- الأكثر قراءة
- الأكثر تعليقاً
- اعتبروه أحد أفضل الأطباء.. يمنيون يشيدون بالدكتور المصري هشام إبراهيم (تفاصيل)
- عقوبات أمريكية على شركة سورية تموّل الحوثيين من إيرادات بيع النفط الإيراني
- دورات طائفية باشراف إيران للوكلاء الحوثيون الجدد!
- محلات عبدالغني علي الحروي تعزز تواجدها في السوق العالمي بالتعاون مع شركة هاير
- الحوثيون في إب يسجلون في مدارسهم طفل الصحفي القادري المخفي لديهم بإسم غير إسم أبوه
- علي سالم الصيفي ودورة في تمويل داخلية الحوثيين و الاستحواذ على 200 مليار ريال سنوياً
- إتحاد الإعلاميين اليمنيين يدين توعد قيادي حوثي بتصفية الصحفي فتحي بن لزرق
- بيان ترحيب من منصة (p.t.o.c) بفرض عقوبات امريكية على قيادات حوثية متورطة في جرائم منظمة وتهريب الاسلحة
- منصة تعقب الجرائم المنظمة وغسل الأموال في اليمن (P.T.O.C) تصدر تقريرها الجديد «الكيانات المالية السرية للحوثيين»
- إسرائيل تدعو السفن التجارية المتجهة لميناء الحديدة بتحويل مسارها نحو ميناء عدن
- عمك مات..
لم يكن عمه من جهة أبيه. إنما زوج عمته. بمجرد أن طرقت كلمات الخبر أذنيه اخترقت صورة الميت ذهنه على الفور: واقفا وذراعاه تتشابكان وراء ظهره مع انحناءة طفيفة بين الكتفين. فيما وجهه الناحل والمخدد، تحت مشدة ملفوفة حول رأسه، يقوم بالتفاتة هادئة ومتأنية، وكأنها أُعدّت سلفا. عند نهايتها القصوى انفصلت عنها نظرة غاصت عميقا في عيني من نُقل إليه الخبر.
كانت النظرة وديعة وصافية. وفي الوقت ذاته كما لو كانت تصل من مكان بعيد، من مكان موته، في القرية على الأرجح. وكأنما أراد بنظرته تلك وبوقفته أن يوصل رسالة، لِنَقُل، جوابا على سؤال لطالما حفر عميقا في الجانب المظلم من وعي وليد: تريد أن تعرف كيف عشت؟ عشت طوال حياتي، هكذا، مكتوف اليدين.
***
بعيدا عن الأبعاد الميتافيزيقية التي غالبا ما تنسب للموت والتي شغلت أذهان المفكرين والفنانين عبر العصور، يمتلك الموت قدرة هائلة على شفاء حواسنا ممّا لصق بها من بلادة، بفعل الانغماس المفرط في العادة والتكرار.
يُنقل إليك خبر وفاة شخص عزيز. كأن يكون صديقا أو قريبا أو جارا أو حتى شخصا ربطتك به علاقة تعتبرها، بمعنى ما، عميقة بصرف النظر عن طول مدتها، فتخترق ذهنك على الفور صورته. ليست أيّ صورة، بل صورة بعينها. صورة حية ومحددة، تمتلك من الوضوح والألفة ما يجعلك متأكدا من أنك قد رأيته فيها ذات يوم. لكن، أيّ يوم؟ أيّ شهر؟ أيّ عام؟ وما هي الملابسات والتفاصيل التي رافقتها أو أحاطت بها؟ ذلك ما لن تستطيع تذكره. فهي صورة مقتطعة من مرجعيتها الزمنية وكأنها حدثت فقط في رأسك أو في الخلود!
هذه الصورة تمثّل غالبا وجه الميت، مأخوذا -في البدء- من الجانب أو في إطراقة معينة أو، منذ البداية، ينظر في عينيك مباشرة، فيما بقية كيانه الجسدي في أحد الأوضاع التي سبق لك أن رأيته فيها، جالسا أو ممدّا أو واقفا وربما يمشي. لكن مهما تعددت الأوضاع التي يتخذها في الصورة، فما هو مشترك: النظرة التي، عند لحظة معينة، تفلت من عينيه باتجاهك، فتمتصها نظرتك على الفور وكأنها كانت على موعد مسبق معها.
الجديد في الصورة أو ما يميّزها عن مرجعيّتها الواقعية حيث يحتمل أن تكون قد رأيتها هو الطاقة التعبيرية الهائلة التي تنطوي عليها. وبوجه خاص تلك النظرة التي تحتل مركزها والتي، لحظة التقاءها بنظرتك، تفيض وتنتشر مثل إضاءة كاميرا، حاجبة عنك كل أبعاد الصورة الأخرى وملخصة في جزء من الثانية حياته كلها. هذه الحياة التي ما كان لك أن تعرفها بهذا القدر من الوضوح والمباشرة والسرعة حتى عندما كنت ما تزال تعيش معه أو تقابله في إطار حياة، غائب عن ذهنيكما حدها النهائي.
فمن أين تتأتى هذه الشفافية وهذا الوضوح اللذان يسمان الصورة؟ هل تمتلكهما فجأة في أذهاننا دون أن يكونا لها في الحياة، تماما كما يحدث أحيانا في الحلم، حين نخلع على شخص ما صفات نريدها فيه أو نعتقدها؟ أم أن حواسنا جُليت وانقشعت عنها الحجب، مكتسبة بغتة قابلية على النفاذ لم تكن لها في حضرة المشهد الواقعي؟! هل هي مقدرتنا نحن على النفاذ؟ أم هي شفافية طارئة على الصورة؟!
لو عرضت هذه الأسئلة على وليد في غير المناسبة، لأجاب على هذا النحو على الأرجح: كل كائن يحمل سر حياته معه، حتى الشجرة تجد في تقوّسها وسيلة لتقول لنا إنها أمضت حياتها في مهب الريح. وماذا بالنسبة إلى الإنسان؟ الإنسان! مهما امتلك في جسده وأعصابه ووعيه من الأهلية لحجب سره فهنالك لحظة يفلت فيها السر من الرقابة الذاتية. المهم أن تكون حواس المحيطين به مشذبة وعلى أهبة الاستعداد لالتقاط السر المنفلت عبر نظرة أو إيماءة أو إطراقة أو حركة معينة للأصابع.
لكن لماذا لم تكن حواسك يا وليد متأهّبة للنفاذ إلى أعماق عمك إلا الآن؟ في وقت لاحق، ربما تسنى له أن يجد ما يبرره. كأن يقول: لأن علاقتنا النفعية أو العملية بالميت والمستوحاة من انشغالاتنا اليومية بما تستدعيه من مشاعر حسد أو حقد أو ضغينة أو، حتى، محبة متحللة من القيود.. الخ، قد انتفت فجأة والى الأبد ولم يعد يربطنا به في تلك اللحظة سوى تلك الحقيقة البسيطة والمرة التي لم يسبق لأحد أن تخطاها: الموت!
هذه الحقيقة تحررنا بضربة واحدة من السحر الذي تمارسه الحياة علينا، سادة منافذ حواسنا بقوامها الثقيل. ألم يسبق لوليد أن عرف من خلال تجربته الذاتية ومن خلال قراءاته أن تقلص العلائق العملية والنفعية لفرد ما بعالمه إلى حدودها الدنيا تزوده بشفافية لا يحوزها سواه. نعم. سبق له أن عرف. لكن، في تلك اللحظة، ما كان لأسئلة كهذه أن تزوره، وإن فعلت ما كان لها أن تجد إجابة، لأن تفكيره وحواسه تستغرقهما كلية تلك الصورة الحية بمركزها الذي تفيض عنه النظرة.
***
الأمر الآخر، إن خبر وفاة عمه أعاد إلى ذهنه أيضا، بقوة، صور الموتى الآخرين. هو ينحدر من قرية بعيدة. يذهب إليها، في المتوسط، مرة كل عامين. عادة في عيد الفطر أو عيد الأضحى. في كل عودة يكون هنالك، في المتوسط أيضا، واحد من سكان القرية قد مات. إنه أمر خارج إرادة وليد وليس بوسعه إزاءه سوى ترك ذاكرته تستعرض وجوه من غابوا. في وجود تعليق كامل للإرادة يشيع وليد بحزن وصمت تامّين الوجوه جامدة الملامح تمر أمامه، لكن دون أن يكون لها أبدا شفافية ونفاذ النظرة التي لوجه طرق خبر وفاة صاحبه أذنيك للتو.
تخترق ذهنه أيضا صور من لم يموتوا. تحديدا، صور أولئك الذين ينتظرون. والذين لم تعد تفصلهم عن النهاية سوى مسافة قصيرة. يخطرون في باله هارعين إلى الجنازة، واجمين ومبلبلين. يخترقه الخوف الذي يولّده فيهم حادث موت أحدهم. والذي ينبههم على نحو مباغت إلى قصر المسافة. يخترقه خوفهم كما لو كان هو من يقف على هذه المسافة الوجيزة من الموت لا هم!
***
وليد أيضا..
ينمّي في نفسه منذ زمن بعيد شعوراً بالفردية والاستقلال. ما أكسبه بمرور الوقت حياة خاصة تدور، بقدر الاستطاعة، بعيدا عن أبناء قريته ومعارفه وعن العادات والأعراف التي اكتسبوها بحكم ترعرعهم في مجتمع صغير، ثم حملوها معهم إلى حياتهم في المدينة. انتابه عند سماع الخبر هلع مفاجئ، دفعه إلى التفكير للحظة بأن يهرع إليهم، لكي يظهر ما يدل على استعداده للتخلي عن هذه الفردية. وتدمير كل الحواجز التي تبقيه بعيدا عنهم. عن استعداده لأن يعيش من الآن فصاعدا كجزء منهم لا كفرد. لكن، ما إن أوشك نهوضه على الاكتمال حتى جمّده في وقوفه الناقص ذاك يقين مباغت: الحنين المعاكس إلى فرديته الذي، بالتأكيد، سيستيقظ بمجرد أن يُطوى الحدث بمستحضراته الحزينة.
اللحظة التالية، كانت لحظة تذكّر صديق يكبره سنا. يعيش منذ زمن في وحدة مطبقة. حضرته مثابرته الهائلة على العزلة. فكّر أن بعض أقاربه، في غضون ذلك، قد مات بكل تأكيد. وأن خبر موتهم، لا بد قد اخترق بطريقة أو بأخرى حائط عزلته. والحالة هذه، كيف تسنّى له مقاومة الميل الجارف لأن يتحول إلى جزء؟! لا بد أن ذلك قد كلفه كثير مشقة وألم. وداهمه للحظة إحساس كثيف بالتعاطف مع صديقه هذا. أراد بدلا من الذهاب إلى أهل قريته، الذهاب إليه لكي يشاطره وحدته. لكي يخفف عنه ذلك الشعور الباهظ التعب في أن يكون فردا، حتى خيل إليه لأكثر من لحظة أن هذا الشعور ينتمي لصديقه أكثر من انتمائه إليه.
منقولة من مجلة الجديد ...
لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا
لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا
- نصوص
- اخبار أدبية
- آراء وأفكار
- اليوم
- الأسبوع
- الشهر