الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مهارة الاستماع - مسعود عمشوش
الساعة 15:17 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


تمهيد: المهارات اللغوية الأربع
يمتلك كل فرد منّا قدرات تساعده على النمو والتطور والتعلّم والتكيَّف مع مختلف متطلبات الحياة. لكنّ تلك القدرات تظلُّ لدى كثير منّا خامدة وغير مفعلّة؛ وهذا ما يسبّب لهم عددا من التعثرات والمصاعب في حياتهم. أما الإنسان الناجح والمبدع فهو الذي يستطيع تحويل أكبر عددٍ من قدراته إلى مهارات. والمهارة هي قدرة الفرد على الأداء المتميز والمتكامل، والدقيق، والمنظم، والسريع، في مجالٍ محددٍ. إذن فالمهارات هي في الأصل قدرات إنسانية، تمَّ تفعيلها بشكل إيجابي وذكي.
 

ومن المعلوم أن مناهج تعليم اللغات قد تأثر اليوم بمعطيات نظرية الاتصال التي تؤكد على أهمية كل من المتكلم والمستمع، أو الكاتب والقارئ، في عملية التفاعل اللغوي، الكلامي الشفهي (وهو الأصل)، أو الكتابي، وكذلك الرسالة، والأداة أي اللغة. ويمكن أن نذكر هنا أن فيردياناند دي سوسير قد ميّز، في مطلع القرن العشرين، بين اللغة بوصفها نظاما عاما يوجد في كتب النحو والصرف والمعاجم، وبين الكلام بوصفه الاستخدام الملموس للغة الذي لا يتم في الواقع إلا بين متكلم ومستمع، أو كاتب وقارئ.
 

ومن هذا المنطلق شرع اللغويون، الذين كانوا يدرسون اللغة بوصفها نحوا وصرفا وقواعدَ وإملاءً، في النظر إلى اللغة بوصفها أداة تواصل تفاعلي تتطلب امتلاك المستخدم لأربع قدرات، هي: الاستماع والكلام عندما يكون التواصل مباشرا، والقراءة والكتابة عندما يكون التواصل عبر الرموز الكتابية. ولهذا ميزوا بين أربعة أنواع أساسية من المهارات اللغوية: الاستماع والكلام والقراءة والكتابة. 
 

واليوم هناك اتجاهان لتدريس اللغة وتعلّمها؛ الأول يدعو إلى تدريس اللغة بوصفها وحدة متكاملة، استماعاً وكلاماً، وقراءةً وكتابةً، وفهماً وتذوقاً، وذلك انطلاقا من حقيقة أن المعلم والمتعلم يمارسان اللغة بشكل متكامل، وهنا يتم التمرن على المهارات اللغوية الأربع دفعةً واحدة. وعلى الرغم من أن هذه الطريقة تنطوي على عدد من الإيجابيات فهي تتضمن كذلك بعض السلبيات كعدم ملاءمتها مثلا للأطفال الصغار الذين لم يتدربوا بعد على بعض مكونات التواصل اللغوي، لاسيما الكتابي.
 

ويدعو الاتجاه الثاني لتدريس اللغة إلى التعامل مع المهارات اللغوية منفردة، بهدف إعطاء كل واحدة منها الاهتمام اللازم والوقت الكافي. ويؤكد أصحاب هذا الاتجاه على ضرورة تأهيل مدرب/معلم لكل مهارة على حدة، ليكون خبيرا في المهارة التي يدرب المتعلمين عليها. 
 

ويبدو أن الطريقة التكاملية لا تزال هي السائدة في تعليم اللغة العربية، لاسيما في مرحلتي التعليم الأساسي والثانوي. وهناك محاولات للتوفيق بين الاتجاهين في بعض الجامعات العربية. أما في الغرب، فاليوم تُدرّس اللغات، اللغة الأم واللغات الأجنبية، بوصفها مهارات وليس نحوا وصرفا وقواعدَ وإملاءً. كما يتم التركيز على الجانب الوظيفي للتواصل اللغوي أكثر من الجانب الفني، بعكس ما نقوم به في مناهجنا لتدريس لغتنا العربية.
 

وقبل أن أشرع في تقديم المهارات اللغوية الأربع أود التأكيد على أن المهارات هي في الأصل – كما ذكرت- قدرات والمطلوب من المدرب/المعلم تدريب المتعلم عليها وليس التنظير حولها كما أفعله هنا. وأكرر أن إكساب المهارة أو صقلها لا يمكن أن يتم عبر المحاضرة والتلقين بل عبر الممارسة والتمارين والتطبيقات. وهو الشيء الذي نفتقده تماما في مختلف مراحل التعليم في بلادنا؛ ففي جامعاتنا ليس من النادر أن تجد محاضرا يدرّس (spoken) أو (grammar) دون أن يفسح المجال لأي طالب أن ينطق كلمةً واحدةً خلال المحاضرة.
 

 

أولا: مهارة الاستماع
"اللغة أصوات يُعبِّر بها كلُّ قومٍ عن أغراضهم". هكذا يعرف ابن جنّي اللغة. وهناك كثير من اللغات لا تزال في مستوى الصوت، أي أنها تُستخدَم في التواصل الكلامي فقط. والإنسان يتلقَّى اللغة أي الأصوات قبل أن يقلدها وينطقها. وهذا يعني أن الاستماع هو أول مهاة لغوية يمارسها الفرد. وبدون السمع والاستماع لا يمكن للفرد أن يمارس المهارات اللغوية الأخرى. اللغة أصوات واستماع. وقد حبانا الله بأذين نستمع بهما ولسان واحدة للتحَدُّث. والحكيم منّا من فتح أذنيه ولَجَمَ لسانه.
 

والاستماع درجات أو أنواع. ولدينا في لغتنا العربية اسم لكل نوع: سماع واستماع وإصغاء وإنصات. فالسماع يتم حينما تستقبل الأذن أصواتا أو كلاما دون اهتمام، أو لا إراديا، أو من غير رغبة في الفهم والتفاعل. وكثيراً ما تصرخ الزوجة في وجه الزوج (المطنِّش): أنت ما تسمعني؟ ويرد عليها: إلا إلا أسمعك. وهو فعلا يسمعها لكنّه لا يستمع إليها. وشتّان بين السماع والاستماع. فسماع الزوجة يكاد يرادف (تطنيشها).
 

أما الاستماع: فهو استقبال الأصوات بقصد واهتمام وإعمال للفكر بقصد الفهم والتفاعل، أو حتى الطاعة والانصياع. ومن حبّ زوجته استمع لها. أما الإنصات فهو الاستماع المستمر والمركز. (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ).
 

ولا شك أن هناك وسائل عدة يمكن أن يتواصل بها البشر فيما بينهم، لكن تظل اللغة هي الوسيلة الأيسر. ومن بين المهارات اللغوية، من المؤكد إن الإنسان يبدأ بممارسة مهارة الاستماع، حتى قبل أن يولد، أي وهو جنين في رحم أمه. وحينما سألت، في مطلع العام الماضي 2016، رئيس اتحاد الأدباء والكتاب العرب حبيب الصائغ عن طبيعة مشاركة الاتحاد في عام القراءة في الإمارات العربية أكد لي أنهم قرروا نسخ (طباعة) مئة كتاب صوتي خاصة بالأجِنّة! ولكنه في الغالب لا يستطيع الطفل التفاعل لغويا إلا في نهاية سنته الأولى. 
 

وبسبب ارتباط اللغة بالتفكير وتحديد موقع الإنسان لموقعه في الكون، يشرع الطفل الطبيعي في استخدام قدرته على الاستماع في وقت مبكر. وتسهم الأم والمعلم في تحويل تلك القدرة إلى مهارة في السنوات الأولى من عمره. لكن إذا كانت الكتب المدرسية تهتم كثيرا بتعليم/تمرين القراءة وتطويرها، فهي لا تزال ضعيفة في تمرين الطفل على الاستماع. ومادة التعبير أو الإنشاء تمارس كتابيا فقط. وكذلك الامتحانات. وضبط الرموز الكتابية وليس تطوير مهارة الاستماع هو الغرض من مادة الإملاء التي تُفرَض على التلاميذ.
 

وفي الغرب، تحظى مهارة الاستماع ومهارة التحدث بأهمية بالغة في المناهج المدرسية بما في ذلك مناهج الروضة والتعليم الأساسي. فالمربيون والتربويون يجمعون أن هاتين المهارتين هما اللتان تصقلان شخصية التلميذ والطالب أكثر بكثير من مهارتي الكتابة والقراءة. لذلك ليس في الغرب توظيف بدون مقابلة. وليس هناك تعليم بدون امتحان شفوي وفي جميع المواد. وفي تدريس اللغات، بما في ذلك اللغة الأم، يعد تمرين التلخيص الكتابي لنص شفهي مسموع فقط من أكثر التمارين ممارسة لتدريب الطالب على استيعاب المسموع وكتابة المذكرات خلال المحاضرات، من دون أن يضطر الأستاذ الدكتور أن يحول محاضرته إلى إملاء للملزمة التي عليه أن يضعها في كشك التصوير لعناية الغائبين المناضلين. 
 

وكما ذكرت، عندنا، حتى في مادتي الـ(listening) و(spoken) من النادر أن يسمح الأستاذ الدكتور المحاضر لطلبته أن يتكلموا. وهناك طبعا استثناءات بدأت تلوح في الأفق: فالدكتور محمد عبد الله المحجري مثلا، كرّس الوحدة الأولى من كتابه المنهجي (المهارات اللغوية، متطلبات اللغة العربية لطلبة الجامعات) لتعليم المهارات اللغوية الأربع. وأرفق مع كتابة قرصا مرنا يتضمن عددا من النصوص الصوتية لتدرب الطلبة.
 

وهناك اليوم كثير من المعوقات للاستماع. فمنذ أن ساعدت المطبعة على انتشار الكتب بات الناس يميلون إلى استخدام النصوص المكتوبة لاكتساب المعارف. وطوال القرنين التاسع عشر والعشرين كان التواصل بالرموز الكتابية، ورقيا، أكثر انتشارا. ولا شك أن الإذاعات قد أعطت لفترة معينة نوعا من الاهتمام بالمسموع. ولكن لا يبدو أن انتشار الإعلام البصري السمعي كان لصالح الاستماع؛ فهو كرس ثقافة الصورة التي وضعت الكلمة، مسموعة أو مكتوبة، في المرتبة الثانية.
 

ومن ناحية لأخرى، أمس واليوم لا يكفي الاستماع لمعرفة رسالة المتكلم. فمن أسباب صعوبة ممارسة مهارة الاستماع، ارتباط الرسالة التي يبعثها المتكلم للمستمع لعناصر سياقية غير لغوية وثقافية وغير منطوقة. فإذا كان صحيحا أن للكلمات وزنا كبيرا في فهم رسالة المتكلم، فالتجارب تبيّن أن هناك دورا مهما للمسكوت عنه وغير اللفظي في مضمون الخطاب الكلامي، وكما أن علينا أن نقرأ دائما بين السطور في الخطاب الكتابي، علينا كذلك أن نفتح أذنينا للمسكوت عنه. واليوم ما أكثر المناورين بالكلام والصمت!
 

ويرى بعض الباحثين أن نسبة أهمية الكلمات في مضمون الخطاب لا تتجاوز 10٪، بينما تبلغ نسبة طريقة النطق ونبرة الصوت 40٪، ونسبة 50% الباقية من نصيب المواقف السابقة والإيماءات وتعابير الوجه والنظرات. 
 

وفي كثير من حالات التواصل اللغوي نرد على الشخص الذي يكلمنا دون أن نستمع إلى كلماته التي نعتقد أنها لا تعبر حقا عما يريد أن يقوله فعلا. ونكتفي بتأويل قصده أو ما نعتقد أنه يريد قوله من خلال ملامحه وشكله ومشاعره ومواقفه السابقة والسياق. إننا نكتفي بالاستماع للمسكوت عنه.
 

ويقال إن تعبيرات الوجه تساوي في بعض الحالات ألف كلمة، وتفصح أكثر عما يدور في خلد المتكلم ولا يتجرأ قوله، ويسكت عنه.
 

لهذا، عند الاستماع لمتحدثٍ ما علينا أن نستمع له بأعيننا أكثر من أذنينا. فالعين ينصت. والصمت يقول أشياء كثيرة. ومثلما علينا أن نقرأ بين السطور علينا أن نتعلم الاستماع إلى غير المسموع، المسكوت عنه.
 

وفي كثير من الأحيان يغلبنا صمت الآخر أكثر من كلامه.
وقديما تحدّث كل من أفلوطين وجلال الدين الرومي عن "الخطاب الصامت"، وأكدا أن هناك موجات صوتيه وفوق صوتية صادرة عن الروح والقلب والعقل العاقل، وعلينا "تنظيف أذننا الداخلية لنستطيع سماعها وإدراكها"، من خلال الحدس، والجرس الداخلي المغروس في الروح والقلب والعقل العاقل، وحدقة العين.
إذن فلنستمع بعينيا، قبل أذنينا.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً