الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
القصة العربية القصيرة جداً واحدية الهم وتعدد زوايا النظر- عبدالله أحمد حسين*
الساعة 11:44 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

في ظل ثورة المعلومات والتطور الكبير في شبكات الاتصالات تشهد القصة القصيرة جداً اليوم اقبالاً كبيراً إبداعاً وتلقياً؛ فقد غدت سجلاً للحياة اليومية يرصد الكثير من الهموم والمشاكل الذاتية والعامة, وقد اتخذت لها شكلاً جديداً استغني عن الثرثرة والاستطراد واحتفى بالتكثيف والاختزال والمكاشفة واستبطان تفاصيل الواقع, وقراءة الأشياء قراءة جمالية, وهي تشكل بذلك فناً أدبياً يكشف مدى التصاق القاص وانشغاله بهموم مجتمعة وتوضح زاوية نظره إلى تلك الهموم, وتكشف عن طريقة معالجته لها, وهذا ما لمسته أثناء قراءتي لكتاب "القصة العربية القصيرة جداً" حيث سيطر عدد من الهموم الاجتماعية على معظم النصوص المنشورة فيه؛ مما يوحي بواحدية تلك الهموم وشموليتها لجميع أقطار الوطن العربي الكبير, من المحيط إلى الخليج, وإن تعدد زوايا النظر واختلفت من قاص إلى آخر.
 

وقد جاء هذا الكتاب ثمرة لفكرة وجهود الأستاذ الكبير فؤاد نصر الدين الذي قام بإنشاء مجموعة قصصية على الفيس بوك دعا إليها كتاب القصة ومشجعيها من أقطار الوطن العربي, حيث لبى الكثيرون منهم تلك الدعوة وساهموا في دعوة أصدقائهم بدورهم, وكان هذا الكتاب ثمرة أولى لذلك الجهد الطيب.
وإنها لفرصة عظيمة أن تجتمع مثل هذه النصوص الغنية بتنوعها وتعدد مواطنها في سفر واحد بين يدي الدارسين ليخضعوها للدرس والتحليل من أجل استكناه أغوارها ورصد مؤشراتها, والكشف عمَّا تحمله من رؤى وتطلعات تمثل هموم الأمة وشواغلها في هذه الفترة الزمنية العصيبة.
شارك في الكتاب مائة وأحد عشر كاتب من جميع أقطار الوطن العربي, ومن العرب المقيمين في بعض الدول الأوروبية وأمريكا, وتضمن حوالى خمسمائة نص قصصي, فكان بمثابة لوحة فيسفائية كبيرة ساهم في تطريزها فنانون مختلفو الخبرات والقدرات والأعمار, فمنهم الأكاديميون والأطباء, والصحافيون, وطلبة الجامعات وربات البيوت, وبعض الشعراء الذين يكتبون القصة القصيرة جداً, وغيرهم.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هنا هو: هل هناك قواسم مشتركة بين الكتاب أو بالأحرى رؤية مشتركة بينهم يجتمعون حولها؟ وهل مواقفهم من الحياة وهمومها متشابهة؟ وإلى أي حد يبلغ هذا التشابه؟ وكيف يمكن تفسير ذلك في ضوء ما أسلفناه في الفقرة السابقة عن مدى التباين الجنسي والتعليمي والمهني و... بينهم؟!
تشير القراءة الأولى للكتاب إلى وجود ملامح مشتركة بين نصوص الكتاب, ويمكن تحديد أبرز المواضيع التي هيمنت على النصوص كالآتي:

 

- المرأة وقضاياها.
- حرية الرأي ومعاناة المثقف.
- هموم المعيشة.
- الوضع العربي الراهن وقضاياه.

 

ولا يعني هذا أن نصوص الكتاب قد اقتصرت على معالجة هذه المواضيع فقط, فهناك الكثير من المواضيع التي تشكل جوانب الحياة المختلفة كان لها نصيب في النصوص, وهذا ما سنشير إليه في إشارات عابرة نظراً لضيق الوقت والمساحة المخصصة للبحث, ونأمل أن تتاح لنا فرصة قادمة لدراسة ذلك, وغيره من المواضيع الفنية ذات الصلة.


1- المرأة وقضاياها:

مما لا شك فيه أن المرأة تمثل نصف المجتمع, وهذه حقيقة لا غبار عليها, ولكنها غالباً ما تتكرر وتكتب وتقال دائماً دون النظر إلى ما وراءها من أدوار مختلفة تعادل مقدار النصف الذي تشكله في المجتمع, ولذا لن نستغرب أن تحتل المرأة وقضاياها المكان الأبرز في الكتاب فقد كان للمرأة حضورها الطاغي في نصوص الكتاب, بغض النظر عن جنس كاتب للنص. 
وقد كانت قضية علاقة الرجل بالمرأة حاضرة منذ النصوص الأولى, ويعد حلم المرأة في جذب الرجل والاستحواذ على اهتمامه هو الهم الأكبر والشاغل الأول للمرأة على صعيد تلك العلاقة, وهذا ما ترصده قصة "الدلال" للكاتب السعودي خالد اليوسف, حيث نقرأ: "لا تفتأ أن تطلب منك شيئاً ما, وطلباً لا حاجة لها به, ثم تلحقه بآخر وآخر حتى تشعل فتيل غضبك, فتضحك منك, ثم تبتهج لبلوغها مرامها وسيطرتها على أحاسيسك ومشاعرك وتفكيرك, وتشعر بالنشوة حينما تراك لبيت كل طلباتها, ولم يعد لك هماً إلا هي!!."(1).

 

ولأن المرأة خير من يعبِّر عن قضاياها نجد النصوص التي كتبتها النساء أكثر ملامسة وصدقاً لتلك القضايا, وهذا ما نلمسه لدى الكاتبة الجزائرية هداية مرزق ترصد موقفين متباينين للرجل وعلاقته بالمرأة؛ ففي قصة "دعاية" تصور تخلي الرجل عن المرأة بمجرد شعوره بعدم فائدتها, في حين تصور قصة "عاصفة" وفاء الرجل: "تساوى عنده الليل والنهار.. منذ رحلت أغلق أبواب قلبه, وأسدل ستائر الروح.. هبت عاصفة أغرقت القلب, وفتحت المواجع ومحت كل الآثار.."(2).
ولأن المرأة ذلك الكائن الرقيق اللين, فهي سريعة الرضا كما أنها سريعة الاشتعال, تفعل بها الكلمة ما لا يفعله سواها, وتحولها من لبوة إلى حمامة, ومن حمامة إلى لبوة كاسرة, وتمثل الغيرة الريح التي تسبب اشتعال جذوتها, كما نقرأ في نص "لبؤة" للقاصة اليمنية انتصار السري, حيث جاء كالآتي: "ناعمة هي في الحب, شرسة عندما تغار", ومع ذلك فإنه يكفيها كلمة طيبة لتكون موقفا أطيب والعكس, يتضح ذلك من خلال قصة "أخيراً" للكاتب المصري محمد عبدالحميد علي: "... تردد.. تلعثم.. وأخيراً قال: أحبك وكفى.. فقالت من فورها: حسبي منك ذلك ..اليوم!!"(3).
والكلمة الطيبة تفعل فعلها في المرأة, حتى وإن كانت كلمة عادية تقال للجميع, إلا أنها تلبسها لبوساً وردية تعكس شفافية شخصها, يتجلَّى هذا في قصة "كل" للكاتب المغربي عبدالرحيم التدلاوي, حيث نقرأ: "كل صباح يسلم عليها وينصرف.. كل مساء تراه بين ذراعيها وفوق سريرها"(4).
وقد تعيش المرأة في حيرة عندما لا يتضح لها شعور الرجل نحوها, ومع ذلك تظل حيرة محببة, وهذا ما يقدمه نص "حيرة" للكاتبة المصرية أميرة عبدالشافي, حيث نقرأ: "كان يغضبها بكلمة ويسترضيها بكلمة, وهي بين هذه وتلك لا تعلم إن كان يحبها أم يستلهم أشعاره وحسب؟!!"(5).
ولأن حب المرأة صفة ملازمة للرجل والعكس فإنه يصعب استئصال ذلك الحب من القلوب, مهما حاول المرء التخلص منه, وهذا ما يطرحه الكاتب المصري منير عتيبة في قصته "استئصال": "كلما وجد أثرتاً من حبها في خلية من خلاياه تخلص منها, حتى استأصل كل خلاياه, لكن آثار حبها استمرت باقية.."(6).

 

ويعزز الكاتب المصري فؤاد نصرالدين هذه المكانة للمرأة في قلب الرجل, فهي أكثر بروزاً عند كبار السن ممن قطعوا مشوار الحياة مع شريكات حياتهم, حيث نقرأ في قصته "مضغ" هذا فيقول: "ظل زوجها المسن بلا طعام, لأنها لا تستطيع المضغ لفقدان طقم أسنانها.."(7).
إن تقدم العمر لا يقف حائلاً بين الرجل والمرأة اللذين جمعتهما العاطفة السامية, بل إن ذلك مما يزيد جمال صورة أحدهما في عين الآخر, ولذا لن نستغرب أن يقف أحدهما أما محل الهدايا يتأمل أي هدية سيهديها لنصفه الآخر فلا يرى شيئا يناسب مقامه, كما جاء في نص "تجاعيد" للكاتبة التونسية نسرين حناشي: "وقف طويلاً أمام واجهة المحل.. فكر في الهدية التي تناسبها.. لا شيء يضاهي روعتها.. ما زالت الأجمل في نظره رغم ما خلفته السنين من تجاعيد على وجهها.."(8).
وتصل مكانة المرأة مرتبة عالية توازي مرتبة الأم, حيث يشعر الرجل باليتم عند فراق زوجته, وهذا ما نلمسه في نص "يتم" للقاصة اليمنية أحلام العبدلي, حيث نقرأ: "تلوى في الفراش وراح يلعق بقايا ليلته الماضية.. لم يعرف قبل النوم أن فراق زوجته يتم"(9). 

 

وتظل علاقة الزوج الوفي بزوجته قائمة حتى بعد رحيلها, وقد تترك له ما يذكره بها, وهذا ما نجده في نص الكاتب المصري بدوي الدوقاسي الذي جاء بدون عنوان وهو كالآتي: "وحين رحيلها ناولتني لفافة بها ابتسامة كلما اشتقت إليها فتحتها وبكيت."10, ولهذا يظل يتذكرها, ويهدي لها الهدايا وهي تحت التراب كما نرى في نص "ذكرى" للكاتبة السعودية ندى الخطيب؛ فقد جاء كالآتي: "يجري بين الناس.. يتخبط بهم, لا يدري أين هو ذاهب, رأسه مليء بهموم الحياة, قطع الشارع من غير انتباه, وصل لمحل بائع الورود, اختار أجمل باقة ليقدمها لزوجته التي يعشقها, خرج مسروراً ليقف برهة من الزمن.. مضى في طريقه إليها حتى وصل إلى قبرها الذي اعتاد أن يزوره كل عيد ميلاد لها"(11).
ولكن هذه الصفة ليست مطردة ولا ثابتة لدى جميع الرجال فهناك من يكسرها ويتسبب في شرخها شرخاً لا يشعب عندما يفاجئ زوجته بضرة لها, فهي تعد ذلك بمثابة الاغتيال لها, كما ورد في قصة الكاتبة اليمنية ابتسام القاسمي المعنونة بـ"اغتيال" حيث نقرأ: 
"في الذكرى الأولى للقائنا.. أهديته خنجراً كي يقتلني به! 
أزاحه متعجباً.. ثم اغتالني بامرأة أخرى.."12
فما بالنا لو فاجئها بأكثر من ذلك, وهذا ما رصدته قصة أخرى للكاتب فؤاد نصر الدين, حيث تفاجئنا قصة "بيت جديد" التي يحمل عنوانها بشرى سارة بما لا نتوقع حدوثه, ويجعلنا نعيش معه أجوائها, حيث نقرأ: "دخل على زوجته يخبرها بأنه اشترى بيتاً جديداً؛ فغرقت في سيل السعادة المفاجئة, فراحت تمطر زوجها بالقبلات والأحضان, وعندما انتقلا إلى البيت الجديد كانت في انتظارهما زوجاته الثلاث."13
وتتوازى الخيانة الزوجية للرجل بهذه الصفة, وتكون سبباً رئيساً لحرمانه من دخول جنتها, بل وطرده منها في كثير من الأحوال, كما يتضح في قصة "خيانة" للكاتبة المصرية صابرين الصباغ: "وسوستْ له, التهم تفاحتها, فحرمتُه من جنتي."14
وقد نالت غواية المرأة نصيبها من النصوص, حيث نقرأ في نص "ليلى والذئب" للكاتبة العراقية هدى الغراوي, حيث جاء كالآتي: "التقت ليلى بالذئب يوماً فقالت: هل تعرف الطريق إلى بيت جدتي. قال الذئب لقد مللت هذا السؤال كلما مرت فتاة من طريق ذئب سألته ذات السؤال! فأنا خدعت ليلى واحدة وأنتن خدعتن جميع الذئاب."15
ولم تقف نصوص الكتاب عند تصوير تلك العلاقة وما يعتريها من زاوية المرأة وأثرها عليها, فقد كان للرجل نصيبه من ذلك عندما يحل محلها ويتبادل معها الأدوار, كما يتضح من نص "تعطش" للكاتب السوداني عثمان عوض ياسين, حيث نقرأ: "جاءت لتملأ دلوها من ذات الثقب الذي أحدثته في قلبي."16 

 

ونجد الغيرة لا تقل لدى الرجل لا تقل عن غيرة المرأة, وربما كانت غيرته زائدة, حتى يمكن وصفها بالغيرة العمياء, كما في نص "غيرة عمياء" للكاتب المغربي عبدالمجيد بطالي.17
وتتناول الكاتبة المصرية أميرة عبد الشافي موضوع غيرة الرجل من زاوية فريدة حيث نقرأ في نصها "غيرة" ما يلي: "عشقها حد الجنون حتى استولت على كيانه كله.. فخشي أن يكتبها في أشعاره؛ فيعشقها قراؤه.."18
ولم تقتصر النصوص على تناول علاقة الرجل بالمرأة, فقد طالعتنا صورة مشرقة للمرأة العاملة المكافحة في سبيل تحصيل لقمة العيش, كما في قصة "الملكة" لكاتب هذه السطور, حيث جاءت كالآتي: " أتْقَنَتْ الدورَ, صَفَّقَ لها الجمهورُ تصفيقاً حاراً, هتفوا لها, اُسدِلت الستائرُ, هرعتْ إلى غرفة تغيير الملابس, نزعتْ التاجَ والأساورَ الذهبية, والـ..., ارتدتْ أطمارَها, عادت لزوجها المقعد ببعض الطعام."19 
وفي قصة "نقاب" لكلاديس مطر نلمس حب المرأة ولهفتها للتجريب, فبعد أن تبادلت راوية القصة النظر مع تلك المنقبة, انصرفت كل منهما إلى سبيلها وقد استولت عليهما رغبة التجربة , تقول: "عدت إلى منزلي. وقفت أمام مرآتي, أخذت نقاباً وضعته على رأسي. أما هي أمام مرآتها فقد كانت تنزع نقابها وتتلمس شعرها الطويل الجميل والمعافى."20 
ونجد صورة أخرى طريفة للمرأة في قصة "خادمة" للكاتب اليمني محمد الغربي عمران, حيث تتفاجئ المضيفة بالخادمة مسافرة على متن الطائرة التي تعمل بها, وعندما تلاحظ ارتباك الخادمة تشير لها بالجلوس قائلة: "لا عليك .. فأنا اللحظة خادمتك!!"21


2- حرية الرأي ومعاناة المثقف:

يظل هاجس البحث عن الحرية بجميع أشكالها هاجساً ملحاً, ويعد شاغلاً قوياً وهماً من هموم الناس جميعاً والمبدعين خصوصاً؛ وذلك نظراً لما يتعرض له المبدعون من كبت وما يلاقون من تعنت للحد من تأثير أفكارهم المناهضة للتسلط والدكتاتوريات, ففي قصة كلمة للكاتبة المصرية المقيمة في أمريكا كلاديس مطر نجد تصويراً لمدى ذلك التعنت الذي يلاقيه المبدع؛ حيث نقرأ: "جرتني من سريري منتصف الليل خفافيش الليل, قالوا من أجل كلمة كتبتها مرة.. ترى ماذا يدور في خلدي عندما كتبتها ولأي جهة يتطلع حقل عباد الشمس في عقلي؟!"22
وهذا ما يأباه المبدعون ويسعون للتنديد به, فالمبدع لا يستسلم لهذا العذاب ولا يسمح لأحد باحتجازه, حيث يسعى للخروج منه بطرقه الخاصة, كما نجد في نص "الباب" للكاتب الليبي أحمد يوسف عقيلة؛ الذي جاء على النحو الآتي:"... يزجون به داخل حجرة صغيرة.. لا نافذة لها.. سقفها منخفض يلامس الرأس.. ينزعون الباب.. يسدون مكانه بجدار.. يغادرون.. يتحسس الجدران. في العتمة, يرسم باباً بإصبعه, يفتحه ويخرج."23

 

ويحاول نص "قصة لوطن" - للكاتب المصري د. صفوان محمد – الكشف عن سبب معاناة المثقف وتعقب أيادي القمع له, يقول: "دخل إلى مبنى الأمن الوطني, ومعه كارت توصية لمدير الجهاز: جاري أبلغ عن اختفاء صديق.. اسمه إيه؟ حمادة كنتي.. شغلته إيه؟ سائق تكسي وخبير استراتيجي.. هل لحمادة أعداء.. هو ده أهم سؤال.. نعم حمادة عدو نفسه يا باشا فاهم أكثر من اللازم.."24
هذا الفهم الزائد هو سبب معاناة المثقف والمفكر, ومع ذلك فإن ذلك المثقف لا يرضى بالمساس بفكرة, مهما كان الثمن, ويظل متشبثاً بأفكاره ومحافظاً عليها, في أحلك الظروف, ولكم شاهدنا من المفكرين الذين فقدوا عقولهم لسبب إلا أن فكرهم وعلمهم لم تفقدهم إياه تلك الظروف, ولعل قصة "عبث" للكاتب الأردني د. مهند العزب, تعكس ذلك بطريقتها الخاصة, حيث نقرأ: "عندما انتحر أطلق الرصاصة على قلبه, وليس على رأسه.. إنه يريد أن تظل أفكاره دائماً منظمة."25
وتطلع المبدع للحرية وبحثه عنها لا يقتصر على من يعاني من تقييد تلك الحرية, وإنما يظل هاجساً وهمَّاً دائماً له, نلمس هذا من خلال نص "القفص" للكاتب السوري خضر الماغوط؛ حيث نقرأ: "كان يحلم بالحرية.. وعندما فتحوا له باب القفص طار بعيداً يبحث عنها.."26 

 

فليست الحرية أن تخرج من سجنك, وإنما الحرية أسمى من ذلك بكثير, ولذا قد نرى بعض المبدعين لا يشعرون بالحرية وهم طلقاء, مما يدعوهم أحيانا لتحطيم أدواتهم تعبيراً عن ذلك, وهذا ما نجده في نص "بداية" للكاتب شريف دسوقي, تأتي على النحو الآتي: "كسر أقلامه, ومزق أوراقه, وكتب بمداد قلبه سطر البداية... "على صفحة الحياة أنا هنا".27
وتطالعنا صورة مشابهة عند الكاتبة المصرية رجاء محمود سعيد في نص "الحفرة"؛ حيث نقرأ: "ذات ألم هرول قلمي وكتبي بحروف من دمٍ, ثم سقط على طاولتي مغشياً عليه!!"28
وتعد مسألة الرقابة على الأدب مما يتصل بموضوع حرية المبدع, وتشكل شاغلاً من شواغل المبدعين التي طالما أرقتهم وسببت لهم المتاعب, وقد كان للرقيب حضوره في نصوص الكتاب, كما نقرأ في قصة "رقيب" للكاتب العراقي علي عبد الزوبعي: "كان يجد راحة كبيرة, فقد كان على وفاق معه – الآن- وقد رشح نفسه لمنصب المحافظ, وألقى خطبة رنانة في أنصاره وعاد.. لمحة من خلال المرآة يخرج له لسانه."29

3- هموم المعيشة:
سجلت هموم المعيشة موضوعاً خصباً ضمن موضوعات الكتاب, ومن الصور الجميلة لهذا الموضوع ما نجده في قصة "خبز" لكلاديس مطر, حيث تصور شخصاً يلتزم بالنظام في طابور شراء الخبز رغم قلة النظام والفوضى "كان واقفاً وفي يده قطعة النقود لا يتحرك من مكانه": "أشفقت عليه وربما أحببته بعمق, فمن يعي اليوم درساً في الحضارة ويداه فارغتان من كيس الخبز."30 
وفي نص "حظوظ" للكاتبة الفلسطينية مجد حلبي يطالعنا هذا المشهد الذي يصور هموم المعيشة ومعاناة الفقراء في حياتهم اليومية: "كلص أعياه الجوع تسرق الحياة الكيس من امرأة عجوز كانت قد تسولت لتطعم أبناءها الأيتام.. إنها دائما تنتزع منهم الفرحة.."31 
ويعرض نص "السارقة" للكاتبة المصرية رجاء محمود سعيد صورة إنسانية مؤثرة, جاءت على النحو الآتي: "ألقوا بها خلف القضبان..
حين قدموا لها الطعام, أخذت تقلب بصرها بين السقف والصحن...
تحسرت على أبنائها الطلقاء!!"32 
ويطرح نص "نخلة" للكاتب العراقي محمد فزاع شايب قضية العمالة في دول الجوار التي يعاني منها أبناء العراق وغيرهم, ويصور معاناتهم وما يلاقونه في غربتهم تلك حيث نقرأ: "وصل عبر الحدود إلى المملكة.. احتضنته الصحراء, شرب من قهوة الصبر, رعى أغنام القوم, انتظرها سنين لم تعطه لبناً, صعد إلى التلة رأى نخلته تبكي وثمارها تتساقط."33

 

هذه الحياة القاسية لا يعدها البعض حياة, وإنما يعتبرها على النقيض من ذلك, ويعد الخروج منها بمثابة الحياة, وهذا ما يعكسه نص "حياة" للكاتب المصري أحمد سعيد حيث نقرأ: "حملوا جثمانه إلى مثواه الأخير, ومع آخر لبنة وضعوها على باب قبره مزَّق الكفن, وانتفض واقفاً. أحس لأول مرة بالحياة!!"34 
ومن الصور الطريفة المتعلقة بهذا الموضوع تلك الصورة التي ينقلها نص "الأغنياء يشترون الكفن" للكاتب المصري عادل حماد سليم؛ حيث نقرأ: "عاش فقيراً معدماً.. يلتقط غذائه من أكوام القمامة, يلتحف العراء.. ملابسه المهلهلة لا تستر إلا اليسير من جسده, الأثرياء الذين كانوا يشمئزون منه وينهرونه إذا اقترب منهم.. حينما مات تسابقوا لشراء الكفن."35 
ومن أقسى المواقف التي رصدتها نصوص الكتاب هذا الموقف الذي يطالعنا به الكاتب المغربي جامع هرباط في نصه "صرخة ثقيلة": "أتعبتها الأكياس الثقيلة. وضعتها أرضاً. تنهدت أنفاسها بسرعة. تذكرت حافظة النقود. فتشت في جيوبها فلم تجدها فصرخت صرخة ثقيلة مما كانت تحمل وهي متجهة إلى البيت.."36 
وكان لثورة الربيع العربي نصيبها الوافر ضمن نصوص المجموعة, ففي قصة ثورة للكاتب اليمني محمد الغربي عمران نجد صورة طريفة للثورة حيث نقرأ: "نزلت القاهرة مؤخراً.. صاحب التاكسي مشغل قرآن.. المقهى.. راكب الدراجة النارية .. المتاجر.. بائع الصحف.. الكل يرفعون صوت القرآن .."
فقد يتساءل القارئ وما وجه الطرافة هنا, أليس من الجميل أن يستمع الناس للقرآن في كل مكان؟! ولكنه سرعان ما يعود عن هذا التساؤل عندما يقرأ بقية النص: "سألت أحدهم؛ فقال: مصر في حالة عزاء."37 
هذه الإجابة الصادمة والغير متوقعة تدل على نظرة ثاقبة ونقد واع للكثير من تصرفاتنا اليومية ودعوة للتحرر من التبعية العمياء لسلطة بعض النافذين, مهما كان نوعها وشكلها.
وفي السياق ذاته نجد تصويراً بارعا لمدى تغلغل آثار الحروب في حياتنا اليومية وهيمنتها حتى على عقول الصغار, نجد ذلك في قصة "ثأر" للكاتب المغربي عبدالحميد الغرباوي,: "الولد الذي يجلس اللحظة يرسم..
منذ قليل كان يجهش بالبكاء.. شده الحنين إلى والدته, أخته الذين أحرقتهم طائرة مغيرة فبكى..
يرسم الولد كوخاً بمدخنة وحوله عشب فلا دخان يخرج من المدخنة, ولا نداء يأتيه من عمق الكوخ, واخضرار العشب يتحول إلى اصفرار.. 
يرسم الولد شمساً فلا يضحك.. عندليباً فلا يغرد..
يرسم الولد طيارة حربية فتنطلق مسرعة لتحرق الأعداء.."38
إن التكرار للفظة يرسم الولد بهذه الصورة الملفتة لا يأتي عبثاً فهو يفضي في كل مرة إلى حالة مختلفة كل الاختلاف عن سابقتها فتشترك جميعها في تشكيل رؤيته والتعبير عن حالة الحزن المسيطرة على الفرد نتيجة الإحساس بالفقد، وتوقه للثأر ممن حرمه والدته وأخته, مما جعله يعيش شعوراً مليء بالحرمان وقد انعكس ذلك على علاقته بما يرسمه, فالمدخنة لا دخان/حياة فيها, والكوخ لا صوت/ حياة تنبعث منه, واخضرار العشب/حياته يتحول إلى اصفرار/ موت, وهذا كله يعزز ما ذهبنا إليه ويؤكده, فالنص يندد بجرائم الحروب ويؤكد على بشاعتها وقسوتها وما ينتج عنها من آثار, ومثل ذلك ما نجده في قصة "شيزوفرينيا" للكاتبة المصرية نسرين البخشونجي, التي تطالعنا بهذا المشهد : "...تغير القناة لتشاهد فيلماً كوميدياً, وفي أسفل الشاشة مكتوب على شريط أحمر.. عاجل: شعب يباد.."39, هذا المشهد يصور لنا بمفارقته الطريفة إلى أي حد وصلت مآسينا وكيف أصبحت معلماً بارزاً لا تخلو منه زاوية من زوايا حياتنا اليومية.

 

"الدمية" للكاتب السوري المقيم في هولندا حسن جبقجي, : "قالت الطفلة لدميتها:
- يجب أن لا تخرجي من البيت أبداً.. يجب أن تبقي معي.
في المساء ألقت الطائرات الصواريخ السامة.. أمسكت الدمية يد البنت. وبكت"40 
ولا تبعد الصورة التي رسمها الكاتب السوري د. محمد ياسين صبيح في نصه "النجار والتمثال" عن الصور السابقة حيث نقرأ: "أراد أن يصنع له النجار تمثالاً خشبياً, لكن الظلام اشتد وعلت أصوات القذائف؛ فصنع تابوتاً عليه صورة التمثال."41
يتصل بموضوع الحرب موضوع الوطن, وقد سجلت القضايا الوطنية حضوراً لافتاً, وبرزت على رأس هموم كتاب القصة العربية القصيرة جداً, ففي نص "حفل تأبين" للكاتب المغربي حسن برطال حيث نقرأ: "يقفون دقيقة (صمت) ترحماً على المتوفى .. وأنا (أصرخ) واقفاً في وجه وطني كل دقائق عمري كي لا يكون بلداً ميتاً.."42
هذه الصرخة نجدها تتردد في نص آخر للكاتبة السورية دلال عادلة بعنوان "شهرزاد" حيث نقرأ: "ولما طلع الصباح, وسكتت شهرزاد عن الكلام المباح.. لم يسمع أحد صياح الديكة ولا مقاقاة الدجاج.. فقد سرقهم تجار الوطن ومتنفذوه.. مع بقية المواد المعيشية.."43
وقد يتمثل الوطن في شخص واحد تجعل منه وطنيته وطناً للكثيرين, كما نجد في نص "رحيل" للكاتبة الليبية د. نور محمد؛ حيث نقرأ: "كان معنا.. كان بيننا.. ينثر حولنا زهور الحب.. كان يعلمنا كيف يكون العطاء, وكيف يعشق الوطن.. رحل؛ فطار الوطن به لحاقاً.."44, وتعود الكاتبة لطرح القضية من زاوية أخرى في نصها الآخر "عطر" الذي جاء على النحو الآتي: "عزم الرحيل.. حزم أمتعته.. تفقد أشياءه.. حمل كل أطرافه ولكن أنفاسه المتغلغلة في جدران البيت أبت الرحيل.."45 فالبيت هنا يمثل صورة مصغرة للوطن, الذي يصعب التخلي عنه.

 

ويناقش الكاتب اليمنى زيد الفقيه القضية ذاتها من منظور آخر وبطريقة رمزية رائعة, كما يتضح في نص "خيانة": "من خلال ثقب غطاء نومه.. كان يراقب الهرة وهي تلعق اللبن..."46, وما يلبث أن يعاود طرح القضية من زاوية جديدة حيث نقرأ له - في نص "حب"- : "اشترى قريتهم.. بيوتها.. مواشيها.. زرعها.. الماء الذي يشربونه.. حتى أجسادهم, لكنه لم يستطع امتلاك مثقال ذرة حب في قلوبهم."47 
في حين تصور الكاتبة المصرية رجاء محمود سعيد في نصها "المصاب" معاناة الكثيرين في أوطانهم, حيث نقرأ: "... أين نبضك؟ أين أهلك يا وحيد؟؟"
أجابني: هناك في المقابر, وخلف قضبان السجون!!.."48
وتطرح الكاتبة المصرية فاطمة وهيدي قضية الاستشهاد في سبيل الوطن في نصها "شهيد", حيث نقرأ: "حملوه على أكتافهم في الصباح لـ يهتف,
بعد العصر حملوه على أكتافهم.. وهتفوا!!"49
وإذا ما ذكرت مآسي الأوطان وقضاياها, فقضية فلسطين والأرض المحتلة هي القضية الرئيسة عند الكاتب العربي, ولعل أجدر الكتاب العرب بتصوير ذلك هم المبدعون من أبناء فلسطين, لذا فإن نص " أنفاس" للكاتبة الفلسطينية من نابلس مجد حلبي تصور موقفاً مؤلما: 
"تتثاقل قدماه.. تنحبس أنفاسه شيئاً فشيئاً.. يحاول أن يغادره, ولكن ما تبقى من روحه تمسك بعريشة بيته..
خارت قواه.. ركب القطار, ورحل..."50
وقد كانت ثورة المعلومات وشبكات التواصل ذات حضور مميز في الكتاب, وقد طرح الكتاب بعضاً من ذلك
يصور لنا الكاتب المصري د. عبدالباري خطاب في قصته "ش ب ك ة التواصل" موقفاً طريفاً يصور مدى تغلغل شبكات التواصل ودورها في الكشف عن تصرفاتنا : "تعارفا, توطدت صداقتهما الافتراضية, تطورت العلاقة لحب ملتهب.. لم يعرف أنها زوجته."51
هذه المضامين التي قدمتها القصة العربية القصيرة جداً - وغيرها كثير – تتمحور كلها تحت محور رئيس هو محور التغيرات الاجتماعية الكبيرة التي يشهدها الوطن العربي، فالقصة ارتبطت ولا زالت مرتبطة بالمجتمع, تنهل من موضوعاتها، متعرضة لماضيه وحاضره، كاشفة عن المشاكل الناجمة عن عملية التغيير الاجتماعي والانتقال من مجتمع تقليدي إلى مجتمع حديث.


* أكاديمي بجامعة البيضاء.
 

1 - قصص عربية قصيرة جداً, نخبة من المبدعين العرب/44, القاهرة 2013م, رهف للنشر والتوزيع..
2 - نفسه/48.
3 - نفسه/70.
4 - نفسه/54.
5 - نفسه/107.
6 - نفسه/58.
7 - نفسه/59.
8 - نفسه/87.
9 - نفسه/82.
10 - نفسه/89.
11 - نفسه/113.
12 - نفسه/81.
13 - نفسه/59.
14 - نفسه/64.
15 - نفسه/101.
16 - نفسه/79.
17 - نفسه/99.
18 - نفسه/107.
19 - نفسه/84.
20 - نفسه/36/37.
21 - نفسه/38-39.
22 - نفسه/36.
23 - نفسه/42.
24 - نفسه/53.
25 - نفسه/56.
26 - نفسه/77.
27 - نفسه/117.
28 - نفسه/104.
29 - نفسه/68.
30 - نفسه/36.
31 - نفسه/88.
32 - نفسه/105.
33 - نفسه/93.
34 - نفسه/103.
35 - نفسه/115.
36 - نفسه/130.
37 - نفسه/38.
38 - نفسه/51.
39 - نفسه/126.
40 - نفسه/52.
41 - نفسه/76.
42 - نفسه/80.
43 - نفسه/92.
44 - نفسه/125.
45 - نفسه/125.
46 - نفسه/85.
47 - نفسه/85.
48 - نفسه/104.
49 - نفسه/106.
50 - نفسه/88.
51 - نفسه/46.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً