الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
سوق علي محسن سرد المجتمع - محمد الغربي عمران
الساعة 12:27 (الرأي برس - أدب وثقافة)


نادية الكوكباني في روايتها الأخيرة "سوق علي محسن" تختصر الوطن في مجتمع السوق.. وقد استعارت اسم رواياتها من أسم سوق يتبع أحد رموز السلطة في صنعاء.. لتقدم المجتمع عبر باب فساد مجتمع السوق.. حيث الإنسان مجرد سلعة ليس إلا "ذات صباح استيقظ السوق على صراخ ام وجدت جثة ابنها ذي السبع السنوات ملقاه في جزء ناء من السوق بعد هتكت بمنتهى الوحشية, ولم تجد من يأخذ لها حقها".
 

الرواية صادرة من دار الهلال في القاهرة .. وهو العمل الروائي الرابع بعد عقيلات وصنعائي وحب ليس إلا. عناوين فصولها أربعة أحلام.. وشخصياتها من صغار السن والشباب.. من الشريحة المعدمة.. ومن الشخصيات المحورية يونس صبي لم يتجاوز الثانية عشر وصديقه مهدي في الخامسة عشر.. يونس وجد نفسه يعول أمه وأخوته بعد مقتل والده الجندي في حرب هامشية.. ليصبح عالمه الجديد محل لبيع الدجاج في أطراف السوق الكبير.. ومهدي هو الآخر يعيل أسرة فقد ربها عقله أو أنه فضل الجنون على قبح الواقع. ويعمل في نفس المحل.. مهمته ذبح وسلخ ما يطلب منه. المحل وسط سوق يموج بمختلف السلع بما فيها الإنسان.. تأتيه العربات من مختلف المحافظات محملة بالخضار والفاكهة.. وأقفاص الطيور.. مجتمع مصغر يلتقي فيه الأفاكون والسذج والباحثون عن عمل.. تنعدم فيه الأخلاق والأمان ويسوده التسلط والتجبر.. وتنعدم في هي كرامة الإنسان ليتحول مجرد سلعة.
 

ومن سوق علي محسن إلى ساحة التغيير حيث بدأت شرارة ثورة الشباب.. تلك الشوارع التي تبدأ من بوابة جامعة صنعاء لتمتد شمالا وجنوبا في أحياء المدينة حيث تكدست بشباب ثورة 2011.. مطالبين بإسقاط النظام. ومن ساحة التغيير إلى مكان ثالث ميدان السبعين.. ساحة تجمع أنصار النظام. ومن السبعين إلى مينة الليل.. وبهذا يتضح لنا أن فضاء الرواية يتوزع إلى أربعة أمكنة متباينة.. ورمزية تلك الأمكنة دالة.. فالسوق له قوانينه المراعية لحقوق الفرد والجماعة.. وساحة الثوار لها غاياتها حيث شعارات وهتافات العدالة الاجتماعية والحرية .. وساحة أنصار السلطة المطالبين بالاستقرار والامان. والأحياء السكنية مدينة الليلة لها حرمتها والاهتمام بها. لكن الكوكباني تفضح الجميع فلا السوق تحكمه قوانين ترعى كرامة بعد أن تحول الإنسان فيه إلى مجرد سلعة خاضعة للعرض والطلب.. وساحة التغير سيطرت عليها الأحزاب ورجال السلطة والدين بعد أن عقدوا صفقات الحروب والتقاسم.. وساحة السبعين تجمع فيها المنتفعون والفاسدون. ومدينة الليل غابة وبيئة للجوع والخوف.. لتتشابه الأمكنة بقبح وطغيان المتسلطين. لترسم لنا نادية بذلك مشاهد لمجتمع تتقاطع فيه المصالح والتوجهات الحزبية والتكتلات القبلية والفكر الانتهازي.. شرائح مُستغَلة ونخب مستغِلة.. صراع بين الشباب الثائر ورموز السلطة ممن انضموا إليهم تحت غطاء تأييدهم لمطالب الشباب.. من كانوا بالأمس يسيرون البلد بمفاسدهم .. وتلك الأحزاب التي سطت على ساحة التغيير من خلال دفع شبابها وعناصرها للسطو على الثورة. ورجال الدين أعتلوا منابر الثورة.
 

وبالعودة إلى بداية سرد الرواية نلاحظ رمزية المكان واضحة.. ورموز أخرى تشير إلى ما وراء الظاهر منها .. إلا أن تلك الرموز.. ودقة اختيار شخصياتها من عوام الناس .. ومن المهمشين أعطى العمل أبعادا ومدلولات عميقة. راصدة تأثير ثورة الياسمين في تونس.. وثورة شباب مصر على الساحة اليمنية.. مسلطة الضوء إلى بداية مؤشرات الثورة في اليمن.. والعودة إلى بداياتها الأولى في عدن أثر تحرك الشاب تحت مسمى الحراك الجنوبي.. ثم تلك المظاهرات التي كانت تنطلق بين فينة وأخرى في ميادين صنعاء وتعز والحديدة والمكلا مطالبة بالإصلاحات السياسية .. إلا يوم 11 فبراير حين تبلورت فيه إرادة الشعب من خلال تلك الشعارات التي رفعت في ساحة التغيير بتغيير النظام.

الرواية رصدت تحركات الشباب منذ أول يوم وما تلاه من أيام حتى بداية سطو القوى الحزبية ورموز النظام السابق على ساحة الثورة.. ممن أعلنوا انضمامهم إلى ثورة الشباب كمن يفر من سفينة على وشك الغرق. ما يجعل القارئ المعايش لتلك الأحداث يرى فيلم مكرر.. إلا أن استخدم الكاتبة لبعض القليل من الأحداث الخيالية في محاولة لتجاوز رتابة رصد الواقع.. مبتكرة شخصيات ديناميكية مثل : يونس.. مهدي.. كامل.. وصبحية . وشخصيات ثانوية أخرى.. ونسج تلك العلاقات في ما بينها بما يخدم تشكيل اللوحة السردية.. وذلك الصراع الذي ظل بإيقاع رتيب.. مشكلاً ثنائيات متضادة.. من ذلك غياب الأب وحضور الأم بشكل قوي.. ذلك الحضور والغياب أضفى بضلاله على رمزية المعنى والمدلول.. وكذلك ثنائية الأحلام بين ثوار يحلمون بوطن آمن تسوده العدالة الاجتماعية والسياسية .. وأحلام مهدي ويونس بامتلاك مشاريعهم الصغيرة "اصرار يونس على السير في طريق تحقيق حلمه بامتلاك محل بيع الدجاج جعله يحرم نفسه وامه واخويه من اشياء اساسية". وثنائية أخرى بين ساحة للحاكم المتسلط وأعوانه والرغبة بالاستمرار.. وساحة للشعب وتطلعاته بالتغيير .. وذلك الصراع في ساحة التغيير ذاتها بين شباب الثورة والقيادات الحزبية التي سعت إلى السطو على ثورتهم واحلامهم "صعدت الشخصية المهمة بجنودها على المنصة.. اوقفت الموسيقى الصادحة من الميكرفونات.. لأن احد الشباب صرخ :ان الشيخ لا يحب سماع الموسيقى. ورد عليه شاب آخر بنبرة حادة: انها ساحتنا ونحن احرار نسمع فيها ما نريد.. وليست ساحة الشيخ". وثنائية أخرى بين وعي عال يمثله كمال وصبحية .. ووعي متدني يمثله يونس ومهدي وأمهاتهم. وقد تجلى ذلك من خلال الحوار الذي كان يدور حول ما يعتمل في الساحة الوطنية.. وتلك الرؤى المطروحة حول ما يحدث على بساط الحياة وايقاعها المتأزم.
 

تلك الثنائيات أعطت الرواية بعض الحيوية.. وذلك المتخيل من صراع اجتماعي بين عناصر سوق علي محسن حين يشبه نفسه - يونس- بانه في قفص سوق علي محسن.. ولا يتوقف عن كرهه السوق.. وكل ما فيه يشعره بالظلم لان السوق بلا قوانين. وكذلك الصراع بين سكان مدينة الليل. وما تعبر عنه الساحتين عمق كل ذلك من نبض ما تهدف إليه الرواية في رسالتها. 
 

جانب آخر وقد تعددت تيمته هو : الفقر.. الفقد.. الخوف.. الطموح.. التسلط.. اللصوصية.. الحب.. القبيلة.. الأحلام ... الخ مسارات الرواية المتعددة.. وكأنها حكايات في حكاية الثورة.. لتظل تلك الأحداث تتداخل وتتظافر رغم تشتت الأمكنة. لتنتج صورا لمجتمع يطمح للانعتاق والحرية والعدالة.. محاولا الفكاك من خوف رسختها السلطة في أعماقه من قوله لكلمة لا. 
 

وإذا كانت أحداث الرواية قد خبى تناميها بعض الشيء.. كما غاب الصراع بين الشخصيات على حساب سيطرة الوصف.. فإننا نجد معظم الشخصيات وقد انتهت كما بدأت دون تطور يذكر.. وما عوض بعض الشيء ذلك الخفوت حضور المكان بشكل قوي.. فذلك الوصف قدم لنا بيئة مجتمع تقليدي يتعايش في الأفراد بإيقاع بطيئ.. كما صور مجتمع ساحة الثورة كوجه آخر لطموح الشعب في حياة أكثر حرية وعدالة. وإن سقطت أحلامهم في النهاية بسيطرة الأحزاب على ساحاتهم التي آمنوا بانطلاق التغيير منها. ليسقط الحلم "ولم يدرك الشباب الفخ الذي نصب لهم. فشلوا في ايجاد قيادة, واصبحوا اداة في يد الأحزاب. شعرت بغصة اكبر وانا ارى البساط يسحب من تحت اقدامهم". من حوار بين صبحية وكمال.
 

اعتمدت الكاتبة في روايتها على الخط الزمني المتصاعد .. مع العودة هنا وهناك إلى سرد ماضي بعض الشخصيات.. ما أعطى السرد نوع من الحيوية. زادت الكاتبة من ذلك بتلك المشاهد التي صورت أوضاع تلك الأسر من خلال أفرادها الذي يعيشون على أمل تغير واقعهم. وكذلك العلاقات العاطفية بين مهدي وحبيبة وصبحية وكمال.. ومحاولة الارتقاء بمشاعر المحبة إلى ما يوازي التغيير المأمول في العلاقات التي أنتجتها ساحات التغيير.
 

الرواية يمكن اعتبارها جزء ثانٍ لرواية سابقة "صنعائي". وبنهايتها المفتوحة يمكن أن تنسج الكاتبة عمل ثالث يكمل خط الثورة الذي بدأته بصنعائي.. كون الشخصيات الأساسية حاضرة في تلك الأعمال.. مثل: صبحية وكذلك ظهور شخصيتي حميد.. وعبده سعيد. وكذلك الوحدة الموضوعية المتمثل في الثورة.
 

وعودة على بدء نلاحظ اتكاء الكاتبة على الترميز منذ الأسطر الأولى من خلال يونس في محاولة تربيته للصيصان .. وأيضا اختيارها لسوق علي محسن كمركز لبقية أمكنة السرد. ومدينة الليل ورموز أخرى. لتتشظى اسئلة وأسئلة.. قد يجد القارئ لبعضها أجوبة وقد لا يجد.. لكن تلك الأسئلة تدعونا للمشاركة في تخيل ما يمكن أن يردم به تلك الفجوات الإبداعية التي تعمدت الكاتبة تركها.. مثل : لماذا هجر رجال السلطة مواقعهم معلنين انضمامهم إلى صفوف الثورة؟ هل سعي الأحزاب لقيادة الثورة وجه من أوجه التسلط ؟ أين ذلك الوعي الذي ملأ أفاق المدن اليمنية ..وهل ذلك زيف.. وأين هو اليوم وقد أضحت الأوضاع بحاجة إلا استمرار الثورة؟ 
 

أن تكتب الروائية أحداث عشناها.. وتتقيد في معظم وقائعها.. فتلك مغامرة لا أعرف هل تحسب للكاتبة سلبا أم إيجاباً. في الوقت نفسه نجد أنها حاولت الإفلات من الرتابة بلغتها المختلفة .. واستحداثها لتلك العلاقات العاطفية بين كامل وصبحية ومهدي وحبيبة. التي تشد القارئ لمواصلة متابعة القراءة.. وان لم تكتمل تلك العلاقات. وكذلك ظهور ذلك الرجل "عبده سعيد" ثم اختفاؤه كما ظهر في رواية سابقة صنعائي.. وأن يظهر أيضاً حميد ذلك الشاب الذي أرتبط بصبحية بعلاقة عاطفية في صنعائي أيضاً.. هي رواية سياسية اجتماعية بامتياز. توثق للثورة إن جاز لي التعبير.
 

والمفاجأة انتهاء الرواية بسقوط يونس ذلك الصبي الذي يتطور وعيه قتيلا في أحد المظاهرات ليلحق بأبيه الجندي.. وكذلك يماثل سقوطه بسقط شقيق مهدي الصغير في جمعة الكرامة وان اختلفت درجة الوعي بينهما. وبتلك النهاية الرامزة إلى استشهاد الأمل في يونس.. وفي المكان والزمان وبعمره الذي لم يتجاوز الثالثة عشرة فقدان الأمل.
 

ورغم أن الكاتبة هي أحدى الناشطات في ساحة التغيير.. ولها معرفة بتفاصيل ما دار.. إلا أنها نجحت بعض الشيء في الخروج بعمل روائي مجرد من أي ميل.. مستخدمة حيلة ثنائية الأوضاع والشخصيات والأمكنة.. وكما ذكرنا سابقاً أن ساحة التغيير كانت توازيها ساحة السبعين.. والشباب الثائر كان يوازيهم رجال السلطة الذي انسلخوا عنها وأعلنوا انضمامهم لساحة الثوار .. وأمام تعاظم الثورة كان هناك الأحزاب السياسية التي قطفت نجاحات الشباب لتقود الثوار بما يخدم مصالحها الضيقة.. وبذلك وأدتها.
 

والمفارقة التي يخرج بها القارئ بنهاية الرواية أن الجميع كانوا يرفعون نفس الشعارات الثورية والوحدوية.. وايضاً العلم الواحد.. وقد تفننوا بتلوين سبحهم وكوافيهم وأربطة رؤوسه بألوانه الأحمر والأبيض والأسود.

منقولة من مجلة الرافد ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً