الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
شعرية البوح - عبدالله المتقي
الساعة 15:25 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

بداءة، وللحق أقول، إن المشهد الروائي المغاربي، فقد مؤخرا اسما أكثر من واعد في سماء الرواية الجزائرية بصيغة المؤنث، إنها الروائية ديهية لويز، وعن سن تناهز 32 عاما، وهكذا هي بعض النماذج من المبدعين الأصلاء والأصفياء يغادروننا باكرا، وأعتقد أن ديهيا واحدة من هؤلاء المبدعين الأصلاء والبروميثيوسيون، يرحلون فجأة وفي قلوبهم صناديق سوداء تنام على أسرار غامضة، والكثير مما يستحق الانتباه والبوح.

استحضارا لروح ديهيا لويز وعوالمها الثرية والبهية، سنلامس ملامح البوح في روايتها الثانية «سأقذف نفسي أمامك» الصادرة منشورات «ضفاف» و»الاختلاف» (2013) بعد روايتها «جسد يسكنني» الصادرة عن دار ثيرا عام 2012. وكانت لويز ساهمت أيضا في مجموعة قصصية باللغة الأمازيغية مع عدد من الكتاب الجزائريين والمغاربة والليبيين، وحازت في عام 2016 على جائزة محمد ديب للرواية في اللغة الأمازيغية. أما آخر أعمالها فرواية بعنوان «إيروتومانيا» بدأت كتابتها عام 2016 ورحلت قبل أن تنهيها.

يلاحظ المقبل على غلاف الرواية أن الكاتة اختارت للساردة أن تقذف بنفسها في العنوان دون جسدها، لأن النفس لا تعدو أن تكون خزانا وصندوقا للأسرار والانفلاتات، حيث لم تتردَّد الساردة في البوْح بما يختلج في نفسها، حتى لا تبقى تلك الخبايا حبيسة وسجينة مكنوناتها، فتجد في الكتابة تعويضا وملاذا: «لكني سأكمل وأكتب وأتعرى، رغما عني، وبإرادتي.. فلم يعد هناك غير الكتابة كملجأ أخير لهذا الكم الهائل من الخراب الداخلي» (ص7)، وفي سياق طلب الساردة اللجوء التنفيسي والتعويضي من الكتابة نقرأ: «أعرف أني في أحيان كثيرة أكتب أشياء قاسية جدا، بدءا بنفسي ووصولا إلى أقرب الناس إلي.. لكن الكتابة هي متنفسي الوحيد، حقيقتي التي أواجهها بكل قسوتها وجمالها» (ص37).

هكذا يعلن العنوان عن نية النص، إذ سيكون القارئ وعلى مدى أحد عشر فصلا، أمام جزيرة من البوح غايته التنفيس والتطهير ونشر الغسيل كل ما هو مدنس ومحرم، وبذلك يكون العنوان الذي انتدبته الكاتبة متساوقا مع المتْن الروائي، وكما لو أن الساردة تمسك بيد القارئ في العتبة قائلة: «عزيزي القارئ، هذه هي نفسي أنشرها أمامك»، مما يوحي بكامل البوح أو بشطر منه.

تتحدث الرواية عن ليلة ماطرة ومظلمة، حين يعود الأب مخموراً إلى بيته لينهال على جسد «مريم» بقبلة عنيفة على شفتيها محاولا اغتصابها، فيحاول «نسيم» الدفاع عن شقيقته ليصطدم رأسه بالطاولة ويَحدث له نزيف أدى به إلى الوفاة بالمستشفى، عندها يهرب الأب ويغادر بيته إلى ما لا رجوع حتى تبيّن أنّه توفّي وحيدا بائسا في أعماق الغاب.

بعدها تقرر الأم الخروج إلى ممارسة الدعارة، في الوقت الذي تجاوزت فيه مريم حالتها بالانغماس في الحياة الدراسية والمشاركة في الاحتجاجات للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، وتتعرف على «عمر»، المناضل الوطني المهجوس بالمواطنة والكتابة، والذي سيتزوجها لاحقا، وبسبب جرأته التي أزعجت الحكومة تم اغتياله برصاصة في رأسه قيل بعدها إنها طائشة وأصابته خطأ، بعدها تتوالى الأحداث في الرواية وتتحمل مريم آلاما جديدة وإضافية بعد أن تكتشف أنها ابنة غير شرعية لعلاقة جمعت أمها بمناضل وكاتب مشهور هو سليمان جودي، والذي كان بدوره في عداد الموتى بالمهجر. وأن الرجل الذي ظنته أباها تزوج من أمها، وقرر أن ينتقم منها عن طريقها، لم يكن سوى أب بالتبني.

في هذه الأحداث تخصيصا، تطرح الكاتبة بجرأة وحذاقة، واحدا من التابوهات الاجتماعية المتفشية في العالم العربي، والمتمثل في زنا المحارم الذي لم تتداوله الكتابات والأبحاث بما يكفي، باعتباره أمرا منافيا للأعراف والتقاليد، وواحدا من الحواجز الاجتماعية.

ويمكن أن نستشف هذا الجهد من البوح والاختراق لهذه العوالم السوداء من خلال حكايتين اثنتين لهما علاقة بالعنف والتحرش الجنسي، أولاها محاولة اعتداء فاشلة من طرف الأب انتهت باندثار تلك الصورة الأبوية الذهنية: «لكن بدل ذلك ترك ذراعه تحيط بخصري بهدوء، قبل أن يجذبني إليه بقوة تكاد تكسر عظامي، وضع شفتيه على فمي ورائحته تخنقني، يده تتسلل في جسدي لتبعث فيه رعشة لم أعرفها قبل تلك اللحظة» (ص9).

ثم ليعيد المحاولة ثانيا وفي غياب الأم، لكن هذه المرة كانت أكثر عنفا وتحرشا: «انقلبت ملامح وجهه، ليتحول إلى وجه لا يرغب سوى بالعنف، انفلتت يداه إلى صدري ليمزق قميص نومي الأزرق، اجتاحني برد جسدي من صدري العاري» (ص23).

أما الحكاية الثانية فبطلتها «إيناس»، صديقة مريم التي تعرضت لاغتصاب جنسي ووحشي وهي في سن المراهقة من طرف معاون أمني في مكتب الدرك الوطني: «كنت أتمزق من الألم والإهانة، جسدي لا يسعفني ليقاوم» (ص78)، لتحتمل بعدها الكارثة في صمت وتلتزم الصبر والترصّد إلى أن سمحت لها أوضاع «الربيع الأسود»، فأخذت ثأرها بيدها من مغتصبها بقتله وأصبحت حديث الجميع: «أحرقت دركيّا الأسبوع الماضي، صبت عليه زيتا مغليا حين كان يجلس أسفل شرفة منزل خالتها» (ص71)، ثم تنتحر بعدها.

واضح من زبدة الحكايتين السابقتين، أن الثيمة التي تحظى بحصة الأسد هي ثيمة قمع الذكورة أو قهر المرأة عبر مشهدين فاجعين وفق ثقافة أبيسية تروم حيونة العلاقة بين الرجل والمرأة من خلال الأحاسيس والغرائز، وبذلك تسمو الكاتبة ببوحها لتنشر على حبال الرواية غسيل المجتمع الأبيسي الذي يروم تسليع المرأة وتشييئها.

وفي سياق البوح وبجرأة الكتّاب الحرفيين والمتمكنين من صناعة كتابة الموقف والاختيار، تنتقل بنا الكاتبة لأحداث «الربيع الأمازيغي» عام 2011، كما يسمّيه الناشطون الأمازيغ بالجزائر، ويطلق هذا المصطلح على الاصطدامات العنيفة التي شهدتها منطقة القبائل الجزائرية بين قوات الأمن والمتظاهرين خلال الفترة الممتدة بين نيسان 2001 ونيسان 2002، حيث تم إطلاق الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين الذي يطالبون بحقوقهم الاجتماعية والاعتراف بهوينهم اللغوية التي طالما تجاهلتها الحكومات المتعاقبة في وطن تشهد جباله الشامخة أصالة الأمازيغ في صنع تاريخه واستقلاله. ومن الشواهد النصية التي تصور بعض ما جرى: «أسبوع واحد يحصد أكثر من خمسين قتيلا» (ص59)، «أكثر من مائة وعشرين قتيلا والعشرات من المعطوبين» (ص64)، «حزن يختزل ألم أمهات ما زلن يرثين أولادهن ويتصدرن الصفوف الأولى في كل مظاهرة، للمطالبة بالثأر لحياة أبناء قُتلوا مجانا» (ص92)، «ما إن جلسنا في مقهى السعادة... حتى وصلت حشود الشباب الهارب من الغازات المسيلة للدموع» (ص114).

من خلال هذه المشاهد الدرامية والحماسية يتعبأ السرد ليصور الأحداث التي اجتاحت جغرافية «القبايل» بالجزائر من خلال أنفاس روائية ساخنة ومحبوكة، كيف لا وهي تسرد علينا وقائع كاملة ودقيقة من الفجائع والأوجاع وتستعرض العديد من المواقف والمصائر والخيانات حتى، والتي تساوقت مع أحداث «الربيع الأسود» الذي أطفأ الحلم «القبايلي».

والأكثر من ذلك، إن هذا البوح يمنح الضوء الأخضر للرواية بالانضمام لكتّاب الرواية من ذوي الأصول الأمازيغية الذين ظهر جيل جديد منهم في الجزائر خلال السنوات الأخيرة، والذين تجرؤوا وكتبوا عن «الربيع الأمازيغيط باللغة العربية من دون عقد لغوية، ذلك أنّ الدفاع عن الأمازيغية ليس حكراً على اللغة الأمازيغية أو على اللغة الفرنسية، كما هو شائع في أدبيات الحركة البربرية.

تبقى رواية «سأقذف نفسي أمامك»، تجربة جريئة ومتجهمة وشاعرية، وورشة حافلة بالمفارقات، حافلة بالسخرية والتهكم، وحافلة بنقاط ساخنة، وبأكثر من بوح عما يعتمل بالداخل من جراحات وانكسارات، وبأكثر من فظاظة رائجة خارج هذه الذات المأزومة، ليبقى كل شيء جزءا من لحظات مستفزة نكاد نتقراها باليد ونستعيد أصداءها وتفاصيلها.

وصفوة القول، سلام على روح فقيدتنا القاصة والروائية والإنسانة « ديهيا لويز» الذي أدركت حرفة الكتابة ليدركها الموت وفي جبتها رواية «إيروتومانيا» والكثير من الإبداع المزيد والمنقح، أسكنها الله فسيح جنانه، وإنه القدر المقدور.

* كاتب وشاعر مغربي

منقولة من صحيفة الرأي الثقافية ...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً