السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الشاعر أحمد الجابري .. مبدع الخطفة الشعرية - علوان الجيلاني
الساعة 14:06 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



أحمد الجابري ، اسم كبير لشاعر كبير ، ومثقف كبير أيضاً ، وهو إحدى قامات اليمن الشامخة بل جمانة تتلألأ في مسبحتها الفنية الخالدة وهو واحد من مبدعي هذه البلاد الذين تركواعلى الأغنية اليمنية بصمة مجد لا يمحوها الزمن ، فحين يذكر اسم الجابري ، تجري في العروق أنغام كثيرة ، وتتأرج الذاكرة بعشرات الأغاني التي عشنا نتغذى من جوهرها الراقي منذ سنوات الطفولة .
 

طوال الستين عاماً الماضية لم يتوقف عن تشجين حياتنا بإلهامه العذب ، بين منتصف الخمسينيات ومطلع التسعينيات من القرن الماضي تناغت على أوتار الموسيقار أحمد بن أحمد قاسم روائع للجابري من مثل " والله ما روح إلا قاهو ليل" و "غصب عني ياحبيبي" ، " المي والرملة" وقبله المرشدي برائعته التي لا يمكن أن نسى " "أخضر جهيش مليان حلى عديني" وبعدها "يا غارة الله منه يفعل كذا بالقتيل" ،"يا عاشقين الصبر"، ثم تلألأت على حنجرة أيوب طارش الذهبية مصفوفة من أغاني الجابري التي سكنت وجدان اليمنيين ، ورافقت أشواقهم إلى الحبيبات والوطن ، وعبرت عن لحظات الجمال الانساني ، والتِّشوّف للامتناهي القابع هناك دائماً "أشكي لمن وانجيم الصبح قلبي الولوع" ، " خذني معك" ، " ياصبايا فوق بئر الماء والدنيا غبش"، "طير أيش بك تشتكي ،"، "لمن كل هذِ القناديل" ، " ضاعت الأيام"، "رمضان يا شهر الصيام" ، 
و في نفس الوقت مجموعة أخرى من الأغاني المهندسة ، التي تبرجت كلماتها في أحاسيس الفنان محمد سعد عبدالله من خلال أغنيات منها " من زمان أشتي اقولك" ، " ليش سويت حساس أكثر" و" جوال" وتربعت على أوتار الموسيقار أحمد فتحي الذي غنى له " ظمأ الغيد" ، وصولاً إلى الشجي عبد الباسط عبسي الذي غنى «أشتي أسافر بلاد ما تعرف إلا الحب» ، وقبله الفنان عبد الرب إدريس " قلبي مع الغيد" 
ومنذ أول التسعينيات من القرن الماضي وحتى لحظة رقم هذه الحروف تحول الجابري إلى أيقونة من أيقوناتنا ، صار إرثاً ، وتاريخاً عابقاً ، وسيبقى كذلك ما بقي وترآلة موسيقية ينبض .

***
 

الحديث عن الجابري شجونه كثيرة ، وتباريحه لا تنتهي ،منذ سبعة عشر عاماً ، شهدت جلساتي مع الكاتب منصور السروري مثاقفات لا حصر لها حول الجابري ، ومكانته ، وخصوصية تجربته ، وحتى عام 2010م كنت أتحدث عن الجابري من بعيد كمتلق فحسب كوني لم ألتق به من قبل ، وكان السروري قد بلغ من التماهي في تجربة الجابري حداً بعيداً فهو يعرفه معرفة شخصية عميقة ، ويشتغل على تجربته جمعاً ومقاربات نقدية وثقافية واجتراحات سيرية ، وكان العيب المؤسف في تجربة السروري مع الجابري هو نكوصه كل مرة عن وضع اللمسات الأخيرة على ماكتبه عن الجابري ، وإخراجه في كتاب ، وأظن أن أسفه اليوم سيكون مضاعفاً بسبب فقد الجابري ، وبسبب تراخيه المتتابع عن الاستجابة لاحاحاتي عليه من أجل نشر ذلك الكتاب ..
***
 

سيظل ظهر يوم الخميس 28 / 5 / 2010م محفوراً في ذاكرتي ففي تلك اللحظة الزمنية .كنا في فندق الذبياني بعدن عدد كبيرمن الأدباء اليمنيين ، كنا في صالة االاستقبال حين دخل الجابري ، قيل له هذا هو علوان الجيلاني ، وبدون تكلف هجم علي مسلماً وهو يتحدث بصوت عال : أنت قارىء جيد ، قراءاتك الواسعة واضحة في كتاباتك وفي ظهوراتك على التلفزيون ، أكره الأدعياء الذين يمارسون الكتابة ولا يخصصون جزءاً من وقتهم للقراءة ، فاجأني بمتابعته الدقيقة لي أنا الذي كنت أحلم برؤيته ، قبلت رأسه مزهواً ، فيما كان الأساتذة عبدالباري طاهر ،وأحمد قاسم دماج ، وسلطان الصريمي يتبارون في الإشادة به مبتسمين . ومؤكدين لي أن هذا الرجل من أهم القراء في المشهد الثقافي اليمني ، لذلك تتخذ إبداعاته ذلك المنحى المنقح والراقي ..
شعرت يومها بالامتنان تجاه الكاتب منصور السروري بمقدار ما شعرت بالغيظ منه - شعور يتضاعف الآن- كيف لا يكافح من أجل إخراج تجربة كتجربة الجابري للنور. وإن كنت سأحسب له بامتنان كبير توثيقه الجيد والمميز لقصائد الجابري والتجيلات أغانيه وصوره ، وكثير من الذكريات عنه في صفحة على فيس بوك أنشأها تحمل اسم " الشاعر ألكبير أحمد غالب الجابري " وما أكتبه هنا مصدره في معظمه هذه الصفحة المميزة ، ومن كتابات أخرى لمنصور.

***
 

,ولد أحمد غالب محمد الجابري، في 12 / 7 / 1937م بمديرية التواهي -عدن- ، التحق بالمدرسة الاهلية حيث أنهى المرحلة الابتدائية فيها ثم انتقل إلى مدرسة (الروزميت) بمديرية كريتر وفيها أكمل المرحلة الإعدادية عام 1952. وكان لأستاذه المصري علي طريح شرف تأثير كبير عليه ، لكن التأثير الأكبر سيكون للشاعر الشهير لطفي جعفر أمان ، وللأديب المربي عبدالله فاضل فارع ، فقد بدأت تلمذته للرجلين الكبيرين سنة 1950م في ذات المدرسة ، حيث درس على أمان اللغة الانجليزية، وعلى فارع الأدب العربي ، لكن أثرهما عليه يتجاوز فصول الدراسة وعلاقة التلميذ بالمعلم ، فقد تنبها مبكراً إلى نبوغ الجابري ورأيا فيه مخايل مبدع قادم ، فراحا يغذيان شهوة القراءة عنده بدواوين أحمد شوقي وإبراهيم ناجي ، وعلي محمود طه ، والشابي ، وأبو شبكة ، ونزار قباني ومؤلفات العقاد وطه حسين وأحمد أمين والحكيم والرافعي والزيات ، ولعل أحد أسباب ميله إليّ كان شغفي مثله بالعقاد ، ففي ذلك اليوم الذي لقيته فيه ظل يحدثني عن هذا معتزاً به في حالته ومعتبراً أن شغفي أنا أيضاً بالعقاد دليل على جديتي ، وحين قلت له أنني بدأت أقرأ هؤلاء في سن صغيرة جداً ، قالي : أنا أيضا قرأتهم منذ كنت في الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمري .
 

الهوى المصري الذي تتشبع به نفس الجابري وعقله سيبلغ مداه سنة 1953م وهو العام الذي سافر فيه إلى القاهرة لدراسة الثانوية العامة ملتحقاً بالبعثة اليمنية في حلوان ، ولعل عودته إلى عدن بعد أن أكمل الثانوية بمدرسة حلوان سنة 1956م ، دون أن يواصل دارسته الجامعية هناك يرتبط بالأحداث التي شهدتها تلك السنة حيث عصفت الخلافات بالطلبة اليمنيين وتوزعتهم الولاءات ولوحقوا حتى تفرقوا ، بعضهم التحق بعواصم أخرى وبعض عاد ، أقول - لعل - لأني لست متأكداً من هذا الآن ، لكن الجابري عاد على كل حال ومكث في عدن سنتين قبل أن يساافر مرة أخرى سنة 1958م حيث عاش في القاهرة قرابة ثماني سنوات درس خلالها إدارة الأعمال في كلية التجارة بجامعة القاهرة، وتخرج منها سنة 1966م ، 
بين سنتي 1966و 1972م تنقّل الجابري بين ثانويات عدن مدرسًا فارق عدن سنة 1972م إلى مدينة تعز ليعمل موظفًا في البنك اليمني للإنشاء والتعمير
بعد ذلك في عدد من الوظائف لصالح شركة (هائل سعيد أنعم)، كان آخرها وظيفته مديرًا عامًّا لمصنع (نانا) للآيسكريم، في مدينة الحديدة، 
سنة 1982م سافر إلى السعودية؛ ليعمل مديرًا عامًّا للمراجعة في شركة (سدكو)، وقد بقي هناك عشر سنوات كاملة ، وإثر عودته إلى اليمن عام 1992م؛ بقي خالياً مدة سنتين ، حتى عين بقرار جمهوري مستشارًا لصحيفة (14 أكتوبر) عام 1994م .

***
 

شعرياً ولد الجابري كشاعر غنائي منذ اللحة الأولى ، سنة1956م ، حين كان في التاسعة عشرة من عمره كتب أولى قصائده ، " هرّبوا جالليل " وهي نفس القصيدة التي غناها الموسيقار أحمد قاسم سنة 1958م تقريباً :
 

المطر يسكبْ
مو يفيد نَصْرُبْ
والذئابْ تَقْرُبْ 
هَرِّبوا جا الليلْ

ريتنا مثلكْ 
كلّ شي تَمْلِكْ
ما زرعتهْ لَكْ 
هَرِّبوا جا الليلْ

 

ولم يكن ذلك النص مجرد أغنية ، بل كان اشتغالاً ذكيذاً على حالة كنائية ذات مغزىً سياسي ضمن اعتمالات تلك الفترة ، وهي فترة كانت حبلى بحوادث جسام كما هو معروف ، يومها تم التعامل مع الأغنية بوصفها منشوراً خطيراً ، لكن جوهر النص الغني بالمحمولات الدلالية الشعبية الضاربة جذورها في وجدان المكان والانسان ، ضمن لها الخلود والبقاء ، وجعلها تتجاوز شرط اللحظة التاريخية التي ولدت فيها .
 

وهذا يتصل بسمات أخرى في تجربة هذا الشاعر ، فهو يخطف الشعر خطفاً ، النص عنده ضربة لا تتخلق ولكن توجد ، توجد جاهزة ومكتملة ، وإذا كان غنى المحمولات الدلالية الشعبية والكناية السياسية من أسباب نجاح وخلود أغنية " هرّبوا جا الليل " ، فإن غنى المحمولات الدلالية الشعبية مضافاً إليها النوستالجيا العالية هما سبب نجاح أغنية " أخضر جهيش " .
لكن ما سر نجاح الأغاني التي ليست فيها هذه المحمولات ؟
الجواب ببساطة شعرية الضربة ، شعرية النص الذي يوجد مكتملاً هكذا :
المي والرملة
تشهد على حبِّي
نبله على نبله
مغروزة في جنبي
الميه والرملة
***
با ذكرك بالبحر
والليل في صيرة 
وأخاف عليك الجسر
يفلت من الغيرة
الميه والرملة.
***
النجم ما يهوى
يكبر على النظرة
والحب ما يسوى
يا عيني بالمرة
الميه والرملة.

 

إنه لا يخطف الشعر فحسب ، بل هو يخطف قلوبنا معه ، كما يفعل في شهقته الأجمل التي طلما تشوّت بها الأرواح على صوت أيوب :
ايــش مـعـك تتـعـب مــع الأحـبـاب يا قلـبـي وتتعبـنـا مـعـك؟
لا الضنى يـروي ظمـا روحــي ولا الدنـيـا بعيـنـي توسـعـك
لا متـى شاصبر وانـا أجري ورى حبـك أطيعـك واتـبـــعـــك؟
أيـش بقى لي فـي الهـوى غيـر الشجن زادي يلوعني معك
ايش معك ....... ايش معك؟
***
خـــذ حـيـاتـي لا تعـذبـنـي بأشـجـانـك وتـضـنـي مـضـجـعـك
شفَّني وجْدي فكم أضنى الجوى روحي وأشجـى مسمعـك
عـلّـنـي حُـبــك وأضـنـانــي بــــلا مـعـنــى وأحــــرق أضـلـعــك
ليتنا اقدِر على النسيان يا قلبي وتـنـساني معك
ايش معك ....... ايش معك؟
***
طـائـر الأشـجـان ما يشجيك فــي تـيك الـربـى مــن لـوعـك؟
تـشـتـكـي مـثـلي ضنى الأيـام في حبك وتـبـكـي مـربعك
مـــن لأحـراقــي وأشــواقــي يطـفـيـهـا ويـمـســح أدمـُـعــك؟
أيـش معـك غيـر الـذي عِـنـدي يكفيـنـي ويكـفـي مــا مـعـك؟
ايش معك ....... ايش معك؟
***
لو يقع لي أدفن الأشـــواق أطويـهــا وأنســـى مـــوجــعـــك
ضـاعـت الأيــام مــن عـمـري ســدى ضاعَت وحـبـي ضيـعـك
روح لـــك بالــلـــه بـــعيـــــد عــنــــي وحـِــــل عـــــن مـوضــعــك
أيش معك يا قلب تضنيني أنا هالك وهالكني مـعـــك
ايش معك ....... ايش معك؟

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً