الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
قصة قصيرة
مشاوير مرهقة - أحمد مصلح الأسعدي
الساعة 08:09 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


 

رغم ان اهتزازات السيارة في الطريق الترابية تغمرني براحة غريبة، إلا أنني لم أتمكن من إسناد رأسي على زجاج النافذة. التفت إلى أمي، تجلس إلى يميني تحدق في الفراغ أمامها، وإلى جوارها أخي حميد بعينين خائرتين، يسند رأسه على كتفها، تحتضن كفه بكلتا يديها. حميد لا يغادر البيت من دوني، أصبحت أشعر بأهمية وأحياناً بتذمر إن كانت مشاوير علاجه مرهقة. ما أن التهمت الجبال قريتنا، حتى دخلت السيارة الطريق الاسفلتي، توقف اهتزاز السيارة فشعرت بمعدتي تنقبض، أكره السفر على طرق مستوية، مع أول منحنى للطريق شعرت بدوار، وما أن وصلنا أسفل “نقيل الرضمة” حتى تقيأت بشدة، أمي تركت يد حميد وحاولت أن تثبت لي الكيس البلاستيكي كي أتقيأ فيه، لم تنجح تماماً، استمرت السيارة في الصعود صوب “يريم” حيث وجهتنا الجديدة للعلاج، وخلالها تقيأت عدة مرات. شعرت بحنق تجاه حميد، وصلنا يريم، سألت أمي عدداً من المارة عن مركز الشريف المعالج، ركبنا باصاً باتجاه مدينة إب، الحقول المنبسطة جوار الطريق في منطقة “كتاب” سلبت لبي، ما أروع الصفحات الخضراء التي لا يكدرها حضور الجبال كما هي قريتنا، قليل من البيوت تتناثر حول الطريق. قبل جبل “سمارة” توقف الباص، ترجلنا، نظرت إلى حميد بشفقة بهيئته المتعبة، يرتدي ثوباً أبيض شبه متسخ، كان صعباً أن ترى أخاك الأكبر مجرد شبح دائخ، شعرت برعدة في مفاصلي عندما قفزت إلى رأسي فكرة أن الله قد يقرر أن يلحقه بوالدي، قفزت بلا هدى أحتضن يده اليسرى، صعدنا طريقاً ترابياً نحو بيت يربض على خاصرة الجبل وإلى جواره دكان. كان هناك كثير من الناس يدخلون ويخرجون، أناس إلى جوار مرضاهم بانتظار الشريف.. دلفنا عتبة الباب إلى ردهة شبه مظلمة، أخبرنا شخص أن ندع حميد في إحدى الغرف، وسيخرج الشيخ بعد قليل لمعاينته، استدرك عندما رأى أيدينا فارغة، كان يجب أن نشتري عدداً من البيض! الدكان الذي إلى جوار البيت لا يبيع غير البيض، أداة المعالجة هنا، خرجت وأمي، حمدت الله أنها تملك ما يكفي من مال لشراء البيض إلى جوار تكلفة العودة، اشترينا بيضتين، وبعد أن عدنا وجدنا المرضى جميعاً في صفوف منتظمة وسط غرفة كبيرة وأهاليهم في محيط الغرفة، الجميع مقرفصون، ناولت أمي البيض إلى حميد، ثم دخل رجل بثوب قصير ولحية مدببة وأنف معقوف، رد السلام، ثم خطب قليلاً في الجميع في أن الشفاء كل الشفاء موجود في القرآن وأن الله لم ينزل من داء إلا وأنزل له الدواء، ثم أن الله هو المشافي متى ما أراد فإنه لا راد لقضائه.. أمر المرضى أن يقبضوا على البيض بينما هو يقرأ، دخل أربعة رجال مساعدو الشيخ، أغلق الباب، بدأ الشيخ يتلو، عم هدوء غريب، المرضى مقرفصون ورؤوسهم متدنية إلى الأرض، الشيخ يتلو، بدأ البعض يتململ، رفع الشيخ صوته بالتلاوة، انتفضت امرأة فجأة، الشيخ استمر في التلاوة، أحد مساعدي الشيخ اقترب لتثبيت المرأة، كانت تصرخ وتهتز بعنف، الشيخ يرفع من تلاوته كلما صرخت المرأة، كرر الآية عدة مرات، بكيت ودسست رأسي في حضن أمي، كان منظراً مخيفاً، هي الأخرى كانت تبكي وعيناها لا تفارقان حميد.. رجل في نهاية الغرفة بدأ يتحدث بصوت مبحوح، ثبته رجل أخر من مساعدي الشيخ، كانت عيناه تغوران في حدقاته بشكل مخيف.. مرضى آخرون بدأوا بالأنين، وبعضهم صامت لا حراك وحميد منهم، انتهى الشيخ من التلاوة متعرقاً، ثم سمح بفتح النوافذ حتى يتبدل الهواء، قال الشيخ إن على المرضى الذين لم تتكسر البيض في أيديهم أن يأتوا إليه بانتظام، وقف الجميع في طابور، كان الشيخ يكسر البيض في وعاء ثم يحدق في مح البيض ويتحدث لأقارب المرضى وهو يشير للمح، وصل دور حميد، كسر الشيخ البيضة في الوعاء، أشار إلى أمي أن تحدق في الدوائر التي تكونت في مح البيض قائلاً إن هذا يعني أن حميد مصاب بالسحر، هزت أمي رأسها وهي تبكي، أشار الشيخ إلى أحد معاونيه، تبادلا الحديث ثم أمرنا أن نلحق به، قال لنا المعاون إن حميد سيشفى بإذن الله بعد جلستين.. أعطانا علبتين بنيتي اللون ومرهما، يشرب حميد من إحدى العلبتين ويخلط ماء استحمامه مع الأخرى كل يوم مرتين، أما المرهم فيستخدم عند الوجع فقط. انصرفنا بأمل الشفاء ودموع أمي لا تتوقف، حميد لم يبدِ أي ردة فعل منذ تحركنا من البيت، كان هذا ما يخيف أمي.. قفلنا عائدين، وبعد أسبوعين رفض حميد الرجوع إلى الشيخ بعد انتهاء العلاج، أمي قالت إنه دليل شفاء كعادتها بعد زيارة أي مشعوذ، أرغمته على القدوم بكل الطرق، عدنا للشيخ، كان عدد الثقوب والدوائر في مح البيض أقل هذه المرة، استبشرت أمي، وعدنا محملين بالكثير من العلاج والأمل، غير أن حميد لم يشفَ حينها. اليوم بعد عشرين عاماً، مع كل اهتزاز للسيارة فوق ركام الثلوج في هذه الليلة القارسة، أتذكرها، أتمنى أن أزور قبرها البعيد، أخبرها أن حميد أصبح أباً لطفلين ولديه أسرة جميلة، وأنا تائه في الأرض أبحث عن أمي، علَّها تشق ليل غربتي بدعوة أو تطفق في الأرض بحثاً عن علاج لي.ق

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص