الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
نواصي السرد في بنات الخائبات - حسن البصام
الساعة 11:43 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)
 
 
(بنات الخائبات) قصتان قصيرتان :- فرائسُ بثيابِ الفرح ، وسيوف خشبية ، للقاص العراقي علي السباعي . عدد الصفحات 84 صدرت عن دار ميزوبوتاميا / 2014 – بغداد .
 
القاص العراقي المبدع ( علي السباعي ) من الأدباء الذين أجادوا السباحة في نهر السرد الطافح بتياراته المندفعة المتتالية . فقد لازم ضفة الواقعية متأملاً تياراته وتقلباته .ويذهب بعيداً إلى ما وراء الواقعية وهو يحلق في عالمه المتخيل .. وهو صائد حاذق ، يغوص إلى أعماق الواقع لاصطياد نفائس الأحداث ودهشة المواقف ..مبدع سومري حين يتلبسه جنون السرد ، يكتب بحرية لا حد لها ..إنه واحد من المحتشدين في ساحة الأصالة دفاعاً عن الكلمة وعن حيواتنا المكبوتة وأعناقنا المضمرة في التواء الذل. في هاتين القصتين القصيرتين أيروتيكية تحت جبة متعبد أو ناسك أو تحت قميص مقاتل أو شاعر. يرتكب فعله الفاضح لحظة انفجار أو بسبب نوازع مكبوتة وصلت ذروتها أو تحقيق الذات بسبب تربية خاطئة .. لو ألغيت التسميتين لأصبحت قصة واحدة ..لم أجد حاجزاً بين الضفتين سوى تدفق السرد المتماسك ذي النزعة الحياتية العارمة المتجددة التي تصنع الأشياء أو تعيد حركتها ..كان يغور إلى أصل الحياة ويطلق عليها تسميات عديدة وقد أضمرت القصتين صرخة مؤثرة. لا يستطيع القارئ أن يسترسل في القراءة بانسيابية وتتبع تلقائي ، لأنه يتفاجأ بأحداث عرضية صاخبة كموجة منفعلة صادمة ..بل ربما أقول أنها مجموعة أمواج صاخبة من الأحداث ..وإن القصة لديه تشبه البالون الممتلئ بنفحات ذاتية ساخنة على وشك الانفجار ، وهي زفرات من رئة الواقع ، و لربما لو لم يكن السباعي قاصاً لما استطاع تحمل ضغوطات الحياة ، ولكنه وجد ارتياحه فيها لأنه يبثها واقعه المرير حيث نجده دائما عنيداً مواجهاً له وساخطاً. تبدأ القصة الأولى (فرائس بثياب الفرح) بأربع نقاط ، وهي دلالة على أن القاص لم يبدأ تواً إنما هناك الكثير الذي لم يفصح عنه أو انه كان مستغرقاً في أحداث سابقة ومحاولة منه إشراك القارئ مع خلقه السردي. حيث يقول(.... ما كنتُ يوماً قاطعَ طريقِ لكثرة تعثري بظلي، فتمنيتُ لو كُنت طارقَ بَن زياد لأحرَقتُ نفسي بدل إحراقِ سفني لأنني لم أكن صانعَ هذا العالم وما كنتُ كاسراً للصمت الدولي لأنني أنفقت عمري كله أعيشُ مثل أبي الهول، وكم تمنيتُ أن أكونَ ساعاتَ ضعفي مثلَ اوغستوبينوشيت حتى اقتص من كلّ الصبيةِ الذين ضربوني في المدرسةِ، عزَفتُ عن كوني بينوشيت لأن العالمَ أصبحَ صغيراً على الطغاةِ، حسبتُ نفسيّ في سنيّ مراهقتي اكبر عاشق في الناصريّةِ فأطلتُ لحيتي وشاربي على طريقةِ بيكاسي.. لولا تنغيصاتُ حبيبتي التي كلما ضجرتْ منّي عيرتني برسول الحبِ.. ويدي في يدِها تمنيتُ لو كنتُ أنا مَنْ ضربَ أنظمةِ الكمبيوترِ بفيروس الحبِ بعبارةِ أحُبك).ص7 إن هذا التنقل المفاجئ من حالة إلى أخرى لا يدل على أن الكاتب كان يختزن أحداث النص في ذهنه وهو متهيئ للكتابة التلقائية.
 
إنما اعتقادي أن الكاتب تدفعه الرغبة للكتابة وما يبدعه هو نتاج مخ متحفز ، وذهنه حامل على وشك الوضع ..تتزاحم الصور فيها وتومض الذكريات مدفوعاً بعنفوان المخيلة ، لتكون الكتابة مرايا مستوية لذاته ، لواقع ضاغط عليه . لقد ظلت عبارة (إلى متى تبقى الصخرة جاثمة عليكَ؟ ) ص8 تلك العبارة التي تكررها أمه تأففاً واحتجاجاً عليه . ويقول (رغبت ساعتها لو كنت تانتالوس فأزيح الصخرة وأرميها بعيداً عنا نحن أبناء الخائبات )ص8 ..ذاته تنزع نحو الحراك والتغيير ، نحو الصخب كما كان جده الثالث علي السباعي ( الذي كان يعمل غواصاً ينتشل الغرقى والبضائع الساقطة من السفن )ص8...والذي حلم ذات ليلة من ليالي كسوف الشمس(حلمت أمس ليلة الكسوف برأس الحسين محمولاً فوق رمح طويل مدمى بغسق الغروب ؛ الرمح بيد فارس بلون الكرافيك ؛ بدأ الفارس ومن خلفه الغروب كتلة من دم قرمزي ، كل ما أذكره ، كان وجه الحسين يشع نوراً ، إنه يتألم ، إنه حي ، وكأن الموت ما طاله )ص11 . وتظل صرخة الأم المحتجة عالقة في ذاكرته ، وربما هي محفز دائم للركود،تكررها دائماً..فحين كان يصرخ متنبئاً في حلمه( ستزول دولة إسرائيل عام ألفين وثمانية ) ص11 علقت: ( أتُبقي الصخرة جاثمة عليك حتى عام 2018 ..الله أكبر ) ص11 .
 
وفي قصة (سيوف خشبية ) بدأت القصة بذات المدخل السردي الذي أفاض بالكثير من الأحداث صادماً القارئ بها : (إني سيئُ السمعةِ للغاية أكثرَ من كلِ الناسِ، تعلّقتُ بذيلِ حمارٍ ودخلتُ سفينة نوحٍ، فكانَ ليّ النصيبُ الأكبرُ من سيئاتِ الناسِ، رغم حقارتي ونذالتي إلا إنني لا ادخلُ البيوتَ إلاّ مِن أبوابِها، بإمكاني إدخال خَيْطي في كلِ نسيج، أجُمِّلُ القبيحَ وأقبّحُ الجميلَ، كنت مبتلى في هذا الجانب، بعضهم يولَدُ مُتَوَّجاً بالمالِ، وآخرَ محبوباً النساءِ، وثالثٌ يزدان بالعِلم، فكنتُ مبتلى بسوءِ السمعةِ، شدَدْتُ الكلَ إلى ناعورِ السمعةِ السيئةِ،فصارَ يدورُ، يدورُ بسيئاتِ بني الإنسان إلاّ أخيار الناسِ فقد تحرروا من هذا الناعورِ؛ وَ سوَستُ في صدرِ "هند بنت عتبة" فدربت وحشياً لاصطيادِ أسد الله، وسوَستُ في صدرِ " سلْمِ الخاسرِ" فَباعَ القرآنَ ليشتري بثمنهِ عوداً يعزف عليه، وسوست في صدرِ "دوق وندسور" وجعلته يتنازل عن عرشِ انكلترا كي يتزوَج المرأة التي أحبَها، حَرَّضتُ "لوترك" وليَ عهدِ النمسا، فباعَ مُلْكَ النمسا كي يعيش حراً، فوُجَد ميتاً فوقَ صدرِ بغيّ في باريس، وسوست في صدر "محمد أنور السادات" فأمرَ "عادل أمام"بعرض مسرحية " شاهد مشافش حاجة"، فكانت قنبلةَ الغاز التي أسالتْ دموعَ المتظاهرين ضد سلطتهِ، و سوستُ في صدر سلفادور دالي، فأطال شاربيه وجعل منهما أحجية عصر السرعة) ص29 ثم تعقبها صور فاضحة لكنها تعيدك إلى حقائق الأمور وهو يذكر ما قالته سفانة بنت حاتم الطائي ، حين سألوها عن أحب الأشياء إلى المرأة فأجابت "الجنس" " الجماع" ..فقالوا لها كيف عرفت ذلك وأنت باكر ؟ فأجابت : أمي كانت قابلة، كنتُ أرى النساءَ يصلنْ إلى الموتِ أثناءَ ولادتِهُنّ ويبقين يضاجعن أزواجُهنَّ رغم وصولهنَّ الموت ساعة الطلق.) ص33. وكان يردد: ( كانوا يضاجعونك بسيوفهم لا بأرواحهم) ص36 علي السباعي يمتلك حرفية الماهرين في ألحكي أو السرد فذاكرته أشبه بالراقصة التي تفاجئنا بحركة مذهلة ما كنا نتوقعها فحين يحتضن حبيبته لا تستغرب أن تجد نفسك في لحظة طعن في جبهة أو لحظة إزهاق في مكيدة أو صراع بين قط متنمر وقطة مسالمة..كل شيء في هاتين القصتين له مذاق متماوج في اللذة يثير لعاب فحولتكَ أو أنوثتك..هذا هو السباعي لا يجلس منفرداً مدخناً تبغ وحدته لينسج لنا حكاياه الساخنة من لهيب الخيال. إنه هناك يجلس بل يركض كتفاً إلى كتف المتعرق حباً أو حزناً أو خجلاً أو حرماناً . علي السباعي خيّال في السرد ..يجوب صحارى هذه الحياة ليقتل الأفاعي الغادرة ..ويجوب السفوح المعشوشبة ليلتقط ورود الغاردينيا لحبيبته . إن السرد في تلك القصتين جرئ ،فهو يركن تعريف سمير المرزوقي جانبا حين يقول : (بان السرد هو التتابع وإجادة السياق)..ولكني أجده في قول رولان بارت بأنه (رسالة يتم إرسالها من مرسل إلى مرسل إليه وقد تكون هذه الرسالة شفوية أو كتابة وهو حاضر في الأسطورة والخرافة والحكاية والقصة والملحمة والتأريخ والمأساة والكوميديا).
 
 
وإن السرد وجد مع تأريخ الإنسانية نفسها فلا يوجد شعب دون سرد .والسبب في ذلك يعود إلى تمرد القاص وخفة قفزه من حدث إلى آخر ..وكذلك هو يقترب من تعريف جيرار جينيت بقوله(هو فعل واقعي أو خيالي ينتج عن الخطاب ). في تلك القصتين ارتقاء باللغة إلى مستوى الشعرية التي يوظفها في تشكيل صور سردية كثيفة مترعة بالخيال الجميل ، وإن ذلك من محسنات النص وتحريك مفاصل السرد الخاملة لأن الشعرية تتداخل مع الكثير من الأجناس الأدبية .وقد وظفها بحرفية وإتقان فإن مادة النصين من طين الواقع شكَّلها بأنامله المحترفة ، من نسيج العلاقات المجتمعية وقضاياه الساخنة دون تطابق السرد مع ملامح الواقع إذ إن الشعرية تنأى بهذا التطابق وترتقي به إلى مستوى الخلق والإبهار وكأننا نعيشها للتو حتى وإن كنا رأيناها أو عشناها . روح الماضي نابضة ،شاخصة بثياب جديدة،الماضي ذائب في الحاضر ويشرف على مستقبل . أزمنة متداخلة متشاكلة متعانقة .
 
 
يتشكل الواقع بصور متعددة أي أن النص لديه هو حكائياً وسردياً واستشرافياً.وليس قراءة سريعة متتابعة حرفية لسطور الواقع وصفحاته ، إنه يتشكل وفق علائق غير متوقعة ، وكأن النص منجم معرفي أو صوري متوالد حتى أن عجالة القارئ تضيع عليه فرصة الاستمتاع بالنص . لأن السرد يخلق واقعاً انثر بولوجي – إنساني بكافة جهاته المشعة والمعتمة ،الجامد فيه والمتحرك.فهو يقوم بتحليل وتفكيك الواقع ثم إعادة صياغته ، يتحول المحكي إلى سرد يشرق الذاتي في أفق يتسع للجميع. لأنه يفهم نفسه جيدا فهو يتمرأى بأحداث قصصه المتلاحقة اللاهثة القلقة.يلاحق ملامح وجهه فيها،يلاحق الأزمنة التي تنفسها والأمكنة التي جاستها مخيلته . فهي تحمل جيناته وملامحه وسماته. وان ما أراه حافزاً فاعلاً في سردياته هو عدم استقراره الذاتي وعدم تركيز الرؤيا لديه على مكان واحد فإنها تتنقل من هنا إلى هناك في ذات المكان .حتى الحلم لديه متشظي .
 
يقفز من حلم إلى آخر والزمن لديه متواليات أحلام. هل يسعى علي السباعي إلى قول الحقيقة أو وصفها في قصصه..هل هو صادق في سردياته.. هل كان يسعى إلى تدوين ذاته؟ لقد جعلني أتذكر إجابة فوكنر حين سألوه عن رأيه في جيل ميلر حيث قال:( إنهم يكتبون كتابة جيدة ،غير أنه ليس لديهم ما يقولونه ).. فلم أجد مقارنة لأني رأيت أن السباعي يمتلك الكثير الذي يود أن يقوله ، متزاحمة على أعتاب قلمه ضاجة ذاكرته باصطفافها وتدافعها ، فيجسدها بمخيلته التي ترتدي الجنون حرفة ويكتبها بشكل مدهش ، لأن لديه الكثير عن نفسه والكثير عن الآخرين فهو مدمن على سماع الآخرين والتفاعل معهم وملاحقة ذواتهم وأحلامهم وهو يمتلك نواصي السرد :المعرفة بما يريد أن يقول .
 
وأسلوبا متفرداً به . وذاكرة متقدة . ولغة تعتمد البلاغة والتشويق . الأحداث متوالدة في النص حتى يخيل للقارئ أن لا بداية محددة أو نهاية. أبدأ من حيث رغبتَ أو توقفْ أنى شئت. يقول شكسبير (إن الفن يحمل مرآة تعكس الطبيعة) ..من المؤكد يقصد الطبيعة البشرية التي تبض بحيوات  الآخرين وقد رأيت قصص السباعي تجسد هذا القول ، تجسد ما يشغل الآخرين أو ذاته المتخفية دائما خلف الكلمات أو ظاهرة في اغلب الأحيان متصدية لكل ما يدور ويتنامى من أحداث . فإنه بارع في خلق الصور المتتابعة ، وإن النص لديه مرآة لذاته النشطة وهي تمارس الاحتجاج على الأغلب ،محاولة تجسيد ذات الكاتب بصور محكمة بارعة تتماهى الذات مع الآخر أو المجتمع ، فالنص لديه يحمل الكثير من صراعاته الذاتية والكثير من أحاسيسه . 
 
وقد صدرت للقاص علي السباعي  :
1- إيقاعات الزمن الراقص / مجموعة قصصية / عن :- اتحاد الأدباء والكتاب العرب / سوريا / دمشق / سنة 2002 م .
2- صرخة قبل البكم / مجموعة قصصية / حصدت الجائزة الثالثة في الدورة الثالثة لمسابقة دبي الثقافية عام 2003/2004 م .
3- زُليخاتُ يُوسف/مجموعة قصصية / عن :- دار الشؤون الثقافية العامة في العراق / بغداد سنة 2005 م  .
4- احتراق مملكة الزاماما /2006 م ، حصدت جائزة ناجي نعمان / بيروت / لبنان / صدرت عن دار الينابيع للنشر / سوريا / دمشق سنة 2009م .
5- بنات الخائبات / قصتان قصيرتان / عن دار :- ميزوبوتاميا / العراق / بغداد / عام 2014 م . 
6- مدونات أرملة جندي مجهول / مجموعة قصص قصيرة جداً / عن دار ميزوبوتاميا / العراق / بغداد / عام 2014 م .
 
 الناصرية 
 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً