الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الحيــاة مـن نوافذ الـموت سرد عُماني - محمد الغربي عمران
الساعة 09:42 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

 المزروعي سارد وكاتب من عمان ..تكرم بإهدائي مجموعة من إصدارتها ..منها :
- لعنة الأمكنة.. قص قصير..طبعتين ..دار ميريت القاهرة 2003..ودار نينوى دمشق 2011م
- التباسات.. نصوص.. مسقط وزارة الثقافة 2007..وبيت الغشام للنشر والتوزيع مسقط 2014
- الرائحة الأخيرة للمكان.. قص قصير ..طبعتين دار نينوى 2011..بالتعاون مع ملحق أقاصي مسقط..
- سيرة الخوف قص قصير جدا..صادرة في 2014 عن دار الانتشار العربي بيروت.

 

ومن خلال قراءتي الأولى لنصوص تلك الإضمامات الصادرة تباعا .. لاحظت أنها تعالج مواضيع شتى للموت.. أو بالأصح الحياة من نوافذ الموت إن جاز لي التعبير.. فمثلما هناك من ركزت كتباتهم على خصائص مجتمعات الصحراء.. وأخرى بأدب الأحياء الشعبية .. وكذلك البحر والسجون.. وأدب الحرب . فهذه النصوص تقدم لنا الموت بشكل مباشر وغير مباشر.. من حيث الفكرة أو الإيماء من خلال استخدام مفردات الموت بشكل مركز.
 

 

- سيرة الخوف.
 

احتوت على أكثر من سبعة وعشرين نصا قصيرا جدا. منها سبعة عشر نصا قاربت الموت بطرق مختلفة .. وهي العناوين التالية: غابة.. جنازة.. خوف.. فقد.. شرف.. عدم.. رائحة.. حالة.. نيازك.. ظلام.. تغريدة.. خبر.. سكري.. بؤس.. حيتان.. خط.. ونص نباح. والملاحظ أن عناوين جميع تلك النصوص جاءت بمفردة واحدة .. كما أن بعضها يشير أو يوحي بالموت مثل جنازة وفقد وبعضه يتماس معه مثل حيتان وخوف. وسنأخذ من تلك النصوص نصين أحدهما يشير إلى الموت الجزئي مثل نص بعنوان سُكري "كانت تلعن السكري في سرها وهي تغرس إبرة الأنسولين في عضلة زند زوجها" وهذا النص من إضمامة "الرائحة الأخيرة للمكان". لم يستخدم الكاتب أي مفردة تشير إلى الموت .. لكن الزوجة تلعن السكري .. وهنا نتساءل لماذا تلعن السكري؟ وبمعرفة العلاقة بين الزوجة والزوج نستنتج بأن لها أسبابها في لعن السكري.. قد يكون عطل قدرات معين .. وأضحى الفراش للنوم ليس إلا .. لندرك بأن الزوج يمر بالموت الجزئي ..فكثير من الأمراض تدخل على الكائن البشري لتعطل بعض أعضائه أو حواسه .. وهنا يلحق الضرر فيما يتصل بشريكه. هذا النص قدم لنا الكاتب بشكل رائع ..كاتب مقتدر على إيصال ما يريد إيصاله في كلمات محدودة بدلا عن صفحات.....
ونص آخر يشير إلى الموت الكلي بعنوان جنازة" امتدت الجنازة بطول الشارع الممتد من مغسلة الأموات إلى مدخل المقبرة.. كل المشيعين منكسو رؤوسهم يحوقلون ويستغفرون.. وفجأة استيقظوا على صوت خلفان (موحش القبر) :الخشبة ما فيها احد !" المفارقة أن تختفي جثة الميت .. أن تتناغم أسئلة وأسئلة لدى القارئ :هل عاد الميت للحياة ؟ لكن كيف اختفى؟ هل سحبه أحدهم من على خشبة الجنازة لكن لماذا؟ في الأمر شيء سبب اختفاء الجنازة ! أن يختتم الكاتب نصه بمفارقة غريبة فهذا غاية الإدهاش . وهكذا تنوع تناول الموت في تلك النصوص من موت الكرامة في نص رائحة إلى موت الروح في نص ظلام ومن موت الضمير في نص تغريدة إلى موت الأخلاق في خبر ومن موت معنوي في خط إلى موت إيحائي أو حتمي في نص نباح" في البداية لم يكن في الحي سوى كلبة واحدة نادرا ما يسمع نباحها , إلى أن رأت كلبا مصادفة وأخذت تنبح وتهز ذيلها بشكل متواصل , أصبحا صديقين يشتركان في النباح . تجمعت كلاب كثيرة في الحي وشاركتهما في حفلاتهما الليلية المتواصلة . جاءت ليلة لم يسمع قاطنو الحي نباحا. تيقنوا أن في الأمر سوءا" في هذا النص لم يأت الكاتب بأي مفردة تشير إلى الموت.. حتى نهاية نصه حينها وضع المتلقي أمام عدة احتمالات وأقواها أن تكون فرق مكافحة الكلاب المتشردة قد قامت بواجبها .. أو أي احتمالات أخرى إلا أن الفناء يظل هو الاحتمال الأقوى .

 

 

- التباسات.
 

عشرة نصوص نثرية حرة جمعت بين فن المقالة والخاطرة والسرد .. هي الأخرى يحضر الموت بأشكال مختلفة.. منها سبعة نصوص أثث كاتبنا جل صفحاتها بمفردات تشي بالموت وتلك النصوص : متلازمات الألم .. كوقع حافر غزالة على الرمل.. انثيالات ليلة البارحة.. في رثاء أثرك واقتفائه .. ما الوجد .. فجيعة المطر.. رسالة إلى فرجينيا وولف.
إلا أن رسالة إلى فرجينيا وولف.. تمجد الموت من خلال خطاب ومحاورة الكاتب للراحة .. يناجيها بمشاعر الكائن الصادق وقد تدفقت كلماته بشكل سلس وشذي" سيدتي فرجينيا وولف:هنا/ الآن /التو , لا أريد أن أحكي لك عن تيار الوعي وتداعياته.. بقدر ما أود أن أحكي لك وتحكي لي كيف قضيتي آخر ليلة في هذا الوجود ورحلت- يواصل الكاتب تساؤلاته كيف خرجت من دارها باتجاه النهر وأي أفكار كانت تقودها حتى اتخذت قرارها الشجاع – صرخت بجسدك وابتهلت لألمك وأخرجت من جدران الصمت واجهت الغامض لتكتشفي سره المكنون ركضت باتجاه أووز لتتركي الجيوب مثقلة بالحجارة" وهكذا يناجي الكاتب الغيب بجلال وجمال.. يمجد الجرأة في مقاومة القبح والظلم والتسلط مشيدا بشجاعتها في اقتحام مياه نهر أووز وجبنه وهو يعيش روح العالم وحروبه وفظاعاته. وفي نص فجيعة المطر "ما أجمل هذا الفجر المملوء بالميلاد المذيل بالموت الرديء الذي لم أنتظره أبدا على مشارف السماء الماطر" " ضوء المصباح الشاحب يربك اللحظة وينازعها البقاء بهدوء ضوئه يجيء جنائزيا مائلا على الصفرة كوجنتي طفل يحتضر .." وهكذا هي بقية نصوص الإضمامة تتماس مع الموت باستخدام مفرداته كما تعالج بعضها تلك المواقف الإنسانية التي يلجأ فيها الفرد للموت هربا من الموت ..

 

 

- الرائحة الأخيرة للمكان.
 

أثنا عشر نصا تأثث مفردات الموت بعضها.. ومنها العناوين التالية: الرائحة الأخيرة للمكان .. خطيئة.. الانحناءة الأخيرة لرقبة مالك الحزين.. طمع.. رصاصة رخيصة.. عواش.. حكاية عبدالله.
لم يكن الموت في تلك النصوص بديعا.. ولم يكن غاية لدى الكاتب.. لكنه يأتي به ليطل على القارئ من نوافذ الحياة .. فنص رصاصة رخيصة .. يحكي عن قاطع طريق يتمترس خلف صخور الجبل حتى إذا ما رأى عابرا يقدر غنيمته..وعندما يجد بأنه الرابح.. يسارع إلى إطلاق رصاصته ..يسارع بجمع غنيمته ويعود للحياة .. وفي هذا النص يخيب ظنه حين يقارن بين ثمن الرصاصة وما جناه من ذلك القتيل .. ليجد بأنه الخاسر .. كانت حسابات اللص بعيدا عن تلك الروح الآدمية التي أزهقها.. وكذلك في نص طمع.. يحكي حكاية لص آخر يصعد النخلة ليلا لسرقة بلحها معتمدا على حبل يحتضنه .. يصعد ويصعد لتخدعه النخلة التي كانت دون سعف فلا يجد الحبل ساقا يحتضنه.. بل يهوي من علوها ليفارق الحياة أسفل جذعها. وفي نص بعنوان عواش نختار آخر جمل النص حين كتبت الفتاة عواش إلى حبيبها " حبيبي لم يخالجني شك حبي لك ولم أكن أشك في حبك لي ..لكن حتى يعيش حبنا أكثر ..وحتى لا نحترق .. سنفترق- قرأ رسالتها وهو يتذكر لحظات حبهما .. ثم وقد سرقها أحد رجلا آخر.. ليحدث نفسه - لم أناقشك في ما حدث.. لأني علمت بعد فوات الأوان بمؤامرة المتسلق الذي سرقكِ ورماك في أحد مستشفيات مسقط عزلاء ينهشك السرطان والحزن والوحدة إلا من صرة صغيرة تحملينها في قلبك" هي الجملة الأخيرة في النص التي تفضي بها إلى الموت ..والفراق لقلبه وكأن الموت فضاء من الحيرة والانعتاق والكبرياء لا يجترحه إلا أصحاب الأرواح السامية .
ودوما ما يكون الموت في جل تلك النصوص هو الخاتمة كما هي الحياة .. ففي نص الانحناءة الأخيرة لرقبة مالك الحزين يأتي يختتم النص"حاول أن يحرك ساقه التي يقف عليها لم يستطع تحريكها ..ثم حاول أن يحرك جناحيه لكنه لم يفلح.. حتى عينيه لم يستطع أن يحركهما .. اكتشف أنه يستطيع أن يفكر ويتخيل لكنه لا يستطيع أن يتحرك أبدا .. انفجرت فجأة دمعة من عينيه اللتين لا يستطيع تحريكهما ..في البداية تدحرجت على منقاره ومن ثم هوت على سطح الماء كالشهقة لتمضي مختلطة برائحة الصبية المنتشرة في المجرى.." هكذا ينتهي النص بعد أن ظل مالك الحزين يغتسل بمياه المجرى المحمل برائحة جسد فتاة في أعلى النهر.. وهكذا يبدأ الكاتب نصوصه بالفرح والنشوة ليختتمها بجمل توحي بالموت .. وهي نهايات تبدو كما لو كانت نوافذ أو دعوات للحياة والاستمرار أو أن الموت معبر لما هو أجمل وأروع مما نعيشه في هذه الدنيا.
في عشرات النصوص يحضر الأمل موازيا للموت.. على شكل تداع وحوار مع النفس أو أحلام لحياة أكثر جمالا ومتعة.. كما يحضر فضاء البحر والنخيل بشكل كبير .

 

 

- لعنة الأمكنة.
 

"لعنة الأمكنة" احتوت على خمسة عشر نصا منها عشرة نصوص جاء فيها ذكر الموت عابرا بين صدورها ولم يكثر الكاتب .. مفردة هنا وأخرى هناك ..ونصوص كان الموت هو المحور الأساسي الذي عالجه الكاتب كقضية وجودية.. ومن تلك النصوص : خطوات لزجة .. القبو .. مجدلية الزمن الآتي.. قرية النفاق وما حدث فيها.. هذا الليل ما أطوله.. سِفر الجنون اللا متناهي.. عندما سرت في جنازتي.. حكاية صديقي الذي لم يمت.. لعنة الأمكنة.. ذاكرة الموت الشائخة ..هدوء بغيض.
سبق أن ذكرنا ورود مفردة الموت في بعض النصوص بشكل خفيف .. لكن الكاتب أوردها في بعض النصوص بشكل مكثف وملفت ففي نص "ذاكرة الموت الشائخة" أثث كاتبنا هذا النص بست عشرة مفردة منها : الموت .. لنموت.. تابوتا.. تموت.. نموت.. تقتلني.. مسجى.. مات.. نموت.. فالموت.. جثمان.. الروح تهتز.. أهلنا التراب.. الموت.

 

وفي نص "خطوات لزجة للفرجة" جاءت في ثلاث وثلاثين مفردة للموت أو ما يتصل به.. منها: جنائزيات.. كجثتين.. يحنطونني.. لحدا.. ماتت.. أموت.. أقتلني يا الله.. قتلوه .. يموت.. أموت.. الميتين .. دفنتهم.. موتوا.. الموت.. تموتون.. موتي.. الموتى.. الرمق الأخير.. غيبوبة.. أضحية.. تقتلني.. يقتل.. الميت.. بموته.
وذكر مفردة الموت لدى المزروعي ليس ترفا .. أو فضفضة وكلاما زائدا عن حده.. بل أنه يأتي بها في بناء المعنى موضوعيا وفنيا. ففي نص هدوء بغيض يقدم لنا مشهدا طبيعيا آسرا على ضفاف نهر تلتقي بخضرة الأحراش وتظللها زرقة السماء.. ليذهب بالقارئ مثيرا في كوامنه الهدوء والسكينة وهو يشرح ذلك المنظر الطبيعي الخلاب وقد أبحر عاشقان على ظهر قارب يمضي على سطح الماء.. لتحدث عاصفة مفاجئة تقلب ذلك المشهد من مشهد شاعري ورومانسي إلى رعب يخلف جثتين لفضهما الماء إلى اليابسة.. هنا يحضر الموت كخاتمة حتمية لحياة رمز لها الكاتب في بداية نصه بذلك الجمال والسكون .. وهكذا في نصوص كثيرة نجد الكاتب يفاجئنا بنهايات قاتلة بعد متن مليء بالحياة والجمال ففي نصوص: لعنة الأمكنة.. وعندما سرت في جنازتي.. وفي هذا الليل ما أطوله.. وحكاية صديقي الذي لم يمت. نجد أن الكاتب يقدم الموت كحياة هادئة.. ليختلط على القارئ بين الحياة والموت في تلك النصوص.. حين يقدمها بأسلوب ساخر.. ناظرا للموت كما لو كان فسحة للتأمل " نعم ذلك المكان ... صار لي صفاء أبتعد به عن صخب الإنسان والحياة ,ولأتذكرك ,وقد كتبت لك هناك الكثير من القصائد عندما مت" من حكاية صديقي الذي لم يمت "المكان هناك صوفي جميل تطوف حواليه أرواح الأموات كضباب لا يغادر الروح" و " شكرا لأنك أرحتني مرة أخرى من ضنى الحياة وموتها الذي تعيشونه أنتم المساكين بني البشر" من نص لعنة الأمكنة "قطفت زهرة وأخذت أتعثر بشواهد القبور محاولا الوصول إلى قبره.. كنت في كل خطوة أقف وأنظر حولي.. المكان سكون ونسمة القبور تداعب روحي حتى أغرتني بالموت, لكن ليس قبل أن أفي بوعدي" من نص هذا الليل ما أطوله.

 

الكاتب لم يقدم نصوص اضماماته الأربع بشكل مكرر وبأسلوب متشابه.. بل نوعها ليقدم في بعضها عناقيد سردية أجاد نضد أفكارها في أثواب غاية في الإتقان والصدق الفني. ومن تلك العناقيد ما جاء في إضمامة لعنة الأمكنة :
خطوات لزجة للفرجة.. القبو.. قرية النفاق وما حدث لها.
وفي إضمامة الرائحة الأخيرة للمكان العناقيد التالية: كائنات حانة اللؤلؤ..عواش.. ثلاث صور.
وفي إضمامة التباسات العناقيد التالية: انثيالات ليلة البارحة. وقد جاءت تلك العناقيد القصصية لكل نص عنوان رئيسي ثم يليها عناوين فرعية.. تحكي حكاية واحدة.
وقد اعتمد الكاتب في جل نصوصه على راو عليم ما جعل سرد تلك النصوص أكثر إلماما بجوانب الشخصيات وتفاصيل الأحداث. كما يلاحظ حضور الريف وبالذات ببيئته العمانية.. ومسمياته وتلك الخصائص الفريدة.كما أن الكاتب كرس لبعض الأسماء في أكثر من نص مثل مريم أو مريوم .. كما حضرت أسماء كثيرة في بعض النصوص مثال نص "القبو " والذي لم يتجاوز الخمس صفحات .. لتحضر أسماء كثيرة .. ومنها: الراوي.. زوينة.. صالح الأب.. حمدان.. سويدان.. عبود.. جمعة.. حمود.. محمد.. خديجة.. عيسى. وهذا من نفس روائي .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً