السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
حفرٌ في تجاعيد الزمان والمكان وترميم للوجود!!
قصص تحيي الذاكرة الشعبية وتعيد الاعتبار لحزاوي الجدات - محمد عبده الشجاع
الساعة 14:35 (الرأي برس - أدب وثقافة)




**تفرد وثراء:
ربما تكون هذه المجموعة، هي الأولى على مستوى الإنتاج القصصي في اليمن، من حيث تكاملها في سياق أو موضوع واحد.. "الاتكاء على الموروث الشعبي".
مسار أتبعه كتاب عالميين، إما لمعالجة بعض القضايا المجتمعية من خلال التخيل والتصورات، أو تدوير الحكايات القديمة بأسلوب قصصي بديع وهادف.

ارتكزت المجموعة على مسارات الماضي السحري، بتقنية سردية مذهلة ومشوقة، وايحاءات أو اسقاطات تعالج الواقع البائس، يستطيع القارئ وبصعوبة تحميل هذه النصوص بعض الإشارات، برغم أنها مفتوحة وتحتمل تأويلات جمة.
 

الكاتب وكعادته، لم يغفل إمتاع القارئ من خلال وصفه للشخوص، والأماكن التي يتحرك فيها أبطال العمل القصصي، بصورة مميزة ومتناهية الدقة، رغم أنه أسلوب يحاول الكثير تجاوزه أو التخلص منه، مع أنه ركيزة أساسية في بناء الأعمال القصصية والروائية.

ما يميز الكاتب في جل أعماله؛ الرمزية العميقة، والاشتغال على أفكار واقعية شائكة.
ولأن الكاتب عانا كثيراً من الرقابة والمضايقات، إلى جانب إدراكه سلفاً، لحساسية الأفكار المطروحة، فقد اتخذ من تغليف النصوص والأفكار، وأحياناً العبارات؛ بالغموض أسلوباً ومنهجاً، لدرجة أن كثير من القُراء وخاصة القارئ العادي، يعاني من تفسير أو فك الطلاسم.
بل يشكو من ذلك علناً.

من بين كل أعماله تبرز هذه المجموعة كعمل استثنائي، ارتكز على الذاكرة الشعبية، كمخيلة لا يمكن الاستغناء عنها؛ في إثراء روح الإبداع لدى جيل الأطفال، وتحفيز خيوط التصورات لديهم لفهم واقع سحري، يتجلى تباعا مع تقدم الطفل في العمر.

كما أنها تستدرج الكبار، إلى ماضيهم الذي حاولوا التخلص منه بداعي التطور والحداثة.
فمثلما شكلت الأسطورة والملاحم، والخرافة، والحكايات الشعبية، في مراحل عديدة من تطور البشرية؛ رافعة قوية لفهم الطبيعة، وحركة المجتمع وعلاقته باللاهوت، والإيمان والعقل، والفيزياء. حتى في جوانبها السلبية.

فإنها بالمقابل كانت ولا تزال، مصدرا للخيال الخصب لدى الرواة والمفكرين حتى اللحظة، وظلت عكازاً لدى السياسيين والأنظمة من خلال الاتكاء عليها، لتمرير ما أمكن تمريره من القوانين الملزمة، والسيطرة على الهواجس؛ بالتخويف والتبرير.
باستثناء ما حدث من تغير جذري مع بداية ظهور عصر النهضة في أوروبا.

 

 

**الحاضر بأدوات الماضي:
كل ذلك المتناقض والخرافي هو من لا يزال يدير المجتمعات حتى اللحظة، ولا زال مرجعا لكثير من العقول أو الجماعات.

وبرغم ما فعلته الاكتشافات المذهلة، والتطورات الرهيبة في العلوم والفيزياء والفلك، إلا أن السائد في معظم الأفكار ما يزال مرتبط بالفانوس السحري، والجن واشكالهم وحياتهم، والكنوز والأشباح والقبور، وأشكال الطلاسم والسحر والشعوذة، والعين والدعوات التي تصيب الآخر بلعنة المرض أو الفشل في الحياة.

حتى السياسة والسياسي، ما زال يمارس ذات الأفكار في كل صراعاته؛ للوصول إلى قمة التجهيل، ممتطيا جواد الوعي المزيف.

 

**مسارات:
تحمل المجموعة بساطة سردية، لا يمكن لأي كاتب تقديم هذا النوع من الضجيج بهذه التقنية، والتنقل من قصة إلى أخرى، ومن فكرة رائعة إلى فكرة أروع.
لقد شكل موروث المجتمع القريب والبعيد، مادة دسمة لكثير من الأدباء، أمثال ماركيز وباولو وحتى شكسبير، وعديد من الأدباء، هذا على المستوى القصصي المتوارث، وليس المرتكز التاريخي للأحداث والشخصيات، حتى أننا نجد بعض القصص المُحدَّثة، يشير صاحبها في نهايتها، إلى أنها مأخوذة من التراث الفلاني.

 

 

**وتر الحقيقة:
في هذه المجموعة يحاول الكاتب العزف على وتر الحقيقة، لا أكثر. الحقيقة التي نحاول الظهور كمجتمع يمني وعربي بأننا تجاوزناها، برغم أنه لا زالت هناك ممارسات يصعب توصيفها، لم نتجاوزها بعد، بل أننا ابتكرنا وبكل خبث كمجتمعات؛ فنون جديدة من الممارسات التي يفترض أن نكون قد تجاوزناها منذ قرون، فلا زال هناك الفهم المغلوطة في العلاقة مع الآخر، ولا زال الظلم يمارس من قبل جماعة على جماعة أخرى، ولا زالت العادات المجحفة تمارس علنا، ناهيك عن أنَّ السلطة على كل المستويات؛ هي المحرك الأوحد لتوجه الفرد والمجتمع، حتى المستثنى من هذا كله على أساس تنويري ينقاد مجبراً للسائد.

 

 

**محاور لا تتلاشى:
اليهود هم جزء من هذه الأرض، قبل أن يصبحوا مجرد عابرين، لهم هويتهم ومعتقدهم وأعمالهم وعلاقاتهم بالآخر، ولهم معاناتهم، لذا من الصعب إغفال هذه الشريحة التي تبخرت تماماً؛ لتشكل برحيلها عائقا فكريا وحاجزاً منيعا، لا يمكن من خلاله تجاوز الأنا والآخر، والذات والذات الأخرى.

عصر الإمامة من العصور التي شكلت وعيا جماعيا ممتداً حتى اللحظة. آثاره ظاهرة ومتغلغلة، تخفت تارة لكنها أقرب إلى تلك النار التي تحت الرماد.
المرتكزات التي انطلق منها الكاتب أو التي بنى عليها مجموعته متعددة سأذكرها لاحقاً.

 

 

**نزق العقل:
تعرضت الخرافة والاسطورة والحكاية الشعبية لتجاوزات كبيرة، وإن كان هناك؛ من رد لها اعتبارها بصورة علمية دقيقة، من خلال دراستها، ومنحها ما تستحقه من الفهم والتأطير الصحيح.

إلا أنه لا زال العقل يمارس عليها سلطة التقليل والتحقير، دون علم باساسيات هذا الفن عبر التاريخ.
لقد حان اليوم تقديم الاعتذار لهذا التراث، بعد أن ثبت بؤس الحداثة، وشقاء السياسة، وضعف القوانين، والتي لم تشفع أبداً في انتشال هذا الكائن الضاج، المهموم، بصورة كاملة من المعاناة والتحليق بعيداً عن الزيف.

 

 

**ركائز مهمة وعنوان صاخب:
ارتكزت المجموعة على محاور عديدة أهمها: الأرض والجبال، المتمثلان ب"الساحل التهامي" وهي الجغرافيا التي ينتمي إليها القاص، والليل المتمثل ب "الظلام"، فَوادي الضجوج إشارة بالغة الدقة إلى مجتمع يرضخ تحت تأثيرات الخرافة، حتى كلمة الضجوج بدل الضجيج اختيار حمل على عاتقه هذا السرد القصصي البديع، كإشارة ذكية جداً لمضمون العمل.

تميز الكاتب في أعماله باختيار عناوين ذكية، تستدعي التوقف طويلاً، مثلا: مجموعته المعنونة ب"صورة البطال" الصادرة من دار أزمنة نهاية التسعينات، ثم روايتيه "قوارب جبلية" و "حمار بين الأغاني" والآن "وادي الضجوج".
الضجوج كلمة ليس لها وجود في القاموس بهذا الشكل، وهذا ابتكار لا علاقة له باللهجة الدارجة بقدر ارتباطه بالإبداع.
وهي مأخوذة من الضجيج ضج يضج، وتعني الجلبة والصخب والضوضاء.
وقد ورد بأنها أي الضجيج، صوت الإنسان من المشقة وصياحه عند الفزع والتعب.

وادي الضجوج مجموعة قصصية لها أبعادها الاجتماعية، وعنوانها يرمز إلى أوجاع هذا البلد "وادي" وهذا الكائن "الضجوج"، وتعبه الذي لا ينتهي، وأوجاعه التي تلازمه حتى في تنفسه للهواء، وحتى عند النوم.
وربما هي إشارات لجغرافيا محدودة، وهي المنطقة التهامية الساحلية، التي تضج بالأوجاع والمشاكل والتهميش، وهي بيئة بسيطة تمتاز بالطيب، والموروث التاريخي، والمراجع الدينية والصوفية، واضرحة الأولياء.

 

 

**المكيال السحري وأخواتها:
"وعلى استحياء أخرجت الجِنيَّة نهدها من فتحة قميصها فتدلى ملامسا الأرض، ثم القمته صغيرها". تدور حول قابلة تذهب ليلا لتقوم بتوليد جنية، فتحصل على مكافأة ثمينة وهو المكيال السحري.

أما في قصة "مساوى" والتي تتحدث عن تناسخ الأرواح، ليس بعد الموت وإنما تحول روح الآدمي إلى حيوان بفعل السحر، فتظل الروح عالقة بينما يتم مواراة الجسد. القصة رائعة ويمكن تحميلها أبعاداً اجتماعية مؤلمة.

ثم قصة الأعمى، وعيشة، شباذة، الجنية سارقة الفطير، عسلان ونبات؛ وهي من أطول قصص المجموعة وأجملها بعد قصة "غيثان" التي تأتي أخيرة في سلم ترتيب المجموعة، ثم وادي الضجوج والذي حمل عنوان المجموعة كدلالة واضحة على المكان والزمان والبيئة، نباش القبور، بُكير، حزيران وسلطانة، غيثان.

 

 

**الإهداء:
بعد العنوان مباشرة يأتي الإهداء، وقد لفت نظري المُهدى إليه. "إلى المستنير. صديقي الشاعر عبد الوهاب المقالح". هي لفتة رائعة من القاص تجاه المترجم والشاعر الذي يعمل بهدوء، وهي إشارة ذكية جداً إلى؛ أهمية ترجمة هذا العمل بالذات، لما له من دلالات وأبعاد وأهمية في فهم طبيعة تفكير المجتمعات.
وهنا أود التنبيه إلى نقطة مهمة، وهي أن الإيمان بالسحر والشعوذة والجن متواجد في كل أنحاء المجتمع اليمني، لكنه متفاوت فأينما يحل الفقر وقلة الخدمات تنتشر هذه الظواهر بصورة أوسع.

لندع القارئ يفتش عن المجموعة، وخباياها، كي يستذكر طفولته وصوت جدته، ولن نستعرض كثيراً، ففي عسلان ونبات، يتسع السرد بين الإثارة والحب، والعادات المجحفة والثأر والانتقام، ومراحل القيود الخشبية التي كانت سائدة في فترات حكم الأئمة.
لقد أوجد الكاتب مساحة واسعة ونفس طويل كما فعل مع قصة غيثان الأخيرة وعسلان ونبات، واللتان تصنفان أدبيا ضمن القصص الطويلة. 

 

على اعتبار أن هناك قصة قصيرة، وطويلة، ورواية، قبل أن تنتشر أشكالاً جديدة ومنها الومضة، والاقصوصة.

 

 

**ذاكرة:
إن مجموعة وادي الضجيج تعيد الإعتبار للذاكرة الشعبية، وللحكائيين القدامى، وتنبش في مجتمع مليء بالمتناقضات الصادمة.

مجموعة الضجوج التي تعتبر من المجموعات القصصية المتخصصة إن جاز التعبير، يجد القارئ نفسه أمام عمل قصصي بحثي يختص بجانب معين من الكتابة الأدبية.
لقد كان الكاتب ذكيا جدا وهو يقدم هذه المجموعة بهذه الصورة، جميعها تدور حول التراث الشعبي للمجتمع اليمني؛ بغض النظر عن الترميز والمجاز، والأبعاد التي يسعى اليها الكاتب والقارئ معاً.

فهو بهذه الطريقة وضع المتلقي المحترف لكتابة الأدب والقصة أمام وجهتين: أما وأن يكتفي بالقراءة لأنه لن يستطيع الإتيان بعمل قصصي من هذا النوع وعليه نسيان التكرار. أو عليه الكتابة بصورة مختلفة تتفوق على هذا العمل.

ولأن الأمر ليس بالسهولة فإن أي عمل كتابي سواء كان تقريراً صحفياً، أو رواية أو شعراً أو قصصاً، فهو يعتمد أو يرتكز على البحث، والبحث يشمل قراءة التاريخ والجغرافيا وحياة المجتمعات الخ.

كل هذا يشكل لديك ككاتب وباحث خارطة طريق ثرية قبل أن تقدم على كتابة أي عمل.
ما يقدمه الكاتب وجدي الأهدل للمشهد الأدبي منذ منتصف التسعينات حتى اليوم يعد ثروة حقيقية لمن أراد التزود...
شخصيا لم تنطبع مجموعات قصصية ولا كتب كما فعلت مجموعتي صورة البطال، وزهرة العابر، وقوراب جبلية، على المستوى اليمني.

 

 

**مقترح:
يمكن لبعض أعمال وجدي أن تصل إلى المنهج الدراسي، وما أكثرها وأهمها وتحديداً في فن القصة القصيرة والطويلة، كما هو الحال مع أعمال علي أحمد با كثير ومحمد عبد الولي والدكتور عبد العزيز المقالح شفاه الله وأطال في عمره والبردوني.
هذا المجموعة تستحق الترجمة، وتدريسها في المنهج الجامعي والثانوي، وتستحق أن تجد طريقها إلى الريف، حيث جيل من الأمهات لا يعرفنا شيئاً عن أهمية الخيال لدى الطفل في مرحلة معينة، كي تحيي الحكاية الشعبية من جديد، بعد أن سيطرة الشاشة بمسلسلات مملة ومرهقة، وقصص كرتون بلا مضامين حقيقية.

منقولة من مجلة أقلام عربية ...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً