الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
نشدان الجمال المطلق - صفوان الشويطر
الساعة 12:47 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 
يسعى الفن ضمن مراميه المتعددة ثقافيا و اجتماعيا و وجدانيا الى تأكيد امكانية ايجاد مدرك حسي يتمثل في العمل الفني الذي تلتقي فيه المسارات الممتدة للجمال اللانهائي و المحبة اللامتناهية . الجمال الذي نحن محكومون به .. النظام في قوانين الكون , التوازن في الطبيعة , المعنى في الوجود الفردي , القيمة في الوجود الجماعي .

 

المحبة اللامتناهية المتمثلة في الاستيعاب اللامشروط للاختلاف و نزعة العطاء المجرد و حب الآخر أيا كان و كيفما كان و نقاء الفطرة الانسانية مما يلوثها حيث يرتقي الضمير نحو المشترك الانساني الكامن خلف كل الاختلافات الظاهرية ذلك ما يجعل  الفن يتشابه  مع الحقيقة الصوفية (فعالية روحية موجودة في كل الاديان ) في كونهما سعي للخلود من خلال العمل الفني / لحظة الكشف المتجاوز/ة للزمانية , فالصوفي و الفنان يبحثان عن لحظة التجلي و الكشف , الالهام الذي يثبت اللحظة و كأنها ابد باعتبارها اللحظة التي يمكنها اختزال كل الجمال الكوني .يخوض الصوفي في الجذبة حتى يصل الى النشوة العظمى و يعايش الفنان لحظة الخلق الابداعي لينجز عملا فنيا يتوق من خلاله الى ايصال المتلقي الى لحظة مماثلة في كثافتها و سحرها .
 

 

لذا , يعد الفن اقرب الى الدين من المنظومات المعرفية الاخرى كالعلم و الفلسفة , فالاشباع الروحي و السعى الدائم للتسامي ركيزتان يقوم عليها كلا من الدين و الفن مع اختلافات كثيرة بطبيعة الحال لا مكان هنا لطرحها فنحن معنيون هنا بنقاط الالتقاء فقط , و الدين معرفة من حيث كونه معرفة تقدم اطارا تفسيريا  للوجود  يمس اسئلة صميمية , معرفة تنطلق من اليقين الاعتقادي " شكل من العاطفة " و لا تنطلق من الشك كما تفعل الفلسفة رغم ان هيجل أكد ان الدين والفلسفة غايتهما واحدة . كانت الاسطورة – قبل الدين – تقدم تصورا  كليا للوجود و مثل الدين نقلة تطورية من التفكير الخرافي للاسطورة عندما ادخل الغيبي او الميتافيزيقيا في معادلة المعرفة حيث اصبحت قوى الحدس و النبوءة و المعجزة و الوحي  مصدرا من مصادر التلقي .
 

الفن و الدين معرفة ذوقية  , فالروح و الحب و الجمال ..اقانيم  يستند عليها الفن و يقوم عليها الدين – فالروح  الجانب الغيبي للمحسوس و الحب اساس العلاقة بين العبد و العبد  من جهة و العبد و الاله من جهة اخرى و الجمال متمثل في العالم المنظور " الكون بكل ما فيه " و العالم المسطور " التعاليم الدينية "  و هو الجمال الذي يعكس صفات الاله و يجعل من الخير و الحق و العدل فروع شجرة القيم الدينية .. اذن الاقانيم واحدة  مع اختلاف في التراتبية  التي يؤكد عليها هذا او ذاك .
 

الفن ليس اخلاقيا لانه يعلي من شأن المحسوس و بالتالي فانه يتفهم نسبية كل ما هو انساني, انه حرية لا تلغي الضرورة , الفن يستشف الروحي في الموجودات بينما يكرس الدين الاخلاق بهدف الموائمة بين الضرورة و الحرية .الضرورة كشرط انساني و الحرية كإنعتاق منضبط و لا تنضبط الحرية الا بالسمو الروحي الناهض على قاعدة اخلاقية .
 

فالجمال هو دين الفن و الدين أنسنة للجمال المطلق.
و لأن الفن لا اخلاقي و غير معني بتنمية الاخلاق ( مع التنبية على فكرة ان الجمال قيمة اخلاقية ) بل بتنمية الحس لذلك يبدو ظاهريا ان الفن ضد الاخلاق و هذا ما دفع المتشددين دينيا الى اعتباره مرادفا للانحطاط و التفسخ .

 

العمل الفني و ان بدا محدودا بمضامينه و افكاره لكنه – كما سلف القول – تجربة ذاتية لملامسة الجمال اللانهائي و المحبة اللانهائية – وهذة هي الاطروحة الرئيسية لهذا المقال -  فالجمال هو الغاية النهائية للفن و المحبة هي الشعور الضروري عند انتاج  او تلقي المثير الجمالي  و لان الفن تجربة طموحة نحو الخلود و اللامحدود تصبح الروح هي المستوعب الانسب لهذة التجربة تماما كتجربة الصوفي في افناء ذاته حبا في المطلق و لان الدين تجربة روحية فهو يبني على جمال الروح و جمال القيم الانسانية التي تنبع من الجوهر الالهي في الانسان  بينما يركز الفن على الجمال المحسوس لينطلق منه الى الجمال المطلق .
 

" الوحدة في التعدد" فكرة ثابتة في التصوف و في الفن ايضا , فخلف كل مظاهر الوجود الانساني و الطبيعي المتعددة و الغزيرة هناك دائما وحدة المكون الانساني .مليارات البشر على المعمورة و منذ بدء الخليقة  يعد كل فرد منهم نسيج لوحده و قصة متفردة في الحياة و التجربة الانسانية و كل فرد منهم هو ايضا عمل فني ناجز فالفن الفوتوغرافي –مثلا- يمكنه التقاط صورة لكل شخص باعتباره مادة فنية كما يمكن لفن القصة ان يعتبر أي شخص في العالم بلا استثناء بطلا لقصة , و الشعر يمكنه اقتناص أي لحظة ذاتية ليكتب منها قصيدة ..و هكذا. وراء هذا التعدد هناك وحدة الروح النقية و وحدة الحب لكل ما هو جميل فخلف ملايين الالوان في الطبيعة هناك وحدة العين التي ترى و تستشف الجمال في كل لون و في الصوفية كل مظاهر الوجود على حدة هي شاهد على واحدية الاله و اذا كان الصوفي يكابد حقيقة محدودية شرطه البشري امام لانهائية حبه,فالفنان يكابد ايضا لالتقاط تفصيل جمالي يكون مادة فنية جديدة تختزل / ترمز الى  حقيقة جمالية اكبر , فالتفاصيل من حوله لانهائية مقارنة بقدرة الوعي على الالتقاط من جهة و من جهة تتعرض هذه التفاصيل في احيان كثيرة  للتغير او للتلاشي والانتهاء .قصيدة الهايكو اليابانية خير مثال يجسد جدلية العلاقة بين الجمال الخارجي و مدى وعي الفنان بهذا الجمال و هي جدلية موجودة في الفنون ككل و لكنها اكثر نصاعة في قصيدة الهايكو بشكل خاص والشعر بشكل عام لانها تتناول جزئية لحظية او تفصيلية متناهية الضآلة .
لذا تبدو الثقافة – و الفن احد مكوناتها – "يوتوبيا منقوصة " بحسب تيري ايجلتون لانها ترجىء/تؤجل فكرة الصراع و لكنها منقوصة  لانها لا تستطيع تأجيل الصراع باستمرار و الذي تذكيه السياسة عبر ممارسات اجتماعية .تدعو منتجات الثقافة دائما الى التعايش و الاختلاف لكنها تفشل في ذلك امام الواقع الصراعي الذي يكرس للصدامات على كافة المستويات بحيث يبدو مقتل الالاف مجرد امر عارض ضمن مسلسل صراع  القوى و هكذا تصبح تغذية الاختلافات و الانقسامات الجهوية امرا مهما لتأجيج الخلاف و تسخير ادوات جديدة لاستخدامها فيه .

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً