السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
كتابات محمد عبد القادر بافقيه في صحيفة (الرأي العام) - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 14:20 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

بعد فترة مخاض امتدت نحو ثلاث سنوات ظهر في 12 يوليو 1963 العدد الأول من صحيفة (الرأي العام) الحضرمية التي أصدرها علي عبد الرحمن بافقيه، وساعده في تحريرها عدد من الحضارم المسكونين بحب الكتابة مثل يحيى عبود بن يحيى وعمر حسين البار وعلي محمد حميد وسلامة عبد القادر بامطرف (السيدة ع س ب). كما بادر ابن عمه محمد عبد القادر بافقيه، مساعد ناظر المعارف بالمكلا حينذاك، والذي كان يكتب في صحيفة الرائد، برفدها بمقالاته الساخرة، التي كان يوقعها بـ (سندباد ع الورق أو س ع و)، إلا إذا نشرت بوصفها افتتاحية الصحيفة، فهي حينئذٍ تُذَيَّل باسم الصحيفة: الرأي العام. كما شارك في تحرير الصحيفة عددٌ آخر من الكتاب الحضارم الذين لم يوقعوا في الغالب مقالاتهم بأسمائهم الحقيقية وفضلوا استخدام أسماء مستعارة مثل: ابن الساحل، بنت الساحل، ابن الوادي، ابن الأثير، ابن المهجر، جنوبي، مواطن، مواطن عربي، أحمد، بو حسن، محرر.. الخ.
 

ولأهمية مشاركات الأستاذ محمد عبد القادر بافقيه في صحيفة (الرأي العام)، رأيت أن أكرس لها هذه الورقة المتواضعة، التي سأقوم في الجزء الأول بمحاولة حصر ما كتبه محمد بافقيه في (الرأي العام)، ثم سأبيّن الاتجاه العام لمحتويات تلك الكتابات. وفي الجزء الأخير سأحاول أن أرصد بعض الخصائص الفنية لأسلوب محمد بافقيه في كتاباته الصحفية.

 

أولا- كتابات محمد عبد القادر بافقيه في (الرأي العام):
في العدد الأول، الصادر في 12 يوليو 1963، والذي كتب افتتاحيته، علي عبد الرحمن بافقيه، رئيس التحرير بنفسه، شارك محمد عبد القادر بافقيه بمقالين طويلين: (كتاب سخيف: صهيوني في المكلا)، و(مذلول في الفضاء). وقد وقع الأول منهما، بالحروف س ع و، ووقع الثاني، الذي يملأ الصفحة الأخيرة بأكملها، بالاسم المستعار الذي كان يستخدمه أيضا في صحيفة (الرائد): سندباد ع. الورق.
وفي العدد الثاني نشرت الصحيفة مقالتين لمحمد بافقيه؛ جاءت الأولى (اللامعقول) افتتاحيةً للعدد، وملأت الثانية الصفحة الأخير بأكملها، وحملت عنوان (حديث صحفي). وتضمن العدد الرابع مقالا قصيرا بعنوان (الحال)، موقع بقلم سندباد ع الورق. وتملأ الصفحة الأخيرة من العدد الخامس ترجمة ملخصة لإحدى قصص الأديب البريطاني سومرست موم (Mathew)، وقد عنونها بـ (الناس وظروفهم).

 

وكتب محمد بافقيه افتتاحية العدد السادس، التي كانت بعنوان (هذا هو السؤال). وتضمن هذا العدد كذلك في صفحته الأخيرة ترجمة ملخصة لقصة أخرة من قصص سومرست موم: (النملة والجرادة).
وكانت افتتاحية العدد السابع مقالة قصيرة جدا بعنوان (حماري سبق حمارك) كتبها أيضا محمد بافقيه. وفي الصفحة الأخيرة من العدد نفسه نشرت (الرأي العام) لبافقيه مقالة قصيرة ضمن زاوية (خليها على الله) بعنوان: (عصابات حشيمة).

 

وكتب محمد عبد القادر بافقيه أيضا افتتاحية العدد الثامن بعنوان (مخلوقات عجيبة)، ويحتوي العدد كذلك في الصفحة الأخيرة على مقال بعنوان (ممنوع سيدي) وقعه س ع و، الذي وقع أيضا افتتاحية العدد التاسع: (السر). ويتضمن العدد التاسع مقالا لبافقيه بعنوان (بغيناكم تلقون بصر). ويغيب اسم بافقيه في العدد العاشر لكنه يظهر مجددا ليكتب افتتاحية العدد الحادي عشر: (عيب)، وافتتاحية العدد الثاني عشر: (الخضر)، وافتتاحية العدد الثالث عشر: (مجتمع الشيخ بلال)، وافتتاحية العدد الرابع عشر: (لعل وعسى)، وافتتاحية العدد الخامس عشر: (وحدوا الصفوف يا حضارم).
 

وبعد ذلك يتوقف بافقيه في الانتظام في رفد (الرأي العام) بمقالاته. وفي العدد السابع عشر يعترف رئيس التحرير بأن الصحيفة تمر بأزمة ويقرر تقليص صفحاتها من ثمان إلى أربع صفحات فقط. ويستمر الحال كذلك إلى العدد الحادي والأربعين. وفي العددين 61 و62 - سبتمبر 1964 - يعود محمد عبد القادر بافقيه للكتابة في (الرأي العام). ففي العدد 61 كتب (افتتاحية)، وهي عبارة عن مقالة طويلة بعنوان (شاهد التاج)، ويفتتح العدد 61 بمقالة بعنوان (أداة الاستعمار)، وسنبيّن لاحقا حقيقة هاتين الافتتاحيتين اللتين وقعهما محمد عبد القادر بافقيه باسمه الحقيقي. وأرجح أن تكون افتتاحية العدد 69 (مرحبا بالوفود)، بقلم محمد عبد القادر بافقيه إذ أنها تتضمن كل سمات كتابته التي سأتحدث عنها في الجزء الأخير من هذه الورقة. ويظهر محمد عبد القادر بافقيه مرة (أخيرة؟) في (الرأي العام) ليكتب افتتاحية العدد 71 (عزيزي السيد انتوني جرينود). وقد وقعها بالأحرف (س و ع).
 

وتجدر الإشارة هنا إلى أن محمد عبد القادر بافقيه قام في عام 1965 بجمع عدد كبير من المقالات التي نشرها في صحيفة (الرائد) وعددٍ محدود من المقالات التي نشرها صحيفة (الرأي العام)، وقدمها للناشر المبدع علي محمد الصبان -صاحب منشورات مؤسسة الصبان في عدن- الذي سارع بنشرها في كتاب بعنوان (صاروخ إلى القرن العشرين). ويقع الكتاب، الذي يحمل الاسم المستعار لبافقيه (سندباد ع الورق)، في مئة وأربع وثمانين صفحة.

 

ثانيا- الاتجاه العام لموضوعات مقالات محمد عبد القادر بافقيه في (الرأي العام):
بشكل عام يركز محمد عبد القادر بافقيه في مقالاته على نقدِ عددٍ من الظواهر الاجتماعية السلبية التي كان المجتمع الحضرمي يعاني منها حينذاك، مثل انتشار تناول الكحول وتصنيعه محليا، والنفاق الاجتماعي، والنظرة الدونية للمرأة، والمضاربة بالأموال والعقارات، أو تلك الظواهر المرتبطة بالفساد في مرافق العمل الحكومي أو المدني، كالرشوة والتهريب. وسنرى أن بافقيه لم يتطرق للقضايا السياسية إلا نادرا، وفي الغالب بشكل هادئ وغير مباشر.
في العدد الثاني من (الرأي العام)، مثلا، ينشر بافقيه مقالا بعنوان (حديث صحفي)، يتناول فيها الفساد في العمل من خلال تقديم صورة لموظفٍ لا يعطي أي اهتمام لأي شخص يدخل مكتبه إلا إذا كان يريد أن يناقش معه قضية استئجار بيت أو شرائه أو رهنه. 

 

وفي افتتاحية العدد التاسع (السر) يربط الكاتب بين الغناء السريع وانهيار القيَم وبيع الذمم. فهو حينما يعبر عن استغرابه من قدرة بعض أصحاب الدخل المحدود على بناء عمارات شاهقة في سرعة فائقة، ويسأل عن السر يرد عليه بعض الناس: إنهم باعوا ذممهم"، ولم يستوعب الإجابة في الحال، إلا أنه يقول: "لكني هذا الأسبوع رأيت بأم عيني أحد زبائن سوق الذمم، رأيته يدخل مكانا بالخطأ، ويحاول أن يمارس فيه تجارته. ولمّا قيل لي إن (الرجال) (صديق صاحبنا) عرفت السر، سر العمارات الضخمة. وقديما قيل إذا عرف السبب بطل العجب". (الرأي العام، ع9)
 

والموضوع نفسه نجده في افتتاحية العدد الثالث عشر، التي تحمل عنوان (مجتمع الشيخ بلال)، والتي يركز الكاتب فيها على ظاهرة استغلال حاجة بعض الناس المحتاجين للمال، الذين بدافع تقوى الله والخوف من الطابع الربوي للبنوك (العادية)، يتجهون إلى بعض المؤسسات (الخيرية والتعاونية) التي يمكنهم الاقتراض منها بطرق غير مباشرة تتضمن عمليات بيع وشراء ليس الغرض منها اقتناء مشتريات، بل الحصول على المال الذي هم بحاجة ماسة إليه. وقد بدأها الكاتب على النحو الآتي: "ألا يا الله بنظرة. عسى قرش بعشرة. ويرجع خمسة عشر، وإلى خمسة وعشرين.. دعاء ساخر في نغمته. لا أدري ما إذا كان صاحبه جاداً فيه، أم كان عابثاً. على أن حكاية القرش بعشرة هذه ليست ببعيدة على واقعنا، فأنه إذا كان الشيخ بلال -يرحمه الله- قد فشل في أن يقلب البيسة روبية، وأتهم من أجل ذلك بالدجل والشعوذة، فأن هناك -على أرضنا هذه- من يقلب البيسة روبية، ويتمتع، ربما من أجل ذلك وحده، بالسمعة الحسنة والمكانة الكريمة". ويؤكد الكاتب أن أحد الموظفين البسطاء اشترى بضاعة لم يكن بحاجة إليها من (عنكبوت بشري) بمبلغ 1200 شلنا دينا، وفي اللحظة نفسها باع البضاعة إلى البائع نفسه بألف شلن أي بخسارة (مشروعة) قدرها 200 شلن، واستلم ألف شلن عدا ونقدا. ويختتم مقالته قائلا: "وهو الآن يسدد قيمة البضاعة الوهمية أقساطا شهرية تكاد تستغرق كل ماهيته. وهكذا يتحقق الدعاء. وهكذا تنقلب البيسة روبية، وليرحم الله الشيخ بلال، بل ليرحم الله مجتمع الشيخ بلال".
 

وفي مقال (بغيناكم تلقون بصر) الذي نشره في العدد التاسع ينتقد بافقيه بشدة ظاهرة الرشوة في المدرسة الحكومية التي لا يقبل الموظفون فيها التلاميذ إلا أذا دفع ولي الأمر (أتعابهم). 
وفي افتتاحية العدد السادس التي كانت بعنوان (هذا هو السؤال)، يربط بافقيه بين النفاق الاجتماعي وظاهرة انتشار الحشيش وتناول الكحول وتصنيعه محليا، وذلك على الرغم من العادات والقوانين الصارمة، ويقول: "هذه ملامح الصورة الأخلاقية في هذه البلاد، فبالرغم من وجود لجنة الشؤون الدينية، وبالرغم من مداهمة بعض البيوت بين الحين والحين، وبالرغم من تشديد الرقابة على بعض المناظر في الأفلام ومنع ظهور دور المرأة على المسرح. أي مجتمع هذا الذي يلبس مسوح الرهبان ويمارس أعمال الشيطان؟ أي خداع وتضليل الذي نعيش فيه وإلى أين نحن سائرون؟" وقد تزامن المقال مع خبر اكتشاف مكان لتصنيع الخمر محليا في المكلا والقبض على كمية من الحشيش المهرب.

 

ويعود بافقيه إلى ظاهرة النفاق الاجتماعي في افتتاحية العدد الرابع عشر (لعل وعسى)، التي يقول فيها: "نتحدث عن الفساد، وننسى أن أخطر أنواع الفساد هو فساد النظام الاجتماعي والسياسي حيث تتحكم القلة في الكثرة، وحيث يكون كل شيء مطية للإثراء، وحيث تختل القيم وتضيع المعاني وتميع الأخلاق، وحيث تتضخم الأنا، وحيث يكون الشعار السائد (نفسي نفسي).... وبعد نتحدث كثيرا عن الفساد ونحن غارقون في الفساد. ومن لم يصدق فليعد قراءة الأحاديث". 
 

وفي الصفحة الأخيرة من العدد الأول من (الرأي العام) ينشر بافقيه مقالا بعنوان (مذلول في الفضاء) يفضح فيه طريقة بعض الحضارم في التعامل السيء مع المرأة وتسميتهم لها: "مذلول".
وكرس بافقيه عددا من مقالاته لعرض بعض الكتب التي كان يقرأها باللغة العربية أو باللغة الإنجليزية، ويوظف تقديمه لها لعرض بعض المواقف السياسية الهادئة. ففي افتتاحية العدد الثاني من (الرأي العام) مثلا، يوظف بافقيه عرضه الموجز لإحدى مسرحيات الفرنسي أوجين يونسكو لينتقد ما يجري في المجلس التشريعي بالمكلا ويدعو "شباب هذا البلد إلى الحركة". فبعد أن يقدم بإيجاز مسرح العبث أو اللامعقول الذي - بعد أن انتشر في الغرب- بدأ يترك بعض الأصداء في المسرح المصري، يقدم الكاتب مسرحية الكراسي لأوجين يونسكو. وفي الفقرة الأخيرة من المقال يقوم بإجراء مضاهاة ساخرة بين ما يحدث في تلك المسرحية العبثية وما يجري في المجلس التشريعي في المكلا، ويكتب: "ولنخرج من دائرة اللامعقول برموزه المغلقة وإضاءته الخافتة إلى ضوء النهار. مسرحية الكراسي التي نتحدث عنها اليوم هي مسرحية المجلس التشريعي. والممثلون الذين يقفون على خشبة المسرح الرمزي الخافت الإضاءة هم الحالمون بكراسي المجلس، أما المتفرجون فهم الأبطال الحقيقيون الذين لم يلعبوا الدور بعد. فمتي يقفز الأبطال إلى المسرح. متى يتحرك شباب هذا البلد؟ متى يتاح لنا مسرح معقول في بلد كل ما فيها لا معقول ولا مقبول.. متى؟". 

 

كما وظف محمد عبد القادر بافقيه قراءته الطويلة لكتاب (بلاد العرب من وراء الحجاب Behind the Veil of Arabia)، الذي يتناول مؤلفه جورجن بيتش قضايا الرقيق في حضرموت والمملكة العربية السعودية، والتي نشرها في العدد الأول من (الرأي العام) بعنوان (كتاب سخيف: صهيوني في المكلا)، لتوجيه نقد شديد للكتاب ومؤلفه والخطاب الغربي الاستشراقي والاستعماري بشكل عام. وقد اختتم بافقيه مقالته مؤكدا أن "هذا الكتاب كُتِب بطريقة معينة، وأخرج بطريقة معينة، وموجّه إلى قراء معينين. وهو كتاب كُتب لتضليل القارئ الغربي، وهو قارئ يجهل العالم ولا يقرأ إلا ما يُقدَّم له. وكل وسائل الإعلام في بلدانه يوجهها صهاينة وحلفاء الصهاينة، ولسنا بحاجة إلى أن نتساءل عما أراد الكاتب أن يقوله من خلال تخريفاته المنسقة والمدعمة بالصور البراقة وشخصياته التي خلقها من العدم وعلى رأسها ينانجار العجيب. على أن شيئا واحدا لن يفوت القارئ العربي؛ وهو أن العبد الحقيقي الوحيد في هذا الكتاب ليس إلا جورجن نفسه. فلو كان حرا كما يدعي لما غالط ضميره، وشوه الحقائق بهذه الصورة الفاضحة. ولكن هكذا شاء حقده وحبه للمال. وهكذا شاء أسياده الصهاينة".
 

ومن الافتتاحيات التي كتبها محمد بافقيه لـ(الرأي العام) والتي نلمس فيها موقفا سياسيا (هادئا): افتتاحية العدد الحادي عشر (سبتمبر 1963)، التي كانت بعنوان (عيب). وهي من المقالات النادرة جدا التي يفصح فيها المؤلف عن موقفه تجاه بعض القضايا السياسية للبلاد. ففي هذه الافتتاحية يبدو لي أن محمد عبد القادر بافقيه يقف مع المعارضين لدخول حضرموت في الحكومة الاتحادية التي أنشأتها بريطانيا في الجنوب في مطلع الستينيات من القرن الماضي، ويرى أنها تؤدي إلى ضياع هوية حضرموت. فهو يكتب: "إلى عهد قريب كانت هناك في خارطة العالم بلاد اسمها حضرموت، وكانت تلك البلاد تقع وسط جنوب الجزيرة العربية. ولكن هذه البلاد اختفت منذ حين ونحن لا ندري. فقد تمت إحدى المعجزات في عصرنا دون أن يلتفت إليها أحد أو يحتفل بها مخلوق. ربما لأن عصرنا لا يؤمن بالمعجزات ولا يأبه بها. ولكن المعجزة تمت، وتجاهلها لا يغيّر من الحقيقة شيئا. واكتشف هذه المعجزة طالب مغترب في بلاد غربية؛ سألوه في الغربة: من أين أنت؟ فقال من حضرموت. قالوا: وأين تقع حضرموت هذه؟ قال: في بلاد العرب. فطلبوا منه أن يريها لهم على الخارطة. وهنا حدثت المفاجأة. لجأ إلى أقرب أطلس، وقلّب أوراقه في لهفة، ووقف عند خارطة كبيرة لبلاد العرب التي يحرص الغربيون على أن يسموها (الشرق الأوسط). وبدون تردد وضع أصبعه على جزء منها وقال: هذه هي حضرموت. قالوا له: لا هذه عدن. ففرك عينيه مستغربا، وحملق في الخارطة مستنجدا فصدمته الكلمات التالية المكتوبة على طول المنطقة (Eastern Aden Protectorate)، ومعناها بالعربي محميات عدن الشرقية. ويختصرها الإنجليز على طريقتهم في اختصار كل شيء فتكون (أيب EAP)... وغدا سيتساءل الناس عن (أيب)، وقد يعللها البعض بأنها محرفة عن كلمة عيب العربية. ربما من يدري؟ ألا يكفي أن نعيش في عزلة مفروضة علينا؟ وهل مأساتنا في حاجة إلى خاتمة كهذه؟ عيب يا ناس".
 

وبعد أن توقف محمد عبد القادر بافقيه عن الكتابة في (الرأي العام) في نهاية سبتمبر 1963، يعود في سبتمبر 1964 ليكتب افتتاحيتي العددين 61 و62، اللتين وقعهما باسمه الحقيقي. وكانت الأولى عبارة عن مقالة طويلة بعنوان (شاهد التاج)، يهاجم فيها بافقيه بشدة المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف، وينتقد ماضيه ويشكك في وطنيته (الجديدة). ويعود في افتتاحية العدد التالي: (أداة الاستعمار) ليستكمل هجومه على بامطرف. وهي مقالة طويلة أيضا تبدأ في الصفحة وتغطي كذلك الصفحة الأخيرة بأكملها. ومن المؤكد أن محمد عبد القادر بافقية قد استغل قربه من رئيس تحرير (الرأي العام) ليضع ما كتبه عن بامطرف في افتتاحيات الصحيفة.
 

ولم يعبّر محمد عبد القادر بافقيه عن رأيه السياسي بشيء من الوضوح إلا في الافتتاحية الأخيرة التي كتبها للعدد الحادي والسبعين من (الرأي العام، 30 نوفمبر 1964)، وكان عنوانها (عزيز المستر أنتوني جرينود). وفي اعتقادي أن الموقف الذي يعبر عنه بافقيه في هذا المقال، الذي يطالب البريطانيين فيه بضرورة إشراك الأمم المتحدة في الإشراف على البلاد وعدم تسليم السلطة عند رحيلهم منها لأي من الجبهتين اللتين بدأتا تتناحران فيها، كيلا يكون مصيرها مثل مصير الكونغو، ينسجم مع موقف حزب رابطة أبناء الجنوب العربي؛ فهو يكتب في مقالته: "تريد أن تعرف ماذا نريد. نزولا عند إرادتك - وإرادتك في هذه البلاد قانون- سأحاول الإجابة عليك. وتمهيدا لإجابتي، اسمح لي أن أسألك: هل تحب أن تقوم في بلادك حرب أهلية؟ ... أننا نريد لبلادنا ما تريده أنت لبلادك. نريد منكم أن تعودوا إلى دياركم مأجورين وتتركونا وشأننا نقرر مصيرنا بأنفسنا. ونريد إشراف الأمم المتحدة، لأنه بدون ذلك سترى بلادنا كونغو جديدة، ولأن إشراف الأمم المتحدة هو الضمان الوحيد. عزيزي المستر أنتوني جرينود، مرةً أخرى أكرر، كم كان بودنا أن تكون زيارتك لنا زيارة حر لأحرار، لا مستعمِر لمستعمَرين، لكي يتاح لنا أن نقيم لك الزينات ونعد لك المهرجانات، بدلا من هذا الوجوم والبرود".

 

 

ثالثا- بعض السمات الفنية لمقالات محمد عبد القادر بافقية:
أ-السخرية:

من المعلوم أن مقالات محمد عبد القادر بافقيه كانت تحظى باهتمام قراء مختلف الصحف المحلية في مطلع ستينيات القرن الماضي، ليس لحساسية الموضوعات التي يتناولها الكاتب في تلك المقالات فقط، بل كذلك للأسلوب الذي يستخدمه في كتابتها. وفي اعتقادنا أن من أهم سمات ذلك الأسلوب التي أسهمت في جذب القراء: السخرية، والمزج بين اللغة العامية، وكذلك استخدام عدد من تقنيات السرد كالحوار الوصف.
 

أ- السخرية:
في المقال الذي نشره بافقيه في العدد الأول من (الرأي العام) بعنوان (مذلول في الفضاء)، تبرز السخرية في طريقة تصوير الكاتب للتخلف الاجتماعي الذي تعاني منه المرأة، لا سيما نظرة الرجل لها وطريقة معاملته لها. ويتجسد الأسلوب الساخر في التناقض الكبير بين نظرة السوفييت للمرأة ونظرة الحضارم لها، ويصوره الكاتب على النحو الآتي: "في قاعة الانتظار بالمطار، أخذت أقلب إحدى المجلات التي اشتراها لي خادم الفندق ذلك الصباح، فوقع نظري على عنوان كبير (حواء وآدم يلتقيان في الفضاء)، ووجدت نفسي أقرأ: إن رحلة فالنتينا وبيكوفسكي هي أول تعاون في غزو الفضاء بين المرأة والرجل، وهي تدل على جدية المشاركة بين الرجل والمرأة في عصر العلم، وعلى أن البشرية لا تستطيع أن تحقق عملا عظيما إلا باشتراك الجنسين معا". ويركب الكاتب الطائرة ويبحث عن مقعد فارغ، ويضيف: "هممت أن أتقدم نحو أحد المقاعد، فإذا برجل عجوز يسد الممر الضيق وهو منكفئ على أحد المقاعد كأنما يعالج وضع شيء قابل للكسر، قلت له: تسمح أمر؟ قال وهو لا يزال منحنيا على كومة سوداء تتحرك: با نريّض المذلول الله يعزك".
 

وفي المقالة التي نشرها بافقيه في العدد الثاني من (الرأي العام)، بعنوان (حديث صحفي)، تبرز السخرية في طريقة وصف بافقيه للمكتب الذي يدخله، فهو يكتب: "كان المكتب كما أعهده بسيطا في منتهى البساطة، وكدت أقول في بساطة صاحبه، لكن هذا استعجال واستباق للحوادث لا داعي له. وقد كانت المنضدة خشنة الصنع يصبغ لونها القدم، كأنها والجالس عليها صنوان. وكان أحد الكرسيين اليتيمين الإضافيين قد أصيب بكسر مركب فبتر الساعد، أما الأرجل فضعيفة ومخلخلة".
 

ونعثر كذلك على أمثلة أخرى من أسلوب محمد بافقيه الساخر في افتتاحيته للعدد الحادي والستين من (الرأي العام): (شاهد التاج)، التي ينتقد فيها المؤرخ محمد عبد القادر بامطرف، ويقول عنه ساخرا: "إنه لجميل جدا أن يعود أحد الخراف الضالة إلى الحضيرة بعد ضلال طويل، فأن قلب أمتنا العربية كبيرٌ وفيه متسع لكل من أراد أن يتوب. شيء واحد فقط ينقص مقالات البامطرف، وهو أنه لم يعتذر عن أي تصرفات سابقة حين أراد الانضمام إلى الصف الوطني".

 

ب- مزج الفصحي بالعامية:
من المؤكد أن الأستاذ محمد عبد القادر بافقيه كان ضليعاً بلغة الضاد، وقد أتقنها بشكل متميز في وقت مبكر من عمره، نطقا وكتابة. واتقانه للغة العربية الفصحى لم يمنعه من استخدام عدد كبير من تراكيب اللهجة الحضرمية ومفرداتها في ثنايا مقالاته في الصحف المحلية ومن ضمنها (الرأي العام). ولا ريب في أن هدفه من ذلك كان جذب أكبر عدد من القراء. 
 

ففي العدد التاسع من (الرأي العام)، نشر بافقيه مقالا بعنوان (بغيناكم تلقون بصر)، يتناول فيه موضوع الفساد، ويستخدم فيه عددا من المفردات والتراكيب العامية، وقد بدأ المقالة قائلا: "هذه المرة السندباد تعبان قرفان، ولم تعد السخرية تجدي. الصراحة أجدى. لهذا فأعذروه إذا ما كان ما يكتبه هذا الأسبوع جافا. فأن ما يكتبه هو الحقيقة المرة بلا تزويق. ولا زخرفة. وما ذنبه إذا كانت الحقيقة نفسها مرة وجافة وقبيحة؟ إن الفساد الذي يضرب أطنابه في كل مكان يحاول طوفانه أن يطفئ كل شيء. ولأن الفساد كالزكام على حد تعبير أحد الظرفاء فهو إذا انتشر لا يقف عند حد".
وتبرز كذلك بعض المفردات العامية وسط الكلمات الفصحى في المقالة التي نشرها بافقيه في الصفحة الأخيرة من العدد السابع من (الرأي العام): (عصابات حشيمة)، التي كتب فيها "هناك عصابات من الناس الحشام، هدفها المتعة واللذة وإقامة الليالي الحمراء. وهذه العصابات عادة لها سياراتها، ولها أوكارها، ولها قوادها، ولها نظمها الاشتراكية الخاصة. وأفراد هذه العصابات الحشيمة لهم صفات النفاخ (أو الحرباء)؛ في الليل لهم لون وفي النهار لهم لون، وفي العمل لهم لون، وفي العمل الثاني لهم لون ثاني أيضا. يجلس الواحد منهم، وقد انتهى من إحدى المناسبات اللذيذة، ويحدث الناس عن ضياع الأخلاق على طريقة يقتل القتيل ويمشي في جنازته. وهكذا الحشمة وإلا فلا".

 

ونعثر كذلك على بعض الأمثلة على المزج بين الفصحى والعامية في المقالة التي نشرها بافقيه في العدد الثالث عشر من (الرأي العام) بعنوان (مجتمع الشيخ بلال)، وقد استهلها على النحو الآتي: "ألا يا الله بنظرة. عسى قرش بعشرة. ويرجع خمسة عشر، وإلى خمسة وعشرين.. دعاء ساخر في نغمته. ... واسمعوا هذه الحكاية: موظف بسيط دخله لا يتجاوز المائتي شلن شهريا، أراد أن يكمل دينه بالزواج، ولكن الزواج في مجتمع الشيخ بلال له مطالب دونها خرط القتاد. المهر كما حق الناس الزيان، والجهاز كما الناس الحشام، والوليمة، ما با نقع قاصرين، ولا با نقصر في حد. وهكذا، وجد صاحبنا نفسه وقد قادته قدماه إلى أحد تلك العناكب البشرية التي تنسج خيوطها البراقة لاصطياد المحتاجين وتسمن على امتصاص دمائهم في هدوء ووقار وبصورة شرعية."
 

ولا شك أن بروز اللهجة العامية في عناوين بعض المقالات وفي ثناياها -مثل (بغيناكم تلقون بصر) (عصابات حشيمة)، هو الذي جعل بافقيه يحجم عن تضمين تلك المقالات في كتابه (صاروخ إلى القرن العشرين) الذي نُشِر في القاهرة سنة 1965.
 

وبما أن محمد عبد القادر بافقيه يعشق الأدب السردي، - وهو كما سبق أن أشرنا نشر في (الرأي العام) ترجمة لقصتين قصيرتين لسومرست موم- فقد استخدم في مقالاته بعض التقنيات السردية، كالحوار والوصف. وقد تضمنت الشواهد التي قدمناها بعض الأمثلة على تلك التقنيات.
وختاما، نؤكد أن أي دراسة جادة لتاريخ صحيفة (الرأي العام)، وتاريخ صحافتنا المحلية بشكل عام لا يمكن أن تتم إلا من خلال القراءة المتمعنة فيما كتبه الرائد محمد عبد القادر بافقيه في صحيفة (الرأي العام)، وكذلك كتابات زملائه علي محمد حميد ويحيى عبود بن يحيى والأديبة سلامة عبد القادر بامطرف (أو السيدة س ع ب). ونتمنى أن نكون في هذه الورقة قد أسهمنا قليلا في هذه الدراسة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً