الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
مذكرات إرهابي - فاروق مريش
الساعة 11:18 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


بعد أن قضينا طيلة نهار الثلاثاء في تكبد عناء الفراق ، وانتظارنا الطويل لفتح العبَّارة التي قُصفت في الوادي الضيق .. جاء ذلك الليل المرعب الذي ليس فيه قمَر، كان ليلاً خانقاً جائعاً وشديد الصمت، كنا نجلس على ذلك الصفيح الموجع لفقرات الظهر، ومترنحين بين تعرجاتٍ جبلية أشبه بالأفاعي الكبيرة، قال عنها سائق السيارة(الشاص)أنها تُسمى هيجة العبد.
كانت كلمات أمي الأخيرة(الله يعصمك من المقنعين)وشوقي لمدينة عدن وزرقة البحر هما المُسكنان لألم الطريق واستفزاز تقطعات المجاميع المسلحة . يومها تعرضنا لإهانات شديدة وتفتيش عنجهي ومصادرة لكل ما نملكه من كرامة وتلفونات ونقود.
التُّربة، المقاطرة، حيفان، الأعرُوق, القبيطة ،كرش ،الصبيحة وطور الباحة..محطات عالقة مثلت لي سراطاً للعبور نحو الأرض التي حسبتها جنتي ونجاتي.
سارت بنا سيارة العم غالب كل هذه العذابات حتى توقفت عند بساتين لحج أمام نقطة تفتيش للحراك الجنوبي، مُنع الجميع من العبور ماعدا العائلة التي كانت تجلس في الأمام.
ذهبتُ إلى قائد الموقع وقلت له ليس لدي بطاقة شخصية لأن عمري ١٧عام وخالي سالم من سكان المنصورة, تم التواصل معه وقد أمليتهم رقمه وسمح لي بالدخول.
قبل غروب شمس الأربعاء كانت تُربتي التي أوشكت أن تجف مع موعد الشروق والماء والحياة,ففي دار سعد كان خالي سالم بلونه الأسمر منتظراً يداي الفارغتين وقبلاتي وأحضاني الغائبة عنه منذ تسعة أعوام.
أخذني للبيت وفرح بي كفرح المغترب بوطنه..قال لي صباح يوم الخميس على مائدة الإفطار: من يوم السبت سأعرفك بصاحب البقالة الذي ستعمل عنده ، وإن شاء الله سنساعدك لتواصل الدراسة وتحقق حلم أبيك رحمه الله.
عشت في ذلك البيت بجوار خالي وأولاده كإصبعٍ في يد، تعلم فيه قلبي كيف ينبضُ لأول مرة بسبب ابتسامات ونظرات خجولة رشقتني بها مراراً (انتصار) ابنة خالي.
اعتدت أن أهاتف أمي وإخوتي كل مساء , وكنتُ دائماً أسألها: من تقصدين بالمقنعين يا أمي؟!
بدأتُ في عملي وأحببتُ صاحب البقالة الذي أشعرني بأبوته بعد تأكده من أمانتي وحفظي للأسعار واعجابه بأفكاري المتجددة، ولكن لم يمض أكثر من أسبوعين حتى بلَّغ عني الشرطة وأودعني بنفسه لهذا السجن بتهمة سرقة الخزانة وكروت الاتصالات ومسدس موجود كرهن وضعه أحد باعة القات في السوق المجاور للبقالة .
هذه مأساتي باختصار يا أبو النوب فما قصتك؟
- أبو النوب: يمسح لحيته ويستعيد جلسته متربعاً, عندما تسمع مصيبة غيرك تهون مصيبتك، يا أخي أسامة وكلنا أخوة في الله.. طول عمري أعيش لنصرة الحق ومساعدة المظلومين.. وبلهجته العدنية الساحرة( حب الخير يجري بدمًّي )معي ثلاجة كبيرة لتبريد الماء، واتكسب على حالي وأولادي وأوظف الشباب العاطلين عن العمل, وبعد الانفجار الأخير الذي حصل بخور مكسر، أمسكَ رجال الأمن بأحد الشباب العاملين معنا في بيع الماء بالجولات وعندما حققوا معه ألبسني تهمة وأنا بريء منها كبراءةِ الذئب من دم يوسف. 
- قلت له : فعلاً ففي هذا الزمن.. الطيبُ ضحية الأنذال، ولكن ماهي التهمة؟
- أبو النوب: اتهمني بأني إرهابي ومسئول عن خليةٍ تقومُ برصد أرقام سيارات المسئولين ورجال الأمن,وهذه يا أسامة من علامات الساعة أن الأمين يُخون، فمجتمعنا أصبح فاسداً بأخلاقه وملبسه، وبعيداً عن تطبيق أحكام الشريعة, ولابد لله في أرضه من أنصار لشريعته يعلون رايته وكلمته ويعيدون الخلافة إن شاء الله مصداقاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام : ( بدأ هذا الأمرُ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء) , ومن يبتغ غير طريق الجهاد والمجاهدين الحقيقيين يذله الله.
بعد يومين، جاء إليَّ أبو النوب وأعطاني مبلغاً من المال وقصاصة ورقية فيها عناوينه، وقال لي : سأخرج اليوم بضمانة.. وأنت تمسك بحبل الله، وستظهر براءتك قريباً، فالطيبون في الشرطة والجيش كثير,ظلّت هذه الجملة تحوم في رأسي (الطيبون في الشرطة والجيش كثير).
حزنت على فراق أبي النوب، وكنت أنتظر بفارغ الصبر لزيارة خالي سالم وانتصار, فانتصار هي السحابة التي هطلت على زرعي فأثمر، وهي الشباك الذي اصطاد بحري, كنت أدرك أن البحر لا يمكن اصطياده ويمكنه التسلل بين فتحات الشباك متى أراد، لكني عشقت سنارتها الطاهرة.. وتعلقت بثقتها التي كانت ترددها : نعرفُ أنك بريئ من كل إثمٍ فيه خيانة.
- خالي سالم: خروجك سيكون قريبا إن شاء الله ومدير قسم الاحتياطي أكد لي ذلك.
خرجت للحياة وحيداً مرة أخرى بدون عمل، ولا أملك غير ورقة صديقي ودعاء أمي.
عدتُ إلى المنزل وفي استقبالي فرحةٌ تختبئ خلف باب المطبخ.. بينما خالي كعادته اليومية يخرج صباحاً إلى عمله الذي لا أعلم عنه شيئاً، ويعود في المساء أو ينام خارج المنزل أحياناً.
اتصل بي صاحب البقالة وبارك براءتي واعتذر لي بشدة، وأوضح أن السارق هو ولده الخائن لاسم أبيه، وطالبني بالعودة للعمل معه وبراتب أفضل, فأجبته: ربَّتني أمي على الأمانة وعزة النفس وعدم لبس الأقنعة.
بعد يومين من التسكع في شوارع وأسواق الثغر الذي كان مبتسماً, قررت الذهاب لأبي النّوب، وما أن رآني حتى تهلل وجهه وغمرته السعادة وأكرم ضيافتي.. وأعطاني مبلغاً مغرياً من المال وقال: أرسل هذا المبلغ لأمك وإخوتك وقل لها تدعي للحق.
بت تلك الليلة كأنما ليلة القدر فتحت ذراعيها لعاشقٍ متنسك, أحببت أبا النوب ورأيت فيه المثال التمثال, فكل الذي كنتُ أعمله أن أقوم بصرف كراتين الماء كل صباح من المخازن على المندوبين، واستلم المبالغ المالية وأوراق الرصد منهم مساءً.
انسجمت معهم لدرجة أن الشيخ أبا خالد أقنعني بإعفاء لحيتي المراهقة، وعرفني كثيراً مما كنت أجهله عن الجهاد والخلافة الإسلامية المباركة ووجوب تطبيق شرع الله وأعجبتني الكنية التي أطلقها عليَّ( أبو خَطَّاب).
أتذكرُ ذات جمعة على مائدة الغداء،قال لي خالي سالم: ما هو العمل الجديد الذي تعمله؟
- قلت له: صدق الله عندما قال: ( وجعلنا من الماء كل شيء حي).
لم أرَ خالي سالم بتلك النظرات والنبرة الغريبة وهو يقول : أسامة ! عدن ليست جنة , بل هي فوهة بركان.
بعد أيام تم تعييني من قبل أبي النّوب مسؤولاً على حي المنصورة وجولات الشيخ عثمان.. كنا نرصد فقط أرقام سيارات الخونة من المسئولين في الدولة والجيش، الذين تم استدراجهم لبيع الوطن بثمن بخس.. وقداعتاد أميرنا أن يكافئ بسخاء كل خميس من ثبت إخلاصه وكتمانه بمبالغ كبيرة, وبنقاط تراكمية تُرشحه لدخول الدورة الميدانية التي تقام في مدينة أبين أرض بشارة النبوة .
يومٌ بعد يوم وشهرٌ بعد آخر أصبحتُ العقل القارئ والعين المراقبة لكل ما يفكر به الأمير، فوجدت قلبي لم يعد مهتماً بمشاعر انتصار، وأصبحتُ أغض بصري عنها، فالقلب موطن الإيمان ولا إيمان دون جهادٍ وتضحية ومدافعة للهوى.. هكذا علمني شيخي.
لم يكن من حقنا أن نعلم أين تذهب تلك الأوراق التي فيها أرقام السيارات، غير أننا كنا نتابع بفخر وارتياح عبر وسائل الإعلام المختلفة مثل عامة الناس تلك التفجيرات للسيارات المفخخة التي تستهدف شياطين العمالة والعلمانية، دون أن نعلم حتى من نفذ المشهد الختامي.
... .

24/2/2022
بعد سبعة أعوام من تلك الأحداث.. هذا أنا أسامة الذي لم يعد صغيراً وقد تخرج من كلية الشريعة والقانون كما تمنى والده, يكتبُ مذكراته لأشد الأحداث تأثيراً في حياته، ويستعد للسفر إلى عدن للزواج من منقذته انتصار .
انتصار التي أهدتني الحياة عندما أنقذتني من ذلك المستنقع، لأنها كانت تغسل ملابسي وتجد بداخلها بعض أوراق الحوالات المالية، وأحياناً أوراق أرقام السيارات، كانت تخبئ عن الجميع تلك الأوراق مخافة أن يمسسني سوء, ولكن الحب الذي أضاء فؤادها أصرَّ أن يكون هو الحل حين هداها لإخبار خالي سالم الذي اكتشفتُ أنه يعمل في البحث الجنائي، وبدوره قام برصد تحركاتنا, وتتبع مواقعنا عبر مراقبة شرائح الموبايلات، فتمت عملية عسكرية مفاجئة لمداهمة مقراتنا والقبض على جميع أفراد الخلية والزج بنا في زنازين انفرادية، ولم ينجُ يومها سوى أبي النَّوب والشيخ أبي خالد الذين غادرا المكان قبل وصول أفراد مكافحة الإرهاب.
عندما سقطت الأقنعة وعصمني الله من المقنعين، سألت خالي سالم فيما بعد هل تم القبض على أبي النوب والشيخ؟
فأجابني: ( لم نقبض عليهم ، لأن الطيبين في الجيش والشرطة كثير ).

- النهاية -

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً