السبت 21 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الحرب والجنون في «صلاة في حضن الماء» لليمنية انتصار السري - أمين دراوشة
الساعة 14:26 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

منذ أن قرأت قصصها الأولى، سرى شعور في نفسي أن القاصة، سيكون لها حضورها المؤثر على الساحة الأدبية اليمنية والعربية، والكاتبة وفيّة للقصة القصيرة والقصيرة جدا، وأبدعت فيهما، وأنتجت لغاية الآن أربع مجموعات قصصية، وفي كل مجموعة جديدة تقدم لنا الكاتبة شيئا جديدا من حيث الأسلوب والثيمات.
 

إن دراسة فضاء النص يعني، تحليل وتفكيك الإشارات التي أرادت الكاتبة إيصالها للمتلقي قبل الدخول في القراءة، ومن خلال عناوين المجموعات القصصية السابقة، نلاحظ إنا توحي بالصراعات العنيفة، فاسماء المجموعات على التوالي: «الرقص على سيمفونية الألم»، و«المحرقة»، و«لحرب واحدة»، وفي مجموعتها الأخيرة حاولت المؤلفة الخروج من دوامة الحزن والقتل، فاختارت اسما لافتا وهو «صلاة في حضن الماء» فبدلا من استخدام الكلمات الدالة على الحرب، استخدمت كلمات تدل على معنى ديني يحقق الطمأنينة، أما استعمال الماء فلا شك أن الإنسان ليمارس طقوسه الدينية يحتاج إلى الماء ليتطهر، كما ترمز لفظة الماء إلى الخصوبة، وأيضا إلى العودة إلى رحم الأم «البيولوجية أو الرمزية ممثلة بالوطن» أي عودة إلى زمن النقاء، زمن الطفولة هربا من واقع قاس. 
 

غلاف المجموعة باللون الأزرق رمز الأمل والفضاء اللامتناهي، وقد كتب العنوان باللون الأبيض رمز المحبة والصفاء والبراءة، أو قد يكون كتابته بالأبيض جاءت لتعبر عن الموت العبثي الذي يحوم في أجواء القصص.
 

وتختار الكاتبة مقولة لأدورنو، يقول فيها: «بالنسبة للإنسان الذي لم يعد لديه وطن، تصبح الكتابة مكاناً له ليعيش فيه». ومن خلال هذه المقولة تكشف الكاتبة عمّا يدور في قصصها وأجوائها، فهي من اليمن الذي مزقته الحرب، وشردت أهله، وقضت على أي إمكانية للتطور والنمو، والطموح بالعيش الكريم والآمن. وفي قصة عنوانها مجتزأ من عنوان المجموعة «حضن الماء»، تقول:
«دنت منه، همست له:
- أريد ماء…
طوقها بذراعيه، غاصا في حضن الماء، أفاقت في الصباح تفرك ما تبلل من سريرها». 

 

فالقصة تتحدث عن زوجة تبحث عن حياة جديدة، لذا تطالب زوجها بالحب، الذي سيتحقق من خلال حملها بطفلها، الذي سيمثل مستقبل الوطن الغارق بالأوجاع والدمار، الطفل الآتي ليوقف قطار الموت، ويبني الوطن السعيد. ولأن الحرب لا تنتج إلا الكوابيس، فإنها تصور لنا حالات عدة منها، ففي قصة «رسالة من كوكب اتش»، تقول: «أيقظني صراخ طفلي، جَزعِةً هرعت إلى غرفته، على أرضيتها كائن في هيئة امرأة. تنبش أحشاءه، تلوك كبده، تكرع دماءه.. انتزعته من بين مخالبها، بغتة استيقظت حقا.. كان جبيني يتصبب عرقا». 
 

وفي هذا النوع من القص يكون للجملة الأخيرة وقعها وتأثيرها في نقل حكاية غير عادية، وكان لاستخدام الأفعال المضارعة تأثيره في شد انتباه القارئ، وجعله في خضم الحدث كـ(تنبش، تلوك، يتصبب) فهي أفعال تدل على الحركة والصوت، وتزيد من الإثارة ووقع النهاية، إذ نحن بصدد كابوس مخيف، ولكنه قابل للتحقق وسط حرب لا تميز بين الكبير والصغير، ولا عسكري ومدني.
 

اندلاع الحرب في اليمن جعل كل شيء بدون معنى، والجميع عاجزون عن تحقيق طموحاتهم،وفي قصصها نلاحظ الاغتراب يفرض حضوره، تقول في قصة «حالة»: «دلفت بلهفة إلى محل بيع ألعاب الأطفال، وشرعت في اختيار العديد من اللعب.. كانت رغبتها شديدة في أن تشتري اللعب كلها.. عند دفع الحساب، تذكَّرت أنها عاقر». 
 

جنون الحرب فعل فعله، وكما الأم التي تدفن طفلها، تقف الشخصية في لحظة حلم وردي، تشتري الألعاب لطفلها القادم، الذي يبشر بالغد، ولكن للأسف لم يعد بإمكان المرأة أن تنجب، لتلقي طفلها لقمة سائغة في فم الحرب، لذا نكتشف إنها عاقر لا تنجب، وأجواء القصص توحي لي بأنها أصيبت بحالة نفسية منعتها من الإنجاب، ففي زمن الحرب البغيض تتوقف حتى الأحلام البسيطة. القصة حققت عبر تقنيتها السردية، المفاجأة غير المتوقعة، ما شكل صدمة للمتلقي، «الذي يذهب به السرد بعيداً، ليفاجأ بأنّ الحبكة ليس ما نسجه فهمه وخياله، وما استقر عليه وعيه وإدراكه.. إنّما ما جاءت به القفلة، فعصفت بكلّ ما كوّنه كاستنتاج واستنباط، وجعلته يعيد النّظر، يقيّم الفعل القرائي، ويحذر الفهم الاستعجالي». (مسلك ميمون. في: تقديم المجموعة القصصية). 
 

وفي قصصها توجه الكاتبة نيران نقدها اللاذع للمجتمع المنهار، فبدلا من بناء المدارس والجامعات، والاهتمام بتعليم الأطفال للنهوض بالمجتمع، نجد هذا المجتمع المقيت يقود الأطفال ليصبحوا محاربين، كما في قصة «طفل المدينة».
 

ولأن الحرب تلح على عقل الكاتبة، ولم يعد فيه غير الحسرة والندم على ما فات، فإنها في قصة «الحب في زمن الصقيع»، تقول: «تحكم إغلاق معطفها، تفشل في سد منافذ البرد، مفاصلها تصتك، أناملها تتصفح رواية الحب في زمن الكوليرا.
أنفاسه عبر هاتفها تشعل جسدها.. ماركيز يفك أزرار معطفها».

 

تتماهى بعض الشخصيات القصصية مع شخصيات روائية أخرى، وكأن الشخصية تحاول الهروب من واقعها البائس إلى عالم خيالي أجمل من خلال الانخراط بالكتابة والقراءة. 
ومن الأساليب التي استخدمتها الكاتبة في سرد قصصها الغرابة، وهي «نوع من الخبرات المثيرة للقلق والخوف التي يختل فيها الشعور بالأمن والاستقرار». (شاكر عبد الحميد. الغرابة. الكويت: منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. عدد 384 يناير 2012). وهو أسلوب «لا يحفل بالواقعي والموضوعي كإطار للحدث. ولكن مع ذلك يعمّق الإحساس بغربة الذّات الفاعلة.. وكأنّ اللّغة السّردية العادية لا تخلق التّواصل الأعمق، فيصبح من الأجدى الاستعانة بلغة مختلفة، وثيمة غريبة غير مألوفة أو واقعية» (مسلك ميمون. مرجع سابق) كالذي نجده في قصة «تابوت»: «في صالة المغادرة، جلست ارتقب تأشيرة سفري إلى خارج الوطن. صوت هرج وبكاء يكتسح المكان، بفضول استرقت النظر نحو وجه الجثة القادمة في جوف تابوت. تفرست ملامحها كانت جثتي». 

 

فأما أرادت الكاتبة القول إن الخروج من الوطن إلى الخارج مستحيل ودونه الموت، أو أرادت إن الإنسان مستقبله وغده في وطنه مهما كان هذا الوطن قاسيا، تتخيل الشخصية مقبل الأيام حيث ستعود جثة هامدة إلى الوطن، بعد أن تكون صرفت حياتها بعيدة عنه، والبعد عن الوطن موت.
 

وفي قصة «استراق»، تقول: «لم أشعر بجلوسها بجواري، عيني تلتهم الكتاب بنهم، ربتت على كتفي قائلة:
- اعذريني فتاتي لاستراقي وقراءتي معكِ من كتابكِ.
رفعت نظري نحوها، كنتُ هي أنا أربت على كتف ابنتي المنهمكة في القراءة». 
في الغرابة «تجتمع الميول العقلانية واللاعقلانية معا، وتتصادم ميول التقدم إلى الأمام وميول النكوص إلى الخلف معا» (شاكر عبد الحميد. مرجع سابق).

 

فالمرأة وكأنها عادت بالزمن إلى الوراء حيث كانت الأحلام في متناول اليد، ولكنها تعود لواقع مرّ، وتحس بالاغتراب الزماني. وعلى الرغم مما تتضمنه المجموعة من مرارة إلا أن بعضها يفتح الباب مشرعا لدخول الشمس، ففي قصة «نحت على الجدران»، تقول: «كل مساء، يمارس السجين هوايته المفضَّلة بالرَّسم على جدران الزنزانة، يرسم شجرة زيتون! حديقة منزل، بسمة أم.. عناق زوجة.. ضحكة طفل. السجَّان، يجد نفسه دائما حائرًا، راغبًا، في اكتشاف سر سجينه.. ذات صباح، دخل الزنزانة يبحث عن سجينه.. لم يجده، على الجدران نحت رسماً لباب وشمس». 
 

مع أن القصة تبدأ بالحديث عن سجين، إلا أنها بعد ذلك تمتلئ بالحركة والألوان، فالسجين يرسم الأشياء الجميلة على جدران زنزانته، ولأن السجّان محتار في هذا السجين الحالم، فإنه يقرر ذات صباح أن يدخل لزنزانته لمعرفة السر، ولكنه يفاجأ أنه قد صنع لنفسه بابا وخرج صوب الشمس، غير عابئ بالجدران والقضبان، فلا أحد يستطيع أن ينزع حرية أحد لديه الإرادة أن يكون حرا، حتى وهو داخل زنزانة.
 

تكتب القاصة على لسان شخصيتها عن الرفض لكل أشكال الاستلاب والحصار والحرب، وطمس الهوية وعن النضال من أجل تحقيق الأحلام في وطن متعب.
إن القصة القصيرة جدا ترتكز على التكثيف والعمق وكما يقول توماس وشبرد «لا تعتمد في أمر نجاحها على طولها وإنما على عمقها، وعلى ما تتسم به من وضوح الرؤية وما تشتمل عليه من مغزى». (محمود شقير. «أنا والقصّة القصيرة جدّا». في: القصّة القصيرة جدّا. كتاب مشترك. رام الله: منشورات مركز أوغاريت الثقافي. ط1. 2011).

 

استطاعت الكاتبة أن تقدم لنا نماذج قصصية ناجحة، تستحق أن توضع تحت مجهر النقد، وسط كم هائل من النماذج المهترئة التي لا تمت بصلة للقصة القصيرة جدا، ولا حتى لفن الكتابة.

٭ كاتب فلسطيني

منقولة من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً