الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
جمالية المكان في “نحيب الأزقة” لعبدالاله حبيبي - عبدالله المتقي
الساعة 16:27 (الرأي برس - أدب وثقافة)


“نحن لا نسكن إلا الأماكن التي نغادرها “
جبرا إبراهيم جبرا


     بداءة ، دعونا نتفق أن رواية ” نحيب الأزقة ” أو بالأحرى سيرة ” بيوس ” للكاتب عبدالاله حبيبي  تحتفي بالمكان احتفاء ملفتا للنظر ، ذلك أن الإحساس بهذا المكون  والكيان الخاص  يبدأ من عنوانها البسيط والغريب، في نفس الوقت ، وحتى حين نقتحم النص نصطدم بحضور المكان الذي يتسم بالزخم والتعدد والاختلاف ، هكذا تصدمنا في صفحته الأولى الشاحنة العارية  مكانا متحركا وجارحا ، ينتشل للطفل ” ببوس″ من مهد طفولته الأولى ” امريرت”  بعد الحصول على الشهادة الابتدائية ، لتقذف  به في مدينة الهجرة الأولى: ” سيلعن بيوس وهو يتحرك على صهوة شاحنة عارية  جالسا فوق بعض الأثاث الذي حملته معها أمه كي تجد فيه أفضل لحاف لقضاء زمن آخر في رحاب مدينة ميزتها الوحيدة آنذاك أنها تتوفر على ثانوية تسمح للمحظوظين من جيل بيوس بمتابعة دراستهم الثانوية ” ، بهكذا هجرة قسرية تتجاوز الشاحنة وظيفة النقل ، لتصبح  وعاء نفسيا مبحرا من القرية إلى المدينة، و بمثابة  انتزاع واجتثاث  للطفل يبوس من أرضه الأم ، لتقذف به في أزقة ودروب مدينة لا تتقن سوى العنف ،  ثم بعدها تتناسل أشكال من الأمكنة  على مساحة تمتد من البداية إلى النهاية ، أمكنة غائرة في الذاكرة والمجتمع والأرض ، ومرتكزة على تاريخ طويل ثابت ومتجدد في نفس الآن ، والمتأمل لأحداث الرواية  يجدها وليدة هذه الأمكنة الحافظة لأسرار السارد  وباقي الشخصيات لما تحمله من أغوار وأخاديد متعلقة بالماضي والحاضر ، إلى ان أصبحت جزء من الذاكرة، ولا بأس من التوقف عند معجم ولو مصغر لأهم الألفاظ الدالة على المكان : ” خنيفرة  امريرت ، ثانوية حمو الزياني ، حي تعلالين ، جبل باموسى ، غرفة السكن ، مقر حزب المكي، نهر أم الربيع ، سينما ، حانوتا   ” حمو” و” موجان ، فاس …
 

إنها أمكنة ملأى بالذكريات وحافظة للخفايا والأسرار ، وشاهدة إثبات على الأحوال والتغيرات ، إنها أكثر من مجرد تاريخ ووثيقة ، نظرا لما تحمله من خفايا وتفاصيل  غير عادية ، بل يمكن اعتبارها خزانة ومفتاحها لا يوجد سوى في كهوف ذاكرة السارد التي تحمل امتدادا لهذه الأماكن ، إذ ثمة تقاطعات وتشابكات بينهما ، بيد أنها تتوزع إلى أمكنة حميمة ثم أمكنة عدائية وأخرى مفارقة .

 

الأمكنة الحميمية
       هي فضاءات قريبة وأليفة، منحت ” بيوس ” ما يحتاجه من شحنات للدفء للأمان والاطمئنان والحنان  التي ترمز إلى الاستقرار والانسجام مع الذات التي أكلت منها الخصاصة وأرقها التشتت الوجودي ، ومن هذه الأمكنة الحميمية :
 

 

مريرت
     مهد طفولة “بيوس″ التي تسكنه  بل هي حياته في يقظته ونومه ، في حلمه وخياله ، وغالبا ما يطلب اللجوء إليه هروبا من أمكنة صادمة ومفارقة  له : ” لقد تعلم في بيته ، وفي حيه ، ورفقة جدته كيف يتحني لثدي بلدته ، بل قد أقسم منذ أن ولد أن بل يموت إلا بين أحضان وديانه” ص ، ثم ألسنا ” نحن من نسكن الأماكن التي نغادرها..” حسب بورخيس ؟
 

مبغى مسعودة
      واحد من دور معلمات الهوى ، واللعب فوق سرير الحرث الأول والعلاقة الأولى مع الجنس ، وملجأ “بيوس “كلما كان في حاجة إلى المتعة ، وطبعا عند ”  مسعودة ” المحترفة للدعارة ” مسعودة زوجة شبقية ، أنثى أبدية ، زلة غاوية ، نكهة مستحبة ، نبض يقهر الموت الداهم لبيوت هدها الزمن والعمر والخصاص ” ص45
 

   هذا المبغى وغيره من المباغي يعكس فائض قيمة الفقر الذي يدفع بعض النساء لممارسة الدعارة وبيع أجسادهن حيث يجدن في الدعارة الوسيلة الوحيدة للعيش، وغالبا ما تنتمي هذه المرأة إلى بيئة فقيرة لم تتح لها تلقي العلم والثقافة ، وبالتالي الحرمان من الحصول على وظيفة محترمة أو مزاولة مهنة تذر عليها مدخولا لائقا يقيها العوز والحرمان كما هو حال ” مسعودة” التي تزاول هذه المهنة وفي ظروف بئيسة وغير صحية :”  لا ينفك بيوس عن مقاومة الغثيان الذي يشعر به وهو يصعد من جوفه ، رائحة غرفة مسعودة ستظل لصيقة بجلده ، لن يمحوها ماء أو دعاء أو نسيان ” ص 47
نهر أم الربيع

 

الحديث عن نهر أم الربيع ، هو الحديث عن الماضي والحاضر وهو حديث عن شغب الطفولة وعن الحياة، والمتتبع لما ورد من حديث عن نهر أم الربيع يلمس نجاح الكاتب في تفجير مكنونات النهر وجعله قادرا على إقامة علاقة بالإنسان هذه العلاقة التي نصادفها في أمكنة كثيرة في الرواية ، فالنهر هو العمود الفقري للحياة:”في نهر أم الربيع تستمر الحياة ولو أصاب القحط كل العالم «
مقر حزب المكي

 

وفي إطار الأمكنة الحميمية يتسع الفضاء الروائي في رواية نحيب الأزقة لأماكن أخرى مثل حانوت عمي “حمو” الورع  وحانوت ” موجان” المسيحي ، لكن سنكتفي هنا ب”مقر ” حزب المكي الشيوعي الذي وظف توظيفا دلاليا إيديولوجيا ونفسيا، ففي هذا المكان  توجد مكتبة  ” لم ينس المكي أن يجهز من ماله الخاص قاعة خاصة بالمطالعة والاجتماع″ ، ثم فضاء للنقاش مع الرفاق ، لدى” لن يتأخر بيوس لكي يحمل إلى مقر الحزب سريرا من بيته ، سيقضي عليه لياليه الشتوية الطويلة ، لقد وجد أخيرا مقرا يختلي فيه “ص 98
 

وهذا الاستقرار في مقر الحزب عموما له ما يبرره ، إذ لن يعدو سوى الاطمئنان الذي لمسه بيوس في المكي الذي كان بديلا للأب ، كما اتخاذ ” بيوس ” الحزب مقرا لسكناه فلن يعدو أن يكون ملاذا واستقرارا إيديولوجيا بدل التشتت بين حانوتي عمي “حمو” و”موجان” .
 

 

أمكنة عدائية
حين نستعمل الأمكنة  العدائية نقصد الأمكنة في تضادها مع بيوس ، فنكون بذلك أمام علاقة متوترة مع المكان ، بيد أن الأمر يعدو جارحا حين يتعلق بالبيت باعتباره مكانا أليفا و بمثابة الرحم ، وبخصوص رواية ” نحيب الأزقة  ” ، نجد غرفة سكن بيوس مع أمه وأخته مشاركة مع نادي لتعليم الفتيات فنون الطرز والخياطة ، لم تكن غطاء إنسانيا خاصا للتعري الفكري والجسدي  والتحرك بحرية أكثر ولا حتى قابلة أن تكون مألوفة و” لم يكن من حقه إن يعلق على البيت الذي اختارته والدته ، بل عليه أن يتكور فيه إن أراد ان يتابع دراسته في ثانوية هذه المدينة غريبة الأطوار وعاشقة الغرباء ” 27، بهذا المشهد المأساوي يعري بيوس واقعه كما هو  صورة لشريحة اجتماعية حكم عليها أن تعيش كآبتها وخصاصتها في الظل
 

الأمكنة المفارقة
لا تكتفي الرواية برصد هندسة الأمكنة وحميميتها وعدوانيتها بل تتكئ على أمكنة مفارقة ومخالفة تجتمع فيها كل المتناقضات كما هو حال مدينة ” خنيفرة ” الحاضرة دوما في كل فصول الرواية ، والتي ظلت تلاحق بيوس حتى الفصل الأخيرة من الرواية .
 

 فإذا كان فضاء مريرت غزيرا بدلالات الانتماء والتعلق بالجذور ، فان فضاء خنيفرة على العكس من ذلك جاء مكتظا بالمتناقضات والمفارقات العجيبة والكفكاوية حينا آخر ،  هكذا تصبح خنيفرة بوجهين متقابلين، وجه لمدينة من  الحواجز والعري والعنف السياسي ، الهجرة الأولى ، التفاوت المعماري والمدنس والنفاق و …ووجه لمدينة من  الغناء والجمال والموسيقى والثورة والأناقة المعمارية المستقبل والمقدس والإخلاص … هذه المتناقضات تعكس حالة التشتت والسير  بدون هدى هي من ملامح مجتمع بوجوه متعددة لوجه واحد يعني في النهاية أن هناك عوج ما .
 

نفس المفارقات والمتناقضات يحبل بها ” تعلالين ” الحي الذي استقر به “بيوس ” ، فهو تارة مسرح للعب ” سيلتحق بيوس بفريق مكون من أبناء حي تعلالين ، إنها ثلة من الأطفال لنيل حظهم من لعب كرة القدم “ص 23 أو حلبة للمبارزة ، وتارة أخرى حي شعبي ومفتوح على شكل بادية ” يبدأ يوم جديد على طوار حي تعلالين ، النساء منهمكات في إنجاز الحركات نفسها التي تعودن عليها بين الصباح والمساء ” 19
 

وعموما فإن الملاحظ هو استفحال العنف في حي ” تعلالين” وفي أغلبية الأزقة والدروب ، وكما لو أنه يعكس مجتمعا ينتج العنف غير منظم ، وقد يكون تنفيسا عن مناخ من الخوف كان سائدا حينها.
نفس حال المنازل القديمة في مقابل الحي الإداري ، االمنازل القديمة “يقطنها تاريخ وطني لا تزال آثاره بادية على كل جدرانها التي حتى وان بد وكانت شاحبة ” ، كما الدروب والأزقة  :” بقطنها البسطاء الذين رحلوا الى زمن الاستقلال بأحلام جميلة  ليكتشفوا وجها كابوسيا لسلطة خرجت من رحم لم يألفوه ” ، في المقابل تنتصب منعزلة منطقة  الحي الإداري ” توحي بالوقار وكان العابر إليها يستشعر حضورا لجلال السلطة الذي ينبعث حيا “

 

مجمل القول ، إن رواية ” نحيب الأزقة ” لعبد الإله حبيبي الصادرة مؤخرا ضمن منشورات ، مكتبة سلمى الثقافية ، بعد ” بيوس أو طفل الحكمة أو الطقوس″ عن نفس المكتبة ،  تعتبر من بين الروايات التي احتفت بالمكان من خلال التفاعل الحي وبمعان أبعد من حقيقته الظاهرة ، لأنه آت من المتخيل ، باستثماره  استثمارا متفردا لخدمة موضوع الرواية ، ثم إن المكان الذي تتكلم عنه هو المكان الذي يقبع في الذاكرة كأصل وهوية  ، ولذا نقول ان ذاكرة “بيوس ” هي ذاكرة مكان جمعية تاريخية تم فيها التمازج بين المكان وبين ذاكرة تاريخية حيث ارتبطت الذاكرة الجمعية بالتحليلات المكانية والتفكير السياسي والاجتماعي والجمالي .

منقولة من رأي اليوم...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً