الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
إلى الأدب اليمني !! - صلاح الأصبحي
الساعة 12:57 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



لا يستحسن أن يقفز الأدب ـ أي أدب ـ فوق واقعه, فهو في الأساس نابع منه ومتصل به ومستوحى منه, ومستفيض من خلجاته وأناته, ولابد من معرفة أحقية القول: إن أي أدب لا يخلو من واقع , من التصور الذي يحيط بالأديب وما حوله , وما يكتنفه من صراعات داخلية أو خارجية , قريبة منه أو بعيدة , الأهم منها أنها ذات مشترك إنساني وجودي يربط بين الذهن عبر الخيال وبين الواقع عبر النص المكتوب, بين مشكل لامسه النص وبين مبدع تمكن من تقديم صورة أخرى لذلك المشكل .
 

وبالعودة إلى كل الفلسفات والنظريات التي حاولت أن تضع شروطاً معينة فرضتها وحاولت استلهامها من النصوص, ومهما تباعدت الغايات وبالغت أغلب النظريات بجرها ماهية الأدب خارج سياق وجوده, وخارج سياق الواقع؛ إلا أنها تقع في مصب أثره, وترتقي بمسعاه شريطة الحاجة للغاية المرادة منه, ولذا سنراها قد تجاوزت مرئيات الواقع إلى آفاق تتعلق بغوامض الذات أو الآخر, حتى لو كان الآخر أو الذات هو الواقع, كون أزمة الذات أو أزمة الآخر هي أزمة ناشئة في ثنايا الواقع, وعليه سنجد أن طبيعة الحياة والجغرافيا والذات في أي مكان من أرض المعمورة هي نقطة انطلاق الأدب ومنبع تكوينه وتكوّنه, مع اختلاف وجهات النظر, واختلاف طرق وآليات التعامل معه.
 

من هذه الأرضية سنلمح المنفذ الوحيد التي صارت عليه الأعمال الأدبية تتجاوز حدود اللغة وحدود الجغرافيا لتصل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب والعكس , وتتجاوز الزمن دون توقف أو تردد لكي تتنامى مع كل عصر يأتي, الأدب تجربة إنسانية متراكمة أفقياً, لا تؤمن بالأفضلية إلا لمن جعل من الإنسان مركزاً يدور من حوله العمل الأدبي .
 

منذ هوميروس وحتى اليوم كل نص محمل بقضية ما , بيقين أو بشك , بقبول أو رفض , بالتزام أو تمرد, بانسجام أو تذمر, الأدب أكثر من غيره من فنون القول كالتاريخ والفلسفة خازن آمين وشيق لقضايا الوجود والإنسانية , للصراع بين الحياة والموت في كل الثقافات والحضارات المتقدمة منها أو المتخلفة .
 

الأدب هو الحالة الواعية الفريدة في سياقات الخيال التي تتصور ما حولها بطريقة يعاد من خلالها تركيب المركب وتجزئ المجزأ أو العكس , الأهم إعادة الصياغة أو إعادة التشكيل والصياغة. 
الشاعر العربي التعيس المضمخ بتأسيه وانشطاره المشتت في أكثر من مكان بحثاً عن وجود مادي يحتويه, وسقف واحد يعتليه, فكانت القصيدة هي الأفق المرتفعة عنه, تجمع أجزاء حياته المتناثرة, أفق الشعر, أفق القصيدة هي السقف المادي للوطن الذي يقطنه, يلملم شتات بؤسه ويرمم مواجع نفسه , فهو حين يستكين ويستتب له الأمر, يلتجئ إلى الشعر كجامع كلي يسرد تفاصيل إحساسه المختلفة, يبكي الديار, ويصطاد الغزلان, ويفاخر بصولاته وجولاته, ويرثي من فقد, ويصبو بمن عشق ويهجو من ذمه وسخط عليه في إطار قصيدة واحدة, كمن يعود إلى دياره يؤرشف كل مشاهده, الديار عند الإنسان العربي هي القصيدة هي الموطن الأول والأخير يَخلد فيه ويُخلد به , ولذا بلغ الشغف به حد التيه والجنون , الشعر راصد متيقظ وآمين لحياة الإنسان العربي أكثر من الفنون التي نالت اهتماماً تالياً للشعر, وهي في أساسها تغذت منه ونسجت مصنفاتها اقتفاءً لأثر الحياة والتاريخ والأنساب والمثالب والغزوات, إذا فهو النسيج الذي يربط بمنواله كافة الشرائح المجتمعية على اختلاف مشاربها, مجدته العرب حد الهوس .

 

الأهم مما سبق أن الشعر كان يصنع سلاماً روحياً للفرد الشاعر وللمجتمع المستلذ به من باب المجاز, ولعله في بعضها صنع سلاماً حقيقيا كما فعل زهير بن أبي سلمى وغيره . 
في هذه اللحظة المتأزمة التي يكاد يختفي فيها مأوى السلام الروحي نحتاج بشدة إلى استعادة واستوحاء تصور ما نتخذه ونفعّله بشكل أو بآخر؛ لاستيعاب قلقنا الوجودي وليصلنا بخيط نتمسك بالحياة من خلاله, الأدب وحده القادر على نسخ صورة الحياة ,قادر على صد جوارف الاقتلاع, قادر على ترسيخ الأمل, قادر على مقاومة ما هو عرضي . 

 

اليمن أرضاً وإنساناً ساحة وغى وغوغاء, شاشة مثخنة بمشاهدات الدم والسلب, بمخالب التقهقر والانصياع والخذلان, لا تكف عن سخونة النشوة الدموية وتهاوي قلاع الثبات, فملامح الجمال والخضرة والتاريخ والمكان تتلاشى, ونحن نقبع في الصمت , أليس بمقدور الأدب بعث الصلة من جديد بينه وبين مرتكزات الحياة التي تفلت من بين يديه , كمٌ هائلٌ من لون البياض يضمحل ويحل لونٌ قاتم ومحبط محله , لم يعد التشبث رفيقاً لشيء في هذا البلد, حتى اللغة والأدب والفن لقي حتفه كنظرائه من الأشياء, وهنا وجب البحث عن الالتزام الروحي والوجداني والإنساني للأدب تجاه كل هذا, واقعنا يتجاوز السوريالية والواقعية السحرية والغرائبية والعجائبية, يبتلع جذور ومنطلقات نظريات بعد ما بعد الحداثة , كلها على صلة متزنة بالواقع , فلماذا كل هذا التخلي والبعد عن واقع يا معشر الشعراء والساردين, فتشوا في واقعكم عن خيالاتكم عن منابع مدهشة لإضاءته , عن صور بديعة وآمال مثخنة , فالألم يسير على قدميه أمامكم , والظلام يطفو فوق رؤاكم الإبداعية .
 

الأدب ليس اختراعاً علمياً, الأدب يصنعه واقع مهما تباعدت المسافة بينهما, وصدق ماركيز حين قال : في كولمبيا السوريالية تسير في الشوارع , لتيقنه أن ما يكتبه لا يخرج عن واقعه , فالتأزم الكلي عند الأدباء يتكشف خلال هذه اللحظات التي نمر بها ويكشف عن زيفهم وادعائهم "الإبداعية" وهم في وهمها, كيف لم يكن لهذا الواقع أثر في إظهار مهارتكم وقدرتكم في التعامل معه أو الخروج بنسق مختلف ينم عن وعي وتصور جديد خلقته هذه الأحداث؟؟ أم أنه لا فرق بينكم وبين عامة الناس .
 

الأدب مرآة الحياة , ولذا ففي كل مرحلة تحول يمر بها المجتمع في أي عصر يكون الأدب هو السبّاق لاكتشافها أو رصد ملامحها؛ بل قد يصنع هو التحول ذاته ويمده ببعض الإشارات لمعرفة طريقه .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً