الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
«زنبقة المحيط» لمصطفى لغتيري وإشكالية الرواية البوليسية العربية - أمين دراوشة
الساعة 14:28 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

لم يهتم الأدباء العرب بكتابة الرواية البوليسية، بعكس الغرب الذين أبدعوا في هذا المجال، ولا شك إن أسباب انتشار هذا النوع من الروايات في الغرب نابع من تكوينات المدنية الغربية التي تضج بالحياة، والمشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكان لانتشار الجريمة والعنف نوع من التمهيد لهذه الروايات. أما في العالم العربي، ورغم أننا نملك مادة تصلح للكتابة، كوننا نرزح تحت حكم أنظمة بوليسية، إلا أن الكتّاب العرب أهملوا الكتابة، قد يكون السبب انشغالهم بالألم التي تتركه الأجهزة القمعية أكثر من الاهتمام بأساليبها. فغياب الرواية البوليسية عن الساحة الأدبية العربية ناتج من انشغال الكتاب بالهم الوطني، وكونها تحتاج إلى مهارات خاصة قد لا يملكها الكتّاب، ولا ريب إن الخشية من تناول قضايا قد تكون حساسة يلعب دوره في هذا الموضوع. ويرجع الروائي مصطفى لغتيري الأمر إلى أن بعض ‬الكتّاب ‬العرب ‬«يحتقرون ‬الرواية ‬البوليسية، ‬ويعتبرونها ‬من ‬أردأ ‬أنواع ‬الكتابة» ويستغرب ذلك، ولا يجد تبريرا له إلا ‬«العجز ‬عن ‬كتابتها، ‬فغالبا ‬ما ‬يذم ‬المرء ‬ما ‬لا ‬يقدر ‬على ‬الإتيان ‬به، ‬أو ‬ربما ‬إن ‬بعضهم ‬اعتاد ‬الكسل ‬واطمأن ‬إلى ‬كتابة ‬التداعيات ‬البسيطة، ‬ولا ‬يرغب ‬عن ‬ذلك ‬بديلا». ‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

 

العتبة النصية وبراعة الاستهلال

تعد براعة الاستهلال من أهم عناصر البناء الفني في الرواية، ذلك لدورها البارز «في حسم توجّه القصة وتشكيل رؤيتها وبيان نموذجها». فهذه العتبة التي تأتي بعد عتبة العنوان «زنبقة المحيط» الذي هو مقهى على المحيط تدور فيه الكثير من المؤامرات. تمثل أول دخول حقيقي إلى ساحة النص. والترابط بين الاستهلال والمتن الروائي هو العلاقة المؤثرة بين العمل الروائي والقارئ في عملية القراءة. فالاستهلال هو ما يجعل القارئ ينبذ القصة، أو ينجذب إليها بشغف. يبدأ لغتيري روايته بهذا التصوير الأخاذ والمثير، يقول: «أنغام موسيقى شرقية تتهادى في جنبات المرقص الليلي، الذي اعتاد استقبال الرواد بعد ساعتين من حلول الغروب.. مناضد موزعة بشكل أنيق، تحيط بها كراسي وثيرة، مزينة بأغطية تناسب إلى حد كبير المناديل، التي تغطي المناضد… كؤوس منتقاة بعناية، مرصوفة على صفحات مناضد، تحتل وسطها مزهريات، تضم أنواعا مختلفة من الأزهار.. في كل جانب من المنضدة أشعلت شموع بألوان مختلفة تمنح الرواد الشعور بالأجواء الرومانسية المشتهاة». ويستمر باستهلاله محدثا الإثارة المطلوبة، يقول: «في المنصة تتراقص على أنغام الموسيقى شابة تقارب الثلاثين من عمرها.. جسمها يتماوج مع الإيقاعات الشرقية، يهتز بحركات مدروسة ومتقنة.. ترتدي المرأة ملابس خفيفة، تكشف عن بياض يسرق الألباب.. شعرها مرتب بعناية فائقة كي يبدو منسجما مع هندامها.. في الجانب الأيسر منه تضع وردة حمراء، مثبتة بشكل جيد لتظل راسخة في مكانها رغم التشنجات، التي ينخرط فيها الجسد المعتدل في كل شيء». وأيضاً: «تبدو المرأة الراقصة وكأنها غائبة عن الوجود، حضورها زئبقي.. لكن تأثير جسدها حاضر بقوة، يسلب أذهان الجمهور وقلوبهم ، بينما تبدو روحها غائبة.. الشرود يتأرجح على ملامح الراقصة، فيما يبدو رقصها المتقن طبيعيا إلى حد مربك، وكأنها لا تبذل أي مجهود لتؤديه بهذا الشكل، إنها في حالة من الاندماج التام، فقط تتماهى مع الإيقاعات القوية حينا، الخفيفة والناعمة حينا آخر». هذه الفتاة البضة ولا شك أثارت عواطف وغرائز جمهور القراء، كما أثارت فضولهم ومع إن الروائي مهد الطريق للقارئ إلى أين يريد الوصول في استهلاله إلا أنه أبقى الإبهام والغموض قائمين. أيضاً وفّق الكاتب في النهاية، ما أعطى الرواية التماسك والحياة، فالخاتمة كما الاستهلال تؤثر في القارئ، فمنحته رؤية متنوعة، وتضمنت بعدا جماليا ناتجا عن المهارة في تشكيل اللغة، إضافة إلى التوازن في استخدام الحوار والوصف، مما أمد العمل بكثير من الحيوية والتفاعل مع القارئ.

 

الحبكة

يقدم لغتيري في روايته قصصا بوليسية ومطاردات ومؤامرات يقوم بها المجرم والبطل وكثرة الأحداث زادت من حيوية الرواية، لقد اشتغل الروائي على الحبكة الدرامية التي هي لب العمل البوليسي فخرجت متقنة، ومرسومة بدقة، واستعان بمجموعة من الشخصيات الرئيسية، إذ يمكن الحديث عن أكثر من بطل في الرواية. تحكي الرواية حكاية سارة الفتاة الجميلة واليافعة التي تعمل في كباريه في فرنسا يملكه رجل تركي، وتمتلك مهارة رائعة في الرقص، لدرجة إن المكان يعج بالزبائن كل يوم. تبدأ خيوط الحبكة بالظهور عندما يزور الكباريه خالد وزوجته ليلى، التي تتعرف على شخصية سارة، وليلى هذه تمتاز بالفضول والذكاء والوفاء أيضا، فسارة كانت زميلتها في الدراسة، لذا شكت بوجود شيء غير صحيح في القضية، لأن سارة كانت فتاة ثرية جدا وطموحة جدا، كما أنها لم تتعرف عليها، ما جعل شكها أكبر، ومن خلال تشابك الأحداث نعرف إن سارة فاقدة للذاكرة، وإنها لا تعرف حتى نفسها. تبدأ ليلى في البحث والتقصي عن أسباب وجود سارة في فرنسا، وعن الحوادث التي حصلت معها. تستعين بصديقتها رحمة الناشطة في مجال حقوق المرأة، التي تبدي اهتمامها بالأمر لأنها كانت زميلة سارة أيضا في الجامعة، كما تطلب ليلى مساعدة أخيها يوسف المخرج لمعرفة خبايا الأمر، وفي الأخير يتفقون على خطف سارة وإنقاذها.

 

تعقد الأحداث

تشرع الأحداث في التشابك، وتظهر صفات المجرم الذي يستغل سارة لتحقيق الربح الوفير، كمال التركي هو الشخصية الشريرة الذي يتصف بالغرور والثقة الزائدة بالنفس والقدرة على فعل أي شيء لتحقيق مبتغاه، لذا يحشد كل رجاله وينفق الأموال لاستعادة سارة. يقع يوسف في حب سارة ويتزوجها، وتتعقد مهمة كمال، خصوصا عندما يعــــود يوسف وسارة إلى المغرب. 
 

وهناك يلعب التنقل بين الدول ومدن المغرب دوره في إحداث التشويق والشغف في مطاردة الأحداث. تمتلئ الرواية بالمؤامرات المحبكة للشخصيات، فكل منهم يريد أن يصل إلى هدفه، الشرير كمال يستخدم وسائل غير مشروعة لتحقيق هدفه في استعادة سارة والسفر بها إلى فرنسا. 
 

فيستعين بمجرمين سابقين مستغلا معارفه الكثيرة لخطفها، بل إنه يخطط لقتل يوسف إذا اقتضى الأمر، وبالفعل يقوم يوسف بعد حصوله على المعلومات الضرورية في حبك خدعة محكمة للإيقاع بكمال بالتعاون مع الشرطة. وفي النهاية تحل عقدة الروائية المركزية بالقبض على كمال أثناء محاولته الهرب إلى فرنسا في المطار.

 

 

حبكات ثانوية

من الحبكات الثانوية في الرواية كان استغلال كمال طموح أخت يوسف سناء والتغرير بها وحتى الزواج منها لمساعدته في خطف سارة، وهناك شخصية سفيان الانتهازي والمدمن على القمار الذي استغله كمال للإيقاع بسارة، حيث حاول سفيان التقرب من سارة بعد أن شغفته حبا، وفي النهاية يتحول ولاؤه إلى يوسف الذي دفع مالا أكثر. وتناولت الرواية أيضا موضوعا مهما وخطيرا، وهو «الاستغلال» كاستغلال جسد المرأة، كما استغل كمال سارة في الكباريه، أو استغلال الأطفال في العمل كخدم، كما الطفلة زينب التي تخلى عنها والداها مقابل المال، وكذلك العنف الزوجي الذي يدمر العائلات والنسيج الاجتماعي.

ناقد وقاص فلسطيني

منقولة من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً