السبت 01 فبراير 2025 آخر تحديث: السبت 1 فبراير 2025
نشدان الجمال المطلق - صفوان الشويطر
الساعة 12:47 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 

 
يسعى الفن ضمن مراميه المتعددة ثقافيا و اجتماعيا و وجدانيا الى تأكيد امكانية ايجاد مدرك حسي يتمثل في العمل الفني الذي تلتقي فيه المسارات الممتدة للجمال اللانهائي و المحبة اللامتناهية . الجمال الذي نحن محكومون به .. النظام في قوانين الكون , التوازن في الطبيعة , المعنى في الوجود الفردي , القيمة في الوجود الجماعي .

 

المحبة اللامتناهية المتمثلة في الاستيعاب اللامشروط للاختلاف و نزعة العطاء المجرد و حب الآخر أيا كان و كيفما كان و نقاء الفطرة الانسانية مما يلوثها حيث يرتقي الضمير نحو المشترك الانساني الكامن خلف كل الاختلافات الظاهرية ذلك ما يجعل  الفن يتشابه  مع الحقيقة الصوفية (فعالية روحية موجودة في كل الاديان ) في كونهما سعي للخلود من خلال العمل الفني / لحظة الكشف المتجاوز/ة للزمانية , فالصوفي و الفنان يبحثان عن لحظة التجلي و الكشف , الالهام الذي يثبت اللحظة و كأنها ابد باعتبارها اللحظة التي يمكنها اختزال كل الجمال الكوني .يخوض الصوفي في الجذبة حتى يصل الى النشوة العظمى و يعايش الفنان لحظة الخلق الابداعي لينجز عملا فنيا يتوق من خلاله الى ايصال المتلقي الى لحظة مماثلة في كثافتها و سحرها .
 

 

لذا , يعد الفن اقرب الى الدين من المنظومات المعرفية الاخرى كالعلم و الفلسفة , فالاشباع الروحي و السعى الدائم للتسامي ركيزتان يقوم عليها كلا من الدين و الفن مع اختلافات كثيرة بطبيعة الحال لا مكان هنا لطرحها فنحن معنيون هنا بنقاط الالتقاء فقط , و الدين معرفة من حيث كونه معرفة تقدم اطارا تفسيريا  للوجود  يمس اسئلة صميمية , معرفة تنطلق من اليقين الاعتقادي " شكل من العاطفة " و لا تنطلق من الشك كما تفعل الفلسفة رغم ان هيجل أكد ان الدين والفلسفة غايتهما واحدة . كانت الاسطورة – قبل الدين – تقدم تصورا  كليا للوجود و مثل الدين نقلة تطورية من التفكير الخرافي للاسطورة عندما ادخل الغيبي او الميتافيزيقيا في معادلة المعرفة حيث اصبحت قوى الحدس و النبوءة و المعجزة و الوحي  مصدرا من مصادر التلقي .
 

الفن و الدين معرفة ذوقية  , فالروح و الحب و الجمال ..اقانيم  يستند عليها الفن و يقوم عليها الدين – فالروح  الجانب الغيبي للمحسوس و الحب اساس العلاقة بين العبد و العبد  من جهة و العبد و الاله من جهة اخرى و الجمال متمثل في العالم المنظور " الكون بكل ما فيه " و العالم المسطور " التعاليم الدينية "  و هو الجمال الذي يعكس صفات الاله و يجعل من الخير و الحق و العدل فروع شجرة القيم الدينية .. اذن الاقانيم واحدة  مع اختلاف في التراتبية  التي يؤكد عليها هذا او ذاك .
 

الفن ليس اخلاقيا لانه يعلي من شأن المحسوس و بالتالي فانه يتفهم نسبية كل ما هو انساني, انه حرية لا تلغي الضرورة , الفن يستشف الروحي في الموجودات بينما يكرس الدين الاخلاق بهدف الموائمة بين الضرورة و الحرية .الضرورة كشرط انساني و الحرية كإنعتاق منضبط و لا تنضبط الحرية الا بالسمو الروحي الناهض على قاعدة اخلاقية .
 

فالجمال هو دين الفن و الدين أنسنة للجمال المطلق.
و لأن الفن لا اخلاقي و غير معني بتنمية الاخلاق ( مع التنبية على فكرة ان الجمال قيمة اخلاقية ) بل بتنمية الحس لذلك يبدو ظاهريا ان الفن ضد الاخلاق و هذا ما دفع المتشددين دينيا الى اعتباره مرادفا للانحطاط و التفسخ .

 

العمل الفني و ان بدا محدودا بمضامينه و افكاره لكنه – كما سلف القول – تجربة ذاتية لملامسة الجمال اللانهائي و المحبة اللانهائية – وهذة هي الاطروحة الرئيسية لهذا المقال -  فالجمال هو الغاية النهائية للفن و المحبة هي الشعور الضروري عند انتاج  او تلقي المثير الجمالي  و لان الفن تجربة طموحة نحو الخلود و اللامحدود تصبح الروح هي المستوعب الانسب لهذة التجربة تماما كتجربة الصوفي في افناء ذاته حبا في المطلق و لان الدين تجربة روحية فهو يبني على جمال الروح و جمال القيم الانسانية التي تنبع من الجوهر الالهي في الانسان  بينما يركز الفن على الجمال المحسوس لينطلق منه الى الجمال المطلق .
 

" الوحدة في التعدد" فكرة ثابتة في التصوف و في الفن ايضا , فخلف كل مظاهر الوجود الانساني و الطبيعي المتعددة و الغزيرة هناك دائما وحدة المكون الانساني .مليارات البشر على المعمورة و منذ بدء الخليقة  يعد كل فرد منهم نسيج لوحده و قصة متفردة في الحياة و التجربة الانسانية و كل فرد منهم هو ايضا عمل فني ناجز فالفن الفوتوغرافي –مثلا- يمكنه التقاط صورة لكل شخص باعتباره مادة فنية كما يمكن لفن القصة ان يعتبر أي شخص في العالم بلا استثناء بطلا لقصة , و الشعر يمكنه اقتناص أي لحظة ذاتية ليكتب منها قصيدة ..و هكذا. وراء هذا التعدد هناك وحدة الروح النقية و وحدة الحب لكل ما هو جميل فخلف ملايين الالوان في الطبيعة هناك وحدة العين التي ترى و تستشف الجمال في كل لون و في الصوفية كل مظاهر الوجود على حدة هي شاهد على واحدية الاله و اذا كان الصوفي يكابد حقيقة محدودية شرطه البشري امام لانهائية حبه,فالفنان يكابد ايضا لالتقاط تفصيل جمالي يكون مادة فنية جديدة تختزل / ترمز الى  حقيقة جمالية اكبر , فالتفاصيل من حوله لانهائية مقارنة بقدرة الوعي على الالتقاط من جهة و من جهة تتعرض هذه التفاصيل في احيان كثيرة  للتغير او للتلاشي والانتهاء .قصيدة الهايكو اليابانية خير مثال يجسد جدلية العلاقة بين الجمال الخارجي و مدى وعي الفنان بهذا الجمال و هي جدلية موجودة في الفنون ككل و لكنها اكثر نصاعة في قصيدة الهايكو بشكل خاص والشعر بشكل عام لانها تتناول جزئية لحظية او تفصيلية متناهية الضآلة .
لذا تبدو الثقافة – و الفن احد مكوناتها – "يوتوبيا منقوصة " بحسب تيري ايجلتون لانها ترجىء/تؤجل فكرة الصراع و لكنها منقوصة  لانها لا تستطيع تأجيل الصراع باستمرار و الذي تذكيه السياسة عبر ممارسات اجتماعية .تدعو منتجات الثقافة دائما الى التعايش و الاختلاف لكنها تفشل في ذلك امام الواقع الصراعي الذي يكرس للصدامات على كافة المستويات بحيث يبدو مقتل الالاف مجرد امر عارض ضمن مسلسل صراع  القوى و هكذا تصبح تغذية الاختلافات و الانقسامات الجهوية امرا مهما لتأجيج الخلاف و تسخير ادوات جديدة لاستخدامها فيه .

 

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص