الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
جني آن أنا آربور الظريف - وجدي الأهدل
الساعة 23:12 (الرأي برس - أدب وثقافة)


تلقى الفائزون في مسابقة "بيروت 39" جوائز عينية، لم يقدّرها أحد، حق قدرها، وقت الإعلان عنها، مِنَح إقامة إبداعية في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية.
 

ربما فضل البعض – وأنا واحد منهم- لو أن الجوائز كانت مالية، ولكن تبين فيما بعد، أن هذه المِنح، لها فوائد متعددة بالنسبة للكُتَّاب المستفيدين منها، تفوق بكثير أيّ مبالغ قد يتلقونها من (Hay Festival)، وهي الجهة المنظِّمة لمهرجان بيروت 39.

 

كان يفترض أن أحضر – شأني شأن الفائزين الآخرين – إلى بيروت، ولكن وقتها كان اسمي على القوائم السوداء وجواز سفري مصادراً، وهي مشكلة تمكنت من التغلب عليها لاحقًا بفضل التدخل الحثيث والقوي لنقابة الصحافيين اليمنيين.
في صيف 2012 وصلتُ إلى مطار ديترويت، ومنه توجهتُ إلى مدينة صغيرة لم أسمع بها من قبل، تسمى "آن آربور".

واجهتُ صعوبة في الأيام الأولى للتأقلم مع البيئة الغريبة التي وجدتُ نفسي فيها، وخصوصًا أن إنجليزيتي بائسة جدّا، ولكن هذه الوحشة زالت - تمامًا - بوصول رفيقيّ في الإقامة، وهما القديس الروائي العراقي (صموئيل شمعون)، قادمًا من لندن، وساحر الصحراء الروائي (عبدالعزيز الراشدي)، قادمًا من المغرب، اللذين كانا بمثابة ملاكين هبطا من السماء، وبصحبتهما تعرفنا على مدينة "آن آربور" حجرًا حجرًا.
كان النظام الذي اتفقنا عليه، هو أن نخصص النهار للكتابة، والمساء للنزهة والتجوال واكتشاف الحياة الليلية لـ"آن آربور"، التي هي مدينة شابة ومرحة إلى أقصى الحدود.

قبل وصولي إلى "آن آربور" كنتُ قد أعددتُ عدة مشاريع كتابية، لأختار واحدًا منها، وأشتغل عليه أثناء فترة إقامتي الإبداعية التي تمتد لأربعين يومًا، ولكنني حين رأيتُ هذا المجتمع الجديد، وما هو عليه من تطور وتحضّر بالغين، قررتُ أن أضع مشاريعي الكتابية جانبًا، وبدأتُ أتأمل في أشياء لم تخطر ببالي سابقًا، وأدركتُ أن عليّ أن أكتب من وجهة نظر مختلفة، وأن أرجع إلى جذوري الثقافية، وإلى التقاليد الأدبية للمجتمع الذي جئتُ منه، وأن أبحث عن أساليب للكتابة مغايرة 
لنسق الكتابة المتعارف عليه في الغرب.
إن هذا الأمر في بدايته كان شعورًا فحسب، ثم بالتدريج وعيتُ أن مهمتي ككاتب هي أن أصنع خصوصية للأدب الذي أكتب بِلغته، وأن أُبدل رأسي الذي أحمله برأس جديد مُعفّر بتراب أرضنا، وتصخب فيه حكاياتنا وأساطيرنا وخرافاتنا.

التطور الثقافي الهائل في الولايات المتحدة الأميركية جعلني أتساءل، ما الذي يمكن لكاتب قادم من اليمن أن يضيفه؟.. هذا التساؤل، بحد ذاته، كان أعظم منحة حصلتُ عليها، وهي منحة لا تُقدّر بثمن، وما يزال تأثيرها يتعاظم في نفسي يومًا بعد يوم.
كانت الثمرة المباشرة لمنحة الإقامة الإبداعية في "آن آربور" هي وضع الخطوط العريضة لمجموعة قصصية عنوانها "وادي الضجوج"، تدور كل موضوعاتها حول ثيمة واحدة، هي الحكايات الشعبية المتداولة في الريف عن الجن.
تعرفتُ في "آن آربور" على جني ظرف اسمه "فسوة العزيق"، وأخبرني أنه يمني أبًا عن جد، فسألته: لماذا هو في ميشيغان؟، فأخبرني أنه هو الآخر حصل على منحة إقامة إبداعية من منظمة أدباء الجن الأميركيين..!
عرض عليّ المساهمة في عملي فلم أُمانع، فتمكنا - بعون الله - من كتابة سبع قصص قصيرة في "آن آربور"، ثم أكملنا كتابة القصص القصيرة الخمس المتبقية بعد عودتي إلى اليمن.
لم أشعر مطلقاً بالغربة في "آن آربور".. الأشخاص الأكثر عطاءً وثقافة وإنسانية الذين عاشوا في اليمن ولن يتكرروا، وهما الأستاذان الجامعيان (وجدان الصائغ) و(صبري مسلم) أحاطاني برعايتهما منذ أنْ علِما بوجودي في مدينتهم، وشعرتُ أنني فرد من العائلة، والجميع يعرفني ويسأل عني. ومن المفاجآت السارة تعرُّفي على والدة د. وجدان السيدة (دجلة)، التي هي مثقفة من طراز رفيع وقارئة نهِمة للأدب، وناقشتني في عدد من أعمالي.

ألذ وجبة حصلنا عليها في "آن آربور" هي "الفاهيتا" المكسيكية، التي تُعتبر - من وجهة نظري - ابنة عم وجبة "السلتة" اليمنية، وذلك بدعوة من الرجل الأكثر كرمًا في قارة أميركا الشمالية، وهو د. خالد مطاوع.. وهذا الرجل، الليبي الأصل، هو أنموذج حي للإنسان العربي الناجح، فهو يعمل أستاذًا لمادة الكتابة الإبداعية في جامعة ميشيغان، وهو كذلك مترجم دواوين الشاعر الكبير (أدونيس) إلى الإنجليزية.
الشاعرة العراقية (دنيا ميخائيل) سعت إلينا بمجرد سماعها بخبر وجودنا، وبسيارتها الخاصة عرّفتنا على مدينة ديترويت ومعالمها البارزة، وحكت لنا عن قصتها المثيرة مع الرقابة، وكيف اضطرت إلى مغادرة بلدها مرغمة إلى المنفى.

تعرفنا على زوجين أميركيين رائعين، هما (نانسي) و(نوح)، وكلاهما يدرسان الأدب العربي، ولديهما مكتبة منزلية عامرة بأحدث إصدارات المطابع العربية في القاهرة وبيروت من رواية وشعر وقصة ونقد، بالإضافة إلى مخزون قيّم من كتب التراث العربي.

أُقيمت لنا أمسية أدبية، باللغتين، وقرأ نصي المترجم إلى اللغة الإنجليزية الكاتب والشاعر (Edward Morin)، الذي أذهلني - شخصيًّا - بطريقة في القراءة، متلاعبًا بطبقات صوته، 
وبأدائه التمثيلي، فأيقنتُ أنه قد تدرب جيدًا ليُمتع الجمهور، 
وبذل جهدًا ليتقن الإلقاء بطريقة مسرحية مؤثرة.

في هذه الأمسية تعرفتُ على واحد من أفضل الأصدقاء الذين عرفتهم على مسار حياتي، وهو الخل الوفي (رشيد النزيلي)، الذي يرأس تحرير صحيفة "اليمني الأميركي"، وهي صحيفة تُطبع باللغتين، ولها حضور لافت لدى الجالية اليمنية والعربية 
في ميشيغان.

وبفضل (رشيد النزيلي) تعرفتُ على "ديربورن"، المدينة العريقة التي غالبية سكانها من اليمنيين، وعلى المدن الأخرى التي تقطنها الجالية اليمنية مثل "هامترامك".. وكذلك التقيتُ بأفضل رجالنا في الخارج، وهو الصديق النبيل (محمد الدعيس)، الذي هو - بكل تأكيد - شجرة بن أصيلة اُقتلعتْ من تربتها في 
الشرق وزرعت في أقاصي الغرب.

ذكريات جميلة لا تُنسى مع (رشيد النزيلي) و(محمد الدعيس) في ديترويت وآن آربور، وأحاديث عذبة تقطعها - أحيانًا - التنهدات حين نتذكر الأحوال في بلادنا.
حقًّا.. إن المغترب اليمني في أميركا قد حقق أحلامه في الحياة، ولكن مرارة الفراق عن الوطن ما تزال غصة في الحلق وعبرة في العين.

بعد رجوعي إلى صنعاء، امتد حبل التواصل بيني وبين ميشيغان ولم ينقطع، ويعود الفضل في ذلك إلى العزيز (رشيد النزيلي)، الذي جعلني واحدًا من أسرة صحيفة "اليمني الأميركي"، وأتاح لي الحضور – ولو ورقيًّا - في تلك الأماكن التي أحببتها من كل قلبي، والتي أبهجتني بخضرتها وهدوئها وأناقتها وطيبة أهلها.

منقولة من اليمني الأمريكي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً