الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مثقَّفون يمنيون يتحدّثون عن الحرب في بلادهم: الموت موعدنا! - عبد الدائم السلامي
الساعة 12:31 (الرأي برس - أدب وثقافة)


 

أشدُّ ما يُصيب الإنسانَ في الحرب ليس هو موت جسده فحسب، وإنما هو أيضا موتُ إنسانيته وعودتُه إلى أزْمِنةٍ حيوانيةٍ لم يستطع حفلُ الحضارةِ أن يُنْسيه توقَه إليها. ويبدو أن «ماكينة الحرب»، بعبارة جِيل دولوز، لم يهدأ صخبها في جغرافيتنا العربية منذ داحس والغبراء إلى حروبنا الراهنة، لكأنّ قَدَرَ المواطن العربيّ أنْ يكون حطبًا لحروب لم يخترها، وكيانًا تُجرَّبُ فيه ضراوةُ آلات التدمير، وفكرًا يسكنه رُهابُ الهزائمِ بمرارتها ــ وهل انتصرنا في حرب من حروبنا؟ ــ وفي غمرة ما يتعرّض له الآن بعض شعوبنا من تدمير قليلٌ منه ظاهرٌ وكثيرُه خفي لا تنقله كاميرات الإعلام، اختارت «القدس العربي» أن تَفْسَح المجال لمثقَّفين من اليمن ليتحدّثوا عن الحرب الدائرة في وطنهم، عسى أن تكون الكتابة عن الحرب سبيلاً إلى كشف لؤمها.

 

مآسٍ غيرُ منظورة

يقول الكاتب «محمد المحفلي» .. ربما يشكل الموت والدمار والخراب إحدى النتائج المباشرة للحروب بصورة عامة، وقد يكون ذلك عاملا ظاهرًا في تمزيق نسيج المجتمعات وتفخيخ مستقبلها بالمشكلات، وزرع بذور لصراعات مقبلة، بيد أن هناك من النتائج والمشاهد المأساوية ما هو غائب عن رؤية الراصد المباشر لهذه الحروب، ففي اليمن إضافة إلى الموت الذي يسحق الأبرياء والمتصارعين معا، وإضافة إلى الكوليرا التي تفتك بالناس، وإلى جانب الحصار الذي يخنق الشعب منتجا تجويعا وتنكيلا، توجد هناك مآس غير منظورة أو هي تتشكل بعيدا عن عدسة الراصد المباشر لهذه الحرب. لقد كنتُ شاهدا على الكثير من تلك المآسي التي تفتك بالبشر والطبيعة والمستقبل، حتى في تلك المناطق التي تقع بعيدا جدا عن بؤر الصراع والمواجهات المسلحة. فقد امتدت ألسنة نار الحرب لتحرق جسد اليمن المنهك منذ زمن، ففي الوقت الذي اشتعلت فيه الحرب مباشرة تم إقفال الأجواء اليمنية كلها، وصارت السماء اليمنية منطقة عمليات عسكرية وهذا بالنسبة لسقطرى الجزيرة الواقعة على بعد 400 كلم من البر اليمني، معناه إقفال الشريان الرئيسي الذي يغذيها بالحياة من مواد غذائية وأدوية ومواد طارئة، ويعمل على إقفال حركة المسافرين من وإلى الجزيرة، فالرابط بينها وبين الحياة كان عبر الطيران، وإغلاق حركة الطيران مثّل إغلاقا لحركة الحياة عن أكثر من 100 ألف مواطن لا ذنب لهم بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الحرب التي تجري على بعد آلاف الكيلومترات من جزيرتهم، وهو ما اضطر الناس إلى استعمال وسائل النقل البدائية المتمثلة بقوارب الصيد الخشبية المتهالكة لنقل البشر والمواد الغذائية. وقد حصلت كوارث راح ضحيتها العشرات غرقا في بحر العرب، ومازال الرقم قابلا للزيادة، في ظل هذا الحصار الذي يتعرض له الناس هناك دون ذنب، إلا أنهم ضمن النطاق السياسي للجمهورية اليمنية التي تعيش حربا أهلية. هذه الجزيرة النائية والمتفردة بميزاتها الطبيعية والسياحية النادرة تعيش نتائج كارثية لهذه الحرب، فإضافة إلى ما يتعرض له سكانها من هلاك، فإنّ نباتاتها الطبيعية التي تصنفها الأمم المتحدة واحدة من أغرب الجزر في العالم، تتعرض للإبادة استعمالا للحطب في ظل عدم وجود مادة غاز الطبخ المنزلي، أو تحويل أشجارها إلى فحم وتصديره إلى دول الخليج، مع زيادة السيطرة على الأراضي والمساحات العامة في شواطئها النادرة، التي هي في الأصل محميات طبيعية من قبل متنفِّذين في الخليج الذي يقود تحالفه لمحاربة الحوثيين في اليمن، استغلالا لهذا الفراغ في السلطة المركزية في البلد. فإذا كان للحرب ضحايا بشكل مباشر بالقذائف والقنابل والألغام والرصاص في ساحات المعارك ومناطق الصراع، فإن هناك عددا آخر من الضحايا لا ترصدهم عدسات التصوير ولا تذكرهم التقارير الإخبارية، لأنهم يقعون على بعد مئات الأميال من ساحات المعركة ولكن يجمعهم سقف الجمهورية اليمنية المتهالك.

 

قنبلة «نقم»

ويذكر الروائي «وجدي الأهدل» .. كنا في المقهى نتجادل حول قضايا أدبية من قبيل جدوى استخدام اللغة الشعرية في القصة القصيرة ونحو ذلك، وقبل أذان المغرب بساعة بدأنا نسمع صوت انفجارات قوية جداً آتية من جبل «نقم» الذي يتاخم مدينة صنعاء من جهة الشرق. لم نقلق، لأن استهداف جبل نقم في الصباح والمساء صار عرضاً روتينياً في الحياة اليومية لسكان المدينة. ولكن فجأة شعرنا وكأن كؤوس الشاي والكراسي والطاولات، بل حتى الأرض نفسها التي نقف عليها تكاد تنقلب رأساً على عقب، وصوت انفجار ضخم غير مألوف يصم الآذان. صراخ لاشعوري انبعث من الحناجر التي باغتها ضغط الهواء الناتج عن الانفجار الهائل، وهب الناس من مقاعدهم للبحث عن مخابئ، وقد ظن كل واحد أن الصاروخ ولاشك قد وقع على طرف من أطراف الشارع الذي نحن فيه. حالة فزع غير مسبوقة، ارتباك وذهول وخوف، وصراخ وبلبلة عظيمة، ولم يعد آدمي قادراً على البقاء في سكون. خرجنا من المقهى ونظرنا جهة الشرق، فرأينا عموداً من دخان يتصاعد إلى عنان السماء، منظره يشابه الصور التي رأيناها عن القنبلة الذرية. وقفنا مصعوقين ونحن نرى هذا العمود يكبر ويتضخم مثل مارد هائل الأبعاد يخرج من القمقم.. إنه مشهد لا ينسى لقدرة الإنسان المعاصر على صنع الدمار. أحد أصدقائنا وكان بيته يقع في شرق المدينة فقد رباطة جأشه، وغادرنا دون وداع ملهوفاً للاطمئنان على أسرته. صديق آخر كنت قد ضربت له موعداً لنلتقي في ذاك المساء المشؤوم صاح في وجهي: «لقد أتيت بي إلى فم الأسد»! لم أرد عليه، أدركت أنه فقد صوابه لهول ما يجري، فنحن كنا في حي التحرير ــ وسط البلد ــ ونبعد مسافة كبيرة عن جبل نقم. بعد دقائق تحول عمود الدخان إلى سحابة ضخمة حجبت السماء فحل الظلام على نصف المدينة، ثم أخذت السماء تمطر رماداً تساقط على رؤوسنا وأجسامنا، كان فتاتاً هشاً متفحماً، تساءلنا برعب «ما هذا؟». تداول الناس بسرعة البرق أن هذا الفتات المتطاير من موقع الانفجار ملوث بالإشعاع، ثم حدث شيء يُذكِّر بيوم القيامة .. آلاف الرجال والنساء والأطفال يغادرون الأحياء الشرقية من المدينة باتجاه أحيائها الغربية، إلى حيث لا تزال الشمس ترسل ضوءها، والسماء تبدو صافية لم يتكدر صفوها. كان مشهداً رمزياً مضغوطاً في كبسولة زمنية مقدارها ساعة واحدة لظاهرة أخرى أكبر وأفدح، ألا وهي فرار ملايين النازحين من بلدانهم في الشرق إلى مناطق آمنة في الغرب. جميع وسائل الموصلات مشغولة، وهناك من يدفع مبالغ خيالية لسائقي التاكسي لينتقل مع عائلته إلى أيّ مكان بعيداً عن جبل نقم، أحدهم دفع مبلغ خمسمئة دولار مقابل مشوار كان يكلفه في الأحوال العادية خمسة دولارات. قررت مع أصدقائي أن نعود إلى منازلنا ولو مشياً، كنا نمشي وهباء الصخور المتفتت ينهمر علينا بكثافة، ورائحته المحترقة تملأ رئاتنا. لم نكن وحدنا، أعداد لا تحصى من البشر كانوا يفرون مثلنا، صادفناهم في كل شارع وهم يحثون الخطى فراراً من هذا الشيء الغامض الذي يرخي بعباءته علينا. وبحلول الليل أقفر حي «السد» القابع على سفح جبل نقم من سكانه تماماً، وغادر الكثير من أهالي الأحياء المجاورة إلى أماكن بعيدة. تواردت المعلومات أن القنبلة التي تلقاها جبل نقم عصر ذلك اليوم (الحادي عشر من مايو/أيار 2015) هي قنبلة نيوترونية، يبلغ مداها عشرة كيلومترات، وأن عدد ضحاياها قد بلغ ما بين 120 قتيلاً و400 جريح، بالإضافة إلى آلاف المنازل التي تعرضت لأضرار متفاوتة في شدتها، بحسب قربها أو بعدها من مكان الانفجار. قضينا ليلة مؤرقة تناوشتنا خلالها الكوابيس المفزعة، وفي الصباح خرجت لأرى جبل نقم. قلت في نفسي لعله تشقق أو تغيّرت ملامحه، فألفيته راسخاً في مكانه كشيخ وقور لا تبدله الدهور، وبدا لي وكأنه يضحك ساخراً من كل ما يدور.

 

شمعة الأمل

وتقول القاصة «انتصار السري» .. حديثي عن حال الكاتب في الحرب هو عن مأساة كلّ مواطن يمنيّ عاش تدمير البُنى التحتية من مصانع ومنشآت وجسور ومرافق حكومية بسبب قصفٍ لم يترك شيئا إلا ودمّره كالأسواق والمنازل والمزارع، وهو تدمير ذهب ضحيته أبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ الذين لا دخل لهم في إشعال فتيل الحرب، هذه التي حفرت في أجسامهم إعاقات كبيرة وجراحا نفسية غائرة. يضاف إلى هذا معاناة الناس في توفير حاجاتهم اليومية مثل، الكهرباء التي سبّب انقطاعها عودة المواطن إلى عهود الظلام، وهو ما جعله يعتمد في الإنارة على الطاقة الشمسية التي تحوّلت بدورها لدى بعض تجارها الجشعين إلى سلعة احتكارية، إضافة إلى تفشّي مرض الكوليرا في اغلب محافظات الجمهورية، وحصده العديد من الأرواح البريئة، وانعدام الأدوية وارتفاع أسعارها خاصة أدوية الأمراض المزمنة كالكلى والسكر والسرطان.
 

ومن المعاناة اليومية للمواطن عدم صرف راتبه وما ينجرّ عن ذلك من تبعات، لعل من صورها اضطرار الناس إلى بيع كل ما هو غال وثمين لكي يوفروا قوت أطفالهم، ومنهم مَن أُجبِرَ على مدّ يده للسُّلْفة أو طلب العون، وكم عزيزَ نفس منهم مات جوعا في منزله، فهل يشعر العالم الحرّ بكل تلك المعاناة التي يعيشها الإنسان اليمني؟ غير أن تلك الأزمة التي يمر بها المواطن اليمني جعلت المرأة رفيقةً للرجل، وأجبرها على أن تكون إنسانة فاعلة ومؤثرة في المجتمع يعتمد عليها رب الأسرة في مساعدته على توفير قوت الأبناء، فالعديد منهن أنشأن مشاريع صغيرة داخل بيوتهن للتخفيف من الفاقة الاجتماعية. وعلى كثرة مآسي المبدع اليمني فإنه مصرٌّ على الكتابة ونشر الكتب على حسابه الخاص، ودون دعم من أحد، ومن يتابع المشهد الثقافي اليمني سيجد كمًّا هائلاً من الإصدارات في الرواية والقصة والشعر والنقد خارج اليمن، وهي رسالة إلى كل العالم بأننا نعيش، وسنعيش، وسنشعل شمعة الأمل.

 

والموتُ إذا تنفس

«الموتُ في الطُّرقاتِ، في الأزقةِ، في البيوتِ، وفي عيونِ الأصدقاء في الصباحِ وفي المساء الموت.. الموتُ يعربدُ في الأرجاء.. الموتُ موعدُنا.. الموتُ قدرُنا.. فلماذا نهربُ منه؟ الجميعُ هنا تصالحوا مع الخرابِ، مع الفناء.. ولم يعُدْ الموتُ يعني لهم شيئاً.. أصبحوا يفكِّرونَ كيفَ يهدِمُونَ ويقلعونَ حتى أنهم نَسَوا كيفَ يبنونَ ويزرعونَ ويصلحون؟» (مقطع من مسرحية «استراحة المتقاتلين» كتبتُها خلال هذه الحرب العبثية التي يعيشها اليمن). هكذا يروي المسرحي والروائي «منير طلال» الأمر، مُضيفاً أن الحروب تدمر العلاقات الاجتماعية بين الأمم والشعوب، خاصة تلك التي ترتدي صبغة طائفية أو مذهبية، وهذه هي حالة الحرب في اليمن، حيث تزايدت العداوات بين مختلف أطراف الصراع ولم يعد هناك أيّ قواسم مشتركة يمكن أن يتفق حولها المتصارعون، فكلهم يتبعون أجندات خارجية لا ترتبط بمصلحة الشعب العربي في اليمن. وعليه فإن هذه الحرب لا تخدم سوى القوى الدولية الكبرى التي تسعي للسيطرة على الثروات النفطية والمعدنية وتمزيق الوطن العربي، بإنشاء دول طائفية متصارعة في ما بينها، وإذا كانت اتفاقية «سايكس بيكو» تمت بأيدي الدول الكبرى، فإن ما يحدث الآن يتم بأيدٍ عربية، وما يحدث باليمن هو النموذج الذي سيعمم على سائر الأقطار العربية من صراع مذهبي وطائفي وتدمير للنسيج الاجتماعي تمهيدا لتجزئته إلى عدة دول. لكن رغم الحالة السوداوية فإني أعتقد بأن هذا المخطط سيسقط بشكل مّا، لأن المؤامرة على وحدة الشعب العربي من المحيط إلى الخليج ظهرت جليا للكثير من العقلاء، وحدث فرز سيتضح فيه من هو مع أمَّته العربية ومن يعمل لصالح الدول الكبرى والإقليمية من أشخاص وأحزاب، وبالتالي فإن أعداء الأمة المرتبطين بالقوي الخارجية أصبحوا معروفين للجماهير في سائر الأقطار العربية.
 

كاتب تونسي

منقولة من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً