الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
نزوح - ريم مجاهد
الساعة 12:20 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

  
أقف على حافة العمر منذ أيام. جلب أبي وإخوتي أشياء اضافية ثم رموها في الصالة. كانت الأكياس السوداء العملاقة تملأ المكان، ونحن منخرطات في تجميع وتفكيك كل شيء. لم يقل أبي أكثر من اللازم، كان مكلوماً ومذَلاً فحسب. يستفزني أنهم كذكور يعتقدون أن ذلك شأنهم لوحدهم. تلك النار أكلتني بقوتها أكثر مما أحرقتهم، كنت أحسها تنبعث في قلبي قوية وشابة وتدفعني لتمزيق الأكياس العملاقة كلما أتيحت لي فرصة.
أمي وزوجة أبي الثانية في سلام غير حقيقي، تحاولان إيجاد الأرضية التي سيتفادين بفضلها غضبة عارمة من أبي. كان قد ترك مسبحته المقطوعة في الصباح وذهب بوجهه الذي ما زال منتفخاً، "ضربوني حسب هويتي"، قالها بصوت منكسر لجارنا الذي لم يكن من تعز كما هو حالنا. كان أسعد حظاً كونه من الضالع، تأسف الرجل لوضع أبي وصب لعنة وشتيمة، "سيحرقون محلي إن لم أرحل حالاً ــ استدرك أبي ــ هددوني بذلك. وسيقتلون أبنائي. إنهم جادون، هل أنا إرهابي يا خالد؟ هل عمرك رأيت أحد أبنائي يتدخل في السياسة؟ هل بعنا أسلحة؟ أنا أبيع الأثاث المستخدم، أنا أغسل قذارة الناس هنا في بيتي ليجلس عليها كل هؤلاء الذين جاءوا ليقتلوني اليوم. لم يكن لديهم ما يغطون به مؤخراتهم الوسخة والآن يريدون حرقي وأبنائي ومحلي لأني من تعز؟ بالله عليك يا خالد وين أروح؟"

ولم يبكِ أبي رغم أنه كان على وشك. لكنّا بكينا. كنت مع زوجة أبي نقف بجانب الباب الموصد وجارنا مع أبي في الطابق الأرضي للمبنى. اشترى أبي هاتين الشقتين وعشنا هنا كل يوم، لم نغادر أبداً ولم ننم في مكان آخر غير هنا، تزوج أبي زوجته الثانية وأحضرها لتعيش في هذه الشقة وبقينا نحن في الشقة الأخرى، وكبرنا معاً مثلما صغرت أحقاد المرأتين تجاه بعضهما البعض. وخالد ورث الشقة عن أبيه، وطيلة الخمسة والعشرين عاماً من حياتي لم أحب أو أكره هذا المكان، كان شيئا يشبهني، لم اختره ولم أحدد مشاعري تجاهه، أذهب وأعود إليه كالقدر المحتم، كأن لا خيار ولا أي مكان في العالم يمكنني أن أعبر إليه. وحتى عندما تكبر المشاكل في بيوتنا لا أتمنى لو كنت بعيدة عن هنا، كنت أتمنى لو كانوا هم بعيدين عن هنا، لم يسمح لي خيالي أن أبتكر جغرافيا جديدة لي، بإعتقادي كان هذا ما وٌهبت.
لم يتحدث الكبار عما حدث، كان وجه أبي متورماً بسبب الضرب، وإخوتي الثلاثة أيضاً، لكن قلوبهم كنت متورمة أكثر. ولم نسأل، لم تسأل الزوجتان ولم تسأل الفتيات حتى المتزوجات منا، كنا نعرف أن لا أحد سيجيب. ومحميات بخوفنا واصلنا كأننا نعرف كل ما حدث، رغم أننا لم نعرف سوى ما أخبرنا به أخي الصغير، بأن رجالاً ملثمين اقتحموا عليهم محل بيع الأثاث المستخدم في الشيخ عثمان، طلبوا منهم هوياتهم، ثم بدأوا في العبث بالأشياء. وحين حاول إخوتي ردعهم، انقضوا عليهم بأعقاب البنادق، وتدخل أبي ليلقى ما يلقاه، رغم إنه احتفظ بالمسبحة في يده ولم يسقطها. تدفقت الدماء هنا وهناك، والكنبات المستخدمة بروائحها العتيقة والعفنة بقيت على الأرض. لم يتدخل أصحاب المحال المجاورة، كل عبّر بوجهه عن نوع البطاقة التي يحملها، إصفرت وجوه البائعين القادمين من مناطق الشمال، كانوا يعرفون أنهم غير محميين. في الأمس القريب سحلوا بائع خضار من ذمار، ثم أردوه قتيلاً. الشك يحاصر ويلاحق الجميع، والخلايا النائمة أصبحت جزء من التهمة وجزء من القضاء، وحديث الباعة الوحيد.
أبلغنا أبي بقراره، كان قد مضت أيام على الحادثة ولم يفتح أبي المحل مجددا، "سننزح إلى صنعاء، لم يعد لنا بقاء هنا"، كانت "ولكن.." كبيرة جداً معلقة في الهواء، بين أعيننا وكلمات أبي. إخوتي كانوا يعرفون، مضغوا القات مجتمعين مع الأصدقاء في الديوان وتحدثوا كما يبدو طويلا وقرروا. فرد أبي يديه ثم شرح: "اتصلت بصديق وقد تدبر لي بيتا هناك، البنات والأولاد الصغار سينتقلون الآن ثم سيعود صلاح ليتكفل بموضوع مدارسهم والشهادات. صفاء ــ أنا ــ ستنتقلين الآن وبعدها سنبحث مسألة نقل عملك في الوزارة. شهد ونادية سننقل جامعتكن إلى صنعاء، وأنا والشباب سنستأجر محلاً جديداً هناك. سننقل معنا ما تستطيع الشاحنتين حمله والباقي سنحاول بيعه هنا، والشقتين سنتركهما حتى نجد مشترياً مناسباً. وصحيح أن صنعاء أيضا خطرة، لكن على الأقل لن يقتلونا حسب البطاقة، والتجارة هناك نشطة أكثر من هنا، لذا سنبدأ بداية جديدة، والله الموفق والحامي من كل شر، سنتكل على الله".
لم يكن هذا أبي. أبي لم يكن رجلاً يمكن أن يشارك أو يضع خطته للنقاش. كانت عيناه حمروان، وكان مهزوزاً ضعيفاً، وأصابعه ضائعة بدون مسبحته. كنت أحب أبي، وأعرف أنه يكذب بشأن نقل عملي، فصنعاء لم تعد تمت لعدن بصلة. كان يكذب بشأن كل شيء، لكنه قال هذا ليقنع نفسه بأن كل شيء على مايرام. كان يكذب بصوت عال وفج جداً، وكرجل خائف اختار أن يبدو أكثر حكمة على أن يبدو جباناً. وبدأت أشك إن كنت أحبه حقا، لم أطالبه بأن يحمينا، لكني تمنيت لو لم يتحدث قط، لو ظل صامتاً محتفظا بعجرفته وتفوقه، لكنه كان قد قال ثم انسحب، وانفجرت في الصالة قنبلة من التساؤلات والهمهمات والتوقعات والمخاوف، وتدفق سيل الاعتراضات وتوزيع المهام، وقبضت المرأتان على قلبيهما. كانت عوالم جديدة من الإثارة والرعب بانتظار الجميع، واصطدنا اللحظة لنتلصص على نوايا بعضنا، والأحقاد الصغيرة بدت غريبة للغاية حين تخيلنا أشياءنا مخزنة في الصناديق الكرتونية. وهذا ما حدث، حين جٌمعت الأشياء واختفت بوجودها المجرد لتتحول إلى علب كرتون مكتوب عليها بالخط الأحمر، أو أكياس زبالة سوداء ضخمة، والحرب الأبدية حول الأشياء أصبحت كأنها من ماض لا نتذكره.

 

تبقت ساعات على موعد الرحيل، لم يُقبِّل أحدنا حوائط المنزل، لكن أمي انهارت في نشيج مرير، وبَكتْ أخواتي المتزوجات، ووقفت زوجة أبي تسح دموعها غير بعيد، واختبأتُ أنا في الحمام، أنظر طويلاً للمرآة واستدر دموعاً رفضتْ أن تستجيب..
 

أعبر البسطة بين بابي الشقتين. قدمي بيضاء والحناء تزينها، وسألت نفسي لكم مرة عبرت هذه البسطة، وكم كان حجم قدمي حين عبرتها لأول مرة، وهل ستكون هنك بسطة مشابهة لها في صنعاء؟ أدلف للشقة الأخرى، كانت الثياب دافئة وقد أدٌخلت من الشرفة، دفنت رأسي فيها أشتم ما تبقى من شمسها ورائحة صابون "كريستال". كانت زوجة أبي مندهشة من تصرفي غير العاقل، لأن مهمتي هي أن أذهب باتجاه المطبخ لأجمع ما تبقى من الأدوات. صرفت خيالات شتى في الدقائق التي قضيتها في رائحة الشمس وكريستال، ثم نهضت تقودني الفكرة إلى المطبخ، أتساءل أيضا إن كنت قد انتبهت من قبل إلى أن لاصق ال"نينجا" على الثلاجة كان هناك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً، وأن مربع المغناطيس المزروع بجانبها كان أيضا هناك منذ زمن لم يعرفه أحد، وهل انتبه أحدنا أن السلة المعلقة هناك حيث تضع أمي الثوم، كان أبي قد جلبها من زيارة له لتعز، وأحضر فيها "البلس" (فاكهة الصبّار) من بائعات البلس وكان سعيدا بها وببلسها. هذا السلة الخزفية التي حال لونها ولم نغيرها قط، وصحون الأعياد الضخمة، ملاعق سكر الشاي الذهبية التي من أزل لا نعرفه، والقط الخشبي ذو العينيين الخضراوين خُلق ليعيش على رف خزانة المطبخ. كنت ألمس التفاصيل مسلوبة الروح بينما تندفع زوجة أبي لا مبالية، تقترح فقط أن نرمي كل شي للزبالة ونشتري جديداً. وكنت أوافقها باستمرار، إذ كلما أوغلت أكثر في الأشياء الأزلية كلما أصابني الإختناق.
تبقت ساعات على موعد الرحيل، لم يُقبِّل أحدنا حوائط المنزل، لكن أمي انهارت في نشيج مرير، وبكت أخواتي المتزوجات، ووقفت زوجة أبي تسح دموعها غير بعيد، واختبأتُ أنا في الحمام، أنظر طويلاً للمرآة واستدر دموعا رفضت أن تستجيب. جلب إخوتي أشياء أخرى من الخارج، مجموعة أكياس أخرى، رموها ثم خاطبني أحمد رأساً:" هذه مجموعة ملابس مستخدمة، اكتبي عليها حتى لا تختلط مع أشياءنا، سنوصلها أمانة لصنعاء، أرسلها أحدهم معنا"، ثم صدع آمراً رغم أنه يصغرني في السن: "اكتبي!". نظرت إليه بازدراء، واتجهت لأحضر قلمي الأحمر العريض ولاصقي الأبيض، وكتبت عليها بخط متعرج: "ملابس مستخدمة، أمانة" وأردفتُ في نفسي "سخافة"، وداهمني فضول غريب، فتحت آخر الأكياس الثلاثة، لأرى شكل الملابس المستخدمة. كانت ألوان شتى، ورائحة جميلة على خلاف المتوقع. غمستُ يدي عميقاً لأتناول قطعة لفتت انتباهي. كانت بلوزة خضراء اللون، مزهرة بزهور بيضاء باهتة، قماشها قطني، وعلى أطرفها دانتيل أبيض ناعم. رفعتها عالياً، لم تكن مقاسي وإلا لكنت استوليتُ عليها، لكنها منحتني شعور أني فعلاً أقف على حافة العمر. أعدتها وعقدت الكيس مجدداً، كرهت تلك البلوزة وكرهت اللحظة وكرهت فكرة أني أقف على حافة العمر حيث لا أرض معروفة لعمري الجديد.

منقولة من صحيفة السفير ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص