الثلاثاء 26 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
حماقات الأقدار - أحمد الأسعدي
الساعة 08:03 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

اكتب هذا النص وانا بكامل قواي العقلية ، لم اجن بعد ، او هكذا اعتقد ، اسمي الثلاثي هو احمد مصلح الاسعدي كما ان التاريخ اليوم هو الثلاثين من سبتمبر عام 2017 هل يكفي هذا لكي تصدقوني؟! 
حسنا ، سأخبركم شيئا . على بعد ساعة او ساعة وعشر دقائق من مقر اقامتي يعيش احد اقاربي ، غير اننا لم نلتق منذ سبعة شهور ، البارحة تلقيت منه اتصالا يخبرني انه يود رؤيتي ، قال انه سيزور المدينة او بالاصح سيمر منها شمالا رفقة جنازة . احد اليمنيين توفى في المدينة التي يسكنها وسيدفنونه في مدينة اخرى تقع شمال " نيو اورلينز" كونها تحوي المقبرة الوحيدة المخصصة للمسلمين هنا، سرت في جسدي رعشه وغشاني نوعا من الحزن الغريب تجاه هذا اليمني البائس الذي سيدفن في جنوب الولايات المتحدة. سألني قريبي متى سأكون متاح كي نلتقي ، اجبته انني اود حضور الجنازة ايضا ، ستكون فرصة لرؤية يمنيين تفرقهم المدن هنا و هاهو الموت يجمعهم كعادته ، بالاضافة الى حزني الغامض تجاه هذا الميت الذي لا اعرفه. في اليوم الثاني استأذنت من استاذ مادة التاريخ بحجة اني امر بوعكة صحية و غادرت باتجاه نقطة اتفقنا ان نلتقي فيها ، بعد انتظار ربع ساعة في السيارة جوار احدى الطرق السريعة وصلت الجنازة ، كانت محمولة على سيارة اسعاف ويليها خمس سيارات عليها يمنيين وفلسطينيين . المقبرة تقع في عمق الغابة ، اشجار كثيفة تلف ساحة كبيرة ، ترتص فيها القبور بلا شواهد ظاهرة ، الزهور التي تحيط كل قبر تخبرك بوجوده ، احجار مصفحة نحتت عليها اسماء لكائنات كانت يوما ما مثلنا. سألتهم ان كانوا قد صلوا على الجنازة؛ فأجابوا بالايجاب ، اذن لم يتبق سوى الدفن قلت في نفسي. كان الميت في جوف صندوق خشبي كبير ، كما ان القبور هنا ليست كما هي في تلك البلاد التي جئنا منها ، هنا لن ينزل ثلاثة اشخاص الى القبر لتلقف الجثة المغلفة بالبياض و ايداعها جوف اللحد، هنا تقف آله على حافة القبر تودع الصندوق جوف الحفرة ثم تهيل التراب عليه ؛ لن نتسابق للاجر كما اعتدت ، سنكتفي بالتفرج وتبادل كلمات العزاء غير المعفرة بالتراب ، ثم سنغادر كما لو كنا ندفع قيمة فاتورة الكهرباء او نستعلم عن بريد لم يصل .
لم اكن مجبرا على حضور هذه الجنازة ولكن هناك شيء غامض دفعني لفعل ذلك ، ثم شعوري بالأسى تجاه هذا الميت الذي انجبته الارض في احد اطرافها ثم التهمته في طرف اخر بعيد جدا ، مراسم الدفن هي الاخرى اثارت وجعا داخلي لا اعرف مبرر له . 
عدت متاخرا ، وقد تملكني التعب والإرهاق ، القيت حقيبتي المدرسية وغيرت ثيابي ثم قفزت للفراش، خلدت للنوم سريعا ، ولكن خلال دقائق كنت قد استيقظت على وقع طرقات متلاحقة على الباب ، نهضت بتثاقل ،فتحت الباب بعينين حمراوين، استدرت بعجلة ، دخل رجل ستيني ، عدت الى الغرفة بينما كان الرجل يضطجع على الكنبة امام التلفاز ، تناولت الهاتف من على الطاولة جوار السرير ، تصفحت الساعة وتنهدت ، استلقيت ، ثم اصلحت الوسادة ولكن قبل ان اضع راسي مجددا قفزت كالملدوغ ، من هذا الرجل؟! 
عدت مسرعا الى الصالة و بعينين اكثر اتساعا سألته : 
العفو منك ولكن من الاخ ؟ 
اطلق ضحكة خفيفة وقال ساخبرك لاحقا عد للنوم الان ، بكل برود كان يطلب مني ان اعود الى النوم وفي بيتي رجل لا اعرفه ولا اعرف سبب وجوده ايضا؟ ولكن تحت اصراري وغضبي الذي بدأ يتفجر، أخبرني - بتردد- انه الرجل الذي دفناه للتو! 
هذه ليست مزحة ، او قصة فنتازية ، هذا الرجل لم يغادر بيتي منذ شهر ، كل يوم بعد ان اعود للبيت اجده بانتظاري ، اكاد اجن منه ، ان لم اكن قد جننت فعلا - ولهذا انا اكتب هذا النص الان -لقد وعدني انه سيغادر بيتي وحياتي بعد ان يكمل حكايته اللعينة ، حكايته التي يتحكم في مدى وكمية ما يحكية كل يوم ، حتى اصبحت في حظرته مجرد سجل لحماقات الاقدار كما يسميها ، حياتي لا تطاق ، بت اتاكد من وجود عقلي كلما سنحت لي الفرصة كما كنت اتفقد اول ساعة يد اشتراها لي ابي في السادسة من عمري . 
يا إلهي من اين ابدأ سرد هذه اللعنة.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص