الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
بنوحشيبر أوّلُ ألأنوار ...منثور الحِكَم - علوان الجيلاني
الساعة 18:04 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


أول ترجمة لعلم من أعلام الحشابرة... نلقاها -حسب اطلاعنا- في كتاب (السلوك في طبقات العلماء والملوك) لبهاء الدين الجندي (ت732 هـ).
يقول الجندي : (ومن قرية تسمى بيت دبان بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة ثم ألف ثم نون.. فقيه اسمه محمد بن عمر بن حشيبر بضم الحاء المهملة وفتح الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحت وخفض الباء الموحدة وسكون الراء.. ونسبه في قوم يقال لهم الهليليون بهاء مضمومة بعد ألف ولام مفتوحة وبعدها لام مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم لام مخفوضة ثم ياء مثناة من تحت مضمومة ثم واو ساكنة ثم نون.. كان فقيهاً زاهداً ورعاً صاحب كرامات وكلام بالحكمة.. وفاته مستهل عرفة سنة عشرين وسبعمائة.. وكان والده فقيهاً خيراً.. صحب الشيخ أبي الغيث واختص به وعد من أصحابه)( 1).

 

ووالد الفقيه المترجم له والذي يذكر الجندي أنه (صحب الشيخ أبا الغيث واختص به وعد من أصحابه) هو عمر بن أحمد أول من تلقب بهذا اللقب (حشيبر) بعد أن دعا له شمس الشموس أبو الغيث بن جميل بقوله (حشي براً) كما أسلفنا .. وهذا معناه أن اللقب المبارك أطلقه علم مشهور- ليتركب على أعلام مشاهير من حينه.
 

المؤرخ علي بن الحسن الخزرجي (812هـ) سيقدم لنا في كتابه (العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية) ترجمة أخرى للفقيه محمد بن عمر بن حشيبر.. مضيفاً أن (له في الحكمة كلام عجيب)( 2) إلى جانب معلومة أخرى تتعلق بإحدى شخصيات هذا البيت البارزة.. وهو (حشيبر بن علي بن حشيبر) الذي قتل أوائل سنة (801هـ ) جراء غارة شنتها قبيلة المعازبة على قرية فشال.. ( 3)
****
 

 

أما كتاب (تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن) للبدر حسين بن عبد الرحمن الأهدل (ت 855هـ) ... فسيمدنا بمعلومات أكثر اتساعاً عن أعلام هذا البيت وأخبارهم.. ذلك لكون البدر الأهدل قد كتب تاريخه بعد مضي ما يقرب من مائتي عام على تلقب جدهم بهذا اللقب... فخلال تلك الفترة . توارث مجموعة من أعلام هذا البيت الفقه والولاية الصوفية... واشتغلوا بغيرهما من معارف زمانهم.. وصار لهم شأو في ميراث الخرقة والطريقة الغيثية .. واتصل بعضهم بالملوك والسلاطين.. وصار بيت ابن حشيبر من البيوت العريقة في العلم والتصوف والوجاهة الاجتماعية..
ثمة سبب آخر لتوسع البدر الأهدل في أخبارهم .. فهو من أبناء المنطقة إذ يسكن مدينة أبيات حسين إحدى معاقل العلم المهمة في اليمن آنذاك.. وبنو حشيبر يعيشون من حولها خاصة الجهة الجنوبية منها.. كما يعيشون فيها أيضاً.. ثم إن هناك صلة علمية قوية تربط بني حشيبر بآل الأهدل.. وهي صلة مازالت مستمرة إلى اليوم.

 

السبب الثالث: استمداد البدر الأهدل جزءً كبيراً من معلوماته التاريخية من بعض علمائهم وفقهائهم.. كما في حالة المعلومات التي أوردها عن شيخ شيوخ اليمن شمس الشموس أبي الغيث بن جميل.. كما أنه استمد معلوماته التاريخية عنهم من أحد أعلامهم البارزين وهو الفقيه أحمد بن أبي بكر بن محمد الدهل المدرس والمفتي ونائب الحكم الشرعي بقريتهم (حسب عبارة الأهدل). 
 

لكل تلك الأسباب أولى البدر الأهدل هذه الأسرة حيزاً كبيراً في تاريخه .. وأمدنا بمعلومات واسعة عنها ... وهو يتتبع مشاهيرها مستقصياً صفاتهم واشتغالاتهم العلمية والثقافية والاجتماعية ... ومنه نعرف أن أكثر ذرية بني حشيبر يرجعون لأحد أولاد حشيبر الجد.. هذا الولد هو الولي الشهير محمد بن عمر بن حشيبر الذي نوه به شمس الشموس أبو الغيث بن جميل منذ كان طفلاً .. حين جاء به أبوه إليه... وقد أفاض البدر الأهدل في ترجمته .. فذكر تصوفه وزهده واجتهاده في العبادة وطلب العلم .. مستعرضاً شيوخه الذين أخذ عنهم و تلاميذه الذين أخذوا عنه .. منوهاً بكراماته وما منحه الله من مواهب في الكشف والقبول عند الناس.. مناقشا كتابه الذي تضمن أقواله وتجاربه في التصوف.
 

ومما أورده البدر الأهدل في هذا السياق أنه (اشتهر بالولاية والعلم وهو صغير)( 4) وذكر أن والده ذهب به عندما كان صغيراً إلى شمس الشموس أبي الغيث بن جميل وقال له: (أشتهي منك لهذا الولد نظرة عناية، فكوشف الولد فنظر في ظهر الشيخ أبي الغيث عينين يبصر بهما من ورائه، فأعلم الولد أباه، فذكر ذلك للشيخ فقال الشيخ أبو الغيث: يا ولدي ما رآهما غيرك، ونوه الشيخ بفضل الولد، فنشأ الولد نشوءاً صالحاً وطلب العلم وتفقه على ابن عبد الحميد الخلي، وأخذ عنه في الحديث والتفسير وأخذ في النحو عن فقيه من سكنة التحيتا (قرية من قرى وادي سردد اندثرت وهي غير تحيتا وادي زبيد) يعرف بابن الميل) (5 ).
 

ونستشف من كلام البدر الأهدل على الولي محمد بن عمر بن حشيبر بداية اتصال هذه الأسرة بالملوك.. فشيخه ابن الميل كان يصحب الملك المظفر بن رسول، ويبدو انه احتاج إلى توطيد مكانته عند الملك المظفر بمديح يكتبه فيه.. ولكنه لم يكن يجيد قول الشعر.. فأسعفه تلميذه محمد بن عمر حشيبر بقصيدة قدمها للملك الذي سرعان ما كشف عدم انتمائها لابن الميل.. فقال له: (والله ما لاكها لحياك) (6 ).
 

إلى جانب الفقه وعلم اللغة والموهبة الشعرية الجيدة اشتغل محمد بن عمر حشيبر بالعبادة، ويذكر البدر الأهدل أنه (كان يختلي في موضع يقال له مهرمل) ( 7) وهذا المكان يقع في ساحل وادي سردد.. وكان الزهاد والصلحاء يعتبرونه من المواضع المباركة التي يفتح الله فيها على المصطفين الأخيار من عباده..وكانوا يشترطون على من يحب الخلوة فيه الصبر لكي يفتح عليه..وكان المختلون فيه يخبرون بعجائب مثل رؤية الملائكة وكشف المغيبات.. ولذلك كانت تشد إليه الرحال.. وممن شد الرحال إليه الفقيه محمد بن عمر حشيبر.. حيث ابتنى هنالك عشة.. وصار يتردد إليها ويقيم فيها مدداً مختلفة حتى فتح عليه.. ويقدم لنا البدر الأهدل شهادة ابن حشيبر عن إحدى تجارب اختلائه في (مهرمل) كما حكاها هو..
 

يقول الأهدل: (فذكر أنه مرة أقام خمسة وثلاثين يوماً ثم دخل عليه رجل فسلم عليه وأحرم بركعتين، وقعد مستقبلاً القبلة فحضرت صلاة الظهر فصلاها، ولم يتوضأ، ثم صلى العصر والمغرب ثم العشاء ثم الصبح، ثم اليوم الثاني كذلك، ثم اليوم الثالث كذلك، فصلى كل صلاة ولم يجدد وضوءاً.
فقلت في نفسي: يا فلان هذا الرجل قد أعطي هذا الحال وأنت لك مقيم في هذا الموضع مدة ما فتح عليك، وهممت في نفسي بالخروج عن الموضع فكاشفني، وقال لي: يقرع أحدكم الباب مدة حتى يوشك أن يفتح له، ثم عزم على الخروج، قال: فقوي عزمي على الوقوف، فما تم لي أربعون يوماً إلا وكلي عين ناظرة) ( 8).

 

موهبة أخرى كان يحظى بها حشيبر ويبدو أنها مما فتح به عليه أيام (مهرمل) –أعني بتلك الموهبة- علم التفسير.. الذي كان يحفظه عن ظهر قلب.. وعنه أخذه الولي الشهير محمد بن عبد الله المؤذن (صاحب الغصن) ( 9).
 

الأهدل أيضاً يذكر لنا شيئاً من كرامات محمد بن عمر حشيبر ويصحح تاريخ وفاته.. ويتحدث عن كتابه الشهير (منثور الحكم) معتبراً أن: (فيه مقالات مفيدة، وفي بعضها شيء من الشطح) إلى جانب بعض (المقالات المشكلة) والمقالات التي (توهم القول بالاتحاد) مستشهداً بقوله: (أن النفي والإثبات أي في قول لا إله إلا الله عندنا في حقيقة فقرنا ذنب يوجب العقوبة، لأنا ما وجدنا غيره في الأزل فننفيه ولا فقدناه في الأبد، فنثبته) وقوله: (وعند تجليه يذهب الرسول والمرسل إليه)،وقوله في شعره:
 

ما كنت أعرف شيئاً من معارفه
حتى تعرف لي إذ قال أنت أنا)
معتبراً أن تلك المقالات غريبة على ابن حشيبر.. الذي (لا تعرف عنه بدعة باعتقاد مذهب فاسد) معللاً وجودها في الكتاب بواحد من ثلاثة أسباب:
الأول: أن يكون (نقلها من كتب الحشوية والملاحدة، ولم يعلم ما فيها من محذور).
الثاني: أن يكون (تكلم ببعض تلك المقالات في حال سالب للشعور).
الثالث: أن تكون قد (أدخلت في كلامه) (10 ).

 

ومما لا شك فيه أن البدر الأهدل كان عند كلامه على كتاب ابن حشيبر يتجنى عليه منساقاً لمعركته ضد أتباع ابن عربي.. وهي المعركة التي ألف فيها كتابين آخرين هما: (كشف الغطاء) و(التنبيهات) وفيهما أيضاً نقاشات واسعة لكتاب ابن حشيبر كما لكتاب شيخه شمس الشموس أبو الغيث بن جميل.
بعد ذلك يترجم للعلماء من أبنائه وأبناء عمه وأبنائهم وأحفادهم من علماء هذه الأسرة.. موضحاً صفات ومميزات كل منهم.. فـ(إبراهيم بن محمد بن حشيبر كان عابداً على قدم أبيه وله كرامات) (11 ) و( محمد بن إبراهيم بن حشيبر كان صالحاً طيباً مباركاً انتفع به الناس كثيراً) (12 ) .. وكان إلى جانب صلاحه طبيباً (ما كوى أحداً إلا برىء بإذن الله تعالى) (13 ) ... والفقيه الصالح (المجمع على صلاحه) أبو بكر بن إبراهيم أول من تلقب بالدهل (ت 802 أو 803هـ) (كان صالحاً سليم القلب، زاهداً في الدنيا لا يتعلق بشيء من الأسباب يقصده الزائرون من كل ناحية) ( 14) وهذا الفقيه كان واحداً ممن مثلوا ذروة الحضور العلمي والصوفي والنفوذ الروحي والاجتماعي لهذه الأسرة ... ولذلك (كان مقبول الشفاعة عند الأمراء ... فمن دونهم... واشتهر عندهم أن من رد شفاعته عوقب.. فكان قلما يرد) (15 )... أيضاً كان استغراقه الصادق في الحدب على الناس مثار إعجابهم دائماً.. مثلاً: كان إذا رفع يديه للدعاء يندمج حتى يكاد يغشى عليه... فكان الناس لذلك يقصدونه لشفاعاتهم ولغرض الدعاء لهم ..

 

 

مثله بل وربما زاد عليه الفقيه على بن أحمد بن حشيبر (ت822هـ) وقد اجتمعت في شخصية هذا الرجل الميزات المهمة التي انبنى عليها تاريخ هذه الأسرة بشكل متواز ومتوازن – أقصد العلم والفقه والصلاح والتصوف والنفع الاجتماعي .. والنفوذ الروحي بشكل عام- قال الأهدل: ( كانت علامات الولاية ظاهرة عليه، من كثرة التلاوة والقيام والصيام، وحسن الصلاة والمحافظة على الأذكار والدعوات النبوية بإعرابها والفقه في الدين مع كثرة البحث عن المسائل وتحقيقها، والعمل بالشريعة ومحبته أهل العلم والإحسان إليهم، بل وإلى سائر الناس والشفقة على المسلمين والدعاء لهم ولولاة أمورهم، والصبر في الشفاعات وإصلاح ذات البين، وغير ذلك من الفضائل، وله كرامات ظاهرة لا تحصى كثرة، وكان قد اتصل بالفقيه الولي أبي بكر بن محمد بن أبي حربة في آخر عمره.. واختص به وأثنى عليه كثيراً، وكان له منه صحبة وحسن رعاية أعرفها له، وأرجو بركته، إن شاء الله تعالى، وأظهر كراماته عندي –الكلام للبدر الأهدل- حسن استقامته في دينه، وكثرة نفعه للمسلمين، وإني لم أر في نظرائه من أهل عصره من هو مثله في صفاته المتقدمة إلا الشريف أحمد الرديني (ت 827هـ) في نواحي مور، فإن كلاً منهما كما قيل:
وشوقني وصف الجليس إليكم
وغالب ظني أنكم فوق وصفه
وكما قيل:
أبى الفضل إلا أن يكون لأهله
وحسن الثنا إلا لآل محمد
وكانت وفاته سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة وعمره قريب من ثمانين سنة) ( 16).

****
 

------
هوامش

 

( 1) السلوك في طبقات العلماء والملوك، ج2، ص 348.
(2 ) العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية، علي بن حسن الخزرجي، ج1، ص 175.
( 3) المصدر نفسه، ج1، ص 297.
( ) تحفة الزمن في تاريخ سادات اليمن، للبدر حسين بن عبد الرحمن الأهدل، ج2، ص 193.
(4 ) المصدر نفسه، ج2، ص 193.
( 5) نفس المصدر، نفس الصفحة.
( 6) المصدر نفسه، ج2، ص 193
( 7) المصدر نفسه، ج2، ص 193.
( ) المصدر نفسه، ج2، ص 97.
( 8) الاقتباسات السابقة من تحفة الزمن، ج2، ص 194، وانظر أيضاً نفس المصدر، ج2، ص 344.
( 9) المصدر نفسه، ج2، ص 195.
( 10) المصدر نفسه، ج2، ص 196.
( 11) نفس المصدر، نفس الصفحة.
(12 ) نفس المصدر، نفس الصفحة.
( 13) نفس المصدر، نفس الصفحة
( 14) نفس المصدر، ص 197، 198.

 

في الصورة المرفقة السيد عبدر حمن الوشلي رحمه الله زرته سنة 1995م في مدينة الزيدية وكان أول من وجه اهتمامي إلى السرة الحشيبرية ومكانتها ..أنشر صورته هنا تقديراص لتلك اللحظة

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً