السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
بكارة التجريب في مجموعة احتراق جسدين.. للمغربي عماد الورداني - محمد الغربي عمران
الساعة 11:18 (الرأي برس - أدب وثقافة)



كتبت قراءتي لهذه المجموعة بعنوان مختلف عما وضعه الكاتب على غلافه الخارجي "مصحة النسيان" بعد أن استعرت ذلك العنوان من جملة بأحد نصوصه.. 
صدرت هذه المجموعة بداية العام 2018 عن دار فاصلة بطنجة.. مجموعة أحسبها ضمن تيار من الكتاب يجتهدون في كتابة القصة الجديدة.. تلك التي تحاول أبتكار أشكال وأساليب مختلفة.
أسلوب عماد الورداني.. يماثل أسلوب القاص أنيس الرافعي الذي ما فتئ يجرب في إخراج نصوص قصصية مغايرة لما يختطه غيره.. مقدما في اصداراته القصصية مغايرة لافتة.. فلم يكتفِ بإختلافه عن غيره.. بل متجاوزا إلى اختلافه عن ذاته إصداراً بتجريب أفاق جديدة لقص أكثر ادهاشاً.
في مجموعة الورداني يختفي الزمن وقد ترك الكاتب للقارء البحث عن أزمنة تلك النصوص.. من خلال بعض الإشارات والتلميحات وحالات شخصياته المتنوعة.. كما أنه جعل من المكان لعبة هي أقرب لأن تكون لعبة الاستشعار بين الكاتب والقارئ.. أو أن على القارئ البحث عن أمكنة متخيلة يمكنه أن يشارك في ابتكارها.. وقد ركز الكاتب على عدة عناصر أخرى في بناء نصوصه أبرزها ذلك الحوار الداخلي لشخصياته وتلك التساؤلات المتتالية من نص إلى آخر تساؤلات وجودية.. يخف فيها سرد الأحداث وتتسع مساحة الوصف المتكئ على البوح المتواصل.
الورداني في مصحة النسيان.. يستخدم في سرد نصوصه.. السارد العليم والسارد المشارك.. وهو في الحالتين ينسج نصوصه بلغة باذخة أظهر من خلالها سعة اطلاعه ومعارفه.. تتمحور قلة الأحداث حول تلك العلاقة الجدلية بالوجود.. تتفرع إلى تيمات الموت المتكرر في نصوص المجموعة. نصوص يجمعها محور الموت وتتنوع تيماتها من نص إلى آخر.. تلك التقنية تمكن القارئ من قراءة كل نص كنص قائم بذاته.. في الوقت الذي يمثل كل نص تتمة لما سبقه.. لتتحول تلك النصوص إلى مشاهد لعمل واحد أو لوحات متجاورة لعمل أكبر.
وقد مثل حضور الجسد سمة لافتة في معظم النصوص.. بداية بعنوان المجموعة "احتراق جسدين" مرورا بعناوين النصوص.. ونهاية بتلك المفردات التي أثثت نسيج نصوص المجموعة.. ونذكر هنا بعض العناوين: احتراق جسدين.. جسد برأسين.. شبح جسد غريب.. كائن لسانه مشقوق.. جسد يتلاشى.. أنف القديسة.. أجساد مستعارة.. جسد بثلاثة طوابق وظلال مجهولة.. أوراق الجثة...الخ
ولم يأتِ حضور الجسد من فراغ.. إذ مثل الجسد باباً تلج منه الأرواح لفضاء المجموعة.. وباباً تغادره.. ومن خلال الجسد نجد تلك العلاقة الجدلية لحيوات تثير في القارئ الطفو في أفق مليء بالتساؤلات.. إذ أن العلاقة بين الذكر والأنثى مثلت أبرز المواضيع التي يمكن أن تشترك فيها معظم النصوص.... تلك العلاقة الوجودية التي وظفها الكاتب ليشترك القارئ بالتفكير وملئ فجوات متروكة حول العلاقة بين الذكر والأنثى.
سمة أخرى برزت في هذه المجموعة.. تمثلت في شخصيات بملامح وطبائع وقدرات غرائبية.. بل ومحيرة.. وقد أستخدم الكاتب تقنيات السريالية تارة والرمزية تارة أخرى من فن التشكيل.. ليصل بالمتلقي إلى ما يريد قوله. فإحدى الشخصيات يصفها برأسين.. وتلك بلسان مشقوق وقد أندلق اللسان وكأن الكائن ثعبان بجسد إنسان.. وأخرى بفم يتسع ليلتهم أنفه.. وأجزاء من الوجه.. ورابعة تأتي إلى الحياة مشوهة.. وطبيب يمتلك ملكات تحديد يوم موت مريضه.. لكنه ينسى تحديد يوم موته.. ليموت قبله.. وشخصية تستعير أجساد غيرها. هي شخصيات غرائبية تثير الخيال إلى مدار أكثر إدهاشاً.. في الوقت الذي يجد القارئ نفسه قد قابل بعضها أو أنها جزء من مفردات حياته.
أتسمت نهايات نصوص المجموعة بالنهايات المفتوحة.. فلا هي بالسعيدة ولا بالتعيسة.. وكأن الكاتب أراد أن تكون مفتوحة على بعضها.. ليجد القارئ متعة في متابعة القراءة بما يشبه سباق التتابع في المسافات الطويلة.. في شكل متوالية قصصية.. بنكهة ولغة روائية ممتعة.. لتمثل كائن فني يجمع بين "النوفيلا" والقص الموشى بفن الوجد.. إضافة إلى لغة محلقة في فضاءات البوح الداخلي للكائن.
وإذا كان الزمكان قد تماهى.. فأن أسماء الشخصيات هي الأخرى قد اختفت إلا ما ندر.. معتمدا على وصفها الغرائبي ليتعرف عليها القارئ من خلال ملامحها العجائبية.. وبوح لذة حيواتها وآلامها بين نص وآخر. 
المجموعة تحمل الكثير من الدلائل.. وما يمكن استنباطه وقراءته لإشارات تبوح بمكنوناتها.. ومن الجميل أن تأتي هذه المجموعة من المغرب الذي يشهد حراكاً إبداعياً لافتاً.. وهو المشهد المتنوع في فنونه وتعدد أنشطته الإبداعية.. في الوقت الذي تراجعت العديد من المشاهد الإبداعية العربية لترتفع أصوات بعض النقاد بموت بعض الأجناس الأدبية وازدهار بعضها.. وهم بذلك يشيرون إلى ما حولهم من ضمور وتراجع لمشهد في أقطارهم. فهاهم كتاب القصة القصيرة أكثر إبداعا وادهشا في المملكة المغربية وفي عمان واليمن والسعودية .. وذلك بفضل التجدد المتوالي بالإدهاش.
مجموعة عماد الورداني.. تستحق من النقاد مزيداً من القراءات. وهي منا تحية لعمل مثَّل اختلافاً فنيا.. قد يختلف معي البعض.. ويتفق البعض.. لكني أبشر بقدوم كاتب مثابر يعي أدواته.. كما يتلمس التجديد بمعرفة ودراية بفنون القص وأفاقه.

منقولة من مجلة أقلام عربية ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً