يسدل عليها ستار من موت، تموت بعد أن تنقذ أباها من التائه في ظلمات اليم من الغرق، ومن اللافت أن ترميزها في القصة قد ارتبط بالحي النفطي الذي تسكنه في عدن، حي (البريقة) الذي تشكل في أطراف مدينة عدن أيام الإنجليز، فهل كانت زرقاء عدن استعارة للحظة المدينية المجهضة في جنوب اليمن؟!، ينفتح مثل هذا الترميز على العديد من الدلالات، وواضح كذلك استدعاء قصة زرقاء اليمامة ودلالتها على النجاة الغائبة في الموروث السردي العربي القديم. وفي قصة (انتظار ظل)، والظل هو الزوج في مورث طلب الأنثى للزواج، يطلق على فتاة أخرى اسم (الذئبة) لأنها شربت حليب الذئاب وهي طفلة، بعد أن جرفها السيل من قريتها إلى الوادي الذي تسكنه الذئاب، وبسبب هذا يراها الناس نصف ذئبة، ويخشى الرجال الزواج ويتحاشوا الاقتراب منها أو مناقشتها، وحليب الذئاب هنا ترميز لصفات القوة والذكاء التي تحملها هذه الفتاة منذ طفولتها، وهي صفات لا تناسب المرأة في المعتقد الشعبي الذي يسعى لاستلابها واستسلامها المطلق للرجل. وابنة حباش في قصة (ابنة حباش) ولدت في قرية يعتقد أهلها باغتصاب الجن للنساء، جاءت بعينين ملونتين مختلفتين، وكانت القرية تقول أن الجني (حباش) عشق الأم، وأحضر زرقة ماء عدن وسكبها في إحدى عيني الطفلة، والأخرى تركها تتلون بلون الجبل، وهكذا جاءت الطفلة مختلفة عن بقية أطفال القرية، لكن اختلافها في أنها كثيرة الحلم بمغادرة القرية إلى المدينة عدن، وبعد سنوات يقرر أبوها الذي ظل معتقدًا أنها ابنة جني قتلها واقتلاع عينيها، ويضع حدًا لاختلافها قبل أن ترى عدن والمدرسة التي كانت تحلم بهما، وواضح أن هذه القصة حافلة بالترميز. 
ـ اختلاف الموقف الغرابة والسلوك: مثل زبيدة في قصة (لعنة) المرأة الأرملة التي تذود عن الطفولة في زمن الحرب وتنقذ الطفل (مختار) من عشق البنادق وآلة الموت، وأم سالم في قصة (الدحباشي) التي تواجه شراهة الحرب والانتقام بالتسامح والسلام، والأنوثة في القصتين تمثيل لقيم الحياة والتسامح، في مقابل قيم الثأر والحرب التي تلمح إليها قصص المجموعة بوصفها تنتمي إلى عالم الذكورة، وفي قصة (وإن فعل) تأتي صورة الأم الأرملة التي تؤدي معنى مغايرًا للشجاعة، ترمز إلى بطولة الناس العاديين في حياتهم اليومية، ممن لم تنجب بطولتهم الأساطير أو الملاحم، تفني هذه المرأة حياتها في غسل الملابس من أجل إعالة أسرتها، وتواجه الحياة بصبر وثبات حتى لحظة الموت الأخيرة، مثل جندي يسقط معركة بطولية.
مستويات متعددة من الاختلاف والمفارقة في سلوك الشخصيات وملامحها تنطوي عليها قصص المجموعة، مما لا يتسع لها المقام، مثل: ناهد في قصة (ملاريا) التي تقع ضحية اللذة، المرأة الغامضة المختلفة عن أهل المدينة في قصة (تاكسي عدن)، السيدة العشيقة في قصة (جوع)، والفتاة السجينة في قصة (فقط)، والاختلاف في مصير الشخصية من الصخب وبذخ الحياة إلى العجز والسكون والموات في قصة (من يسامح حبات اللؤلؤ)، والاختلاف في ممارسة معنى الأمومة والجنون في قصة ( زنزانة).
عدن المدينة بمختلف أحيائها وصفاتها هي الفضاء الحميمي الحاضر بقوة في بنية السرد، والذي تشد إليه الذوات وقصصهن بصورة مباشرة عند ذكر الأمكنة، أو بصورة إيحائية تستدعي روح المكان وعلاقاته: الانتماء، المعايشة، العودة، الحرب، التوق، الحلم، والمعاناة، وكل شيء يفضي إليها، تغدو رمزًا كليًا في بنية السرد ومصائر الشخصيات، منذ مكوثها في بنية العنوان. ولعل للحظة الكتابة والنشر 2016) دلالة خاصة، وأخرى مضاعفة في انفتاح زمن تلقي مروي المدينة في لحظاتها الاستثنائية المتوالية على المزيد من اكتناز السرد والدلالة.

منقولة من العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً