الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
يوم اختفاء ميمون - أحمد الأسعدي
الساعة 14:41 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


ليلتها ، تأكدت ان الله يسمع دعاء جدتي ، رغم انها لا تصلي كما تعلمنا في المدارس ولا تحفظ من القرآن سوى سورة الفاتحة تتلوها حتى في التشهد ، الا ان دمعاتها الحارة على تلك السجادة المهترئة كل ليلة تقول انها كانت تصلي ، سمعتها تتضرع الى الله كعادتها ملحة عليه ان يرفع غضبه وان لا يحرم الناس موسم زرع اخر وتموت الماشية من القحط . طوت السجادة ، وضعتها على "الصفيف" ذلك البروز الطيني على جدار "الديمة"، حملت العشاء بين يديها ، امسكت بيدي ، اغلقت الباب و توجهنا الى "الخلوه" حيث ننام . عندما وصلنا تذكرت انها لم تملئ وعاء الكلب بالماء ، صديقنا الوفي ، قفلت عائدة ، وفي طريقها تأكدت انني احكمت رباط الحمار ؛ لانه اكثر من صباح نصحو ولا نجد الحمار في مكانه فنهرع نبحث عنه في القرية و يكون وجهتنا الاولى بيت الحاج مثى كالعادة ، وغالبا ما نجده هناك ؛ لانهم يملكون "دابه" ، كنت افكر كيف يميز الحمار ان هناك انثى ؟ هروبه المتكرر اليها كان يثير عاصفة من الاسئلة في عقلي الصغير . 
جدتي تسمي حمارنا " ميمون" لا اعرف كيف اختارت ذلك الاسم ولكنه اسمه الان وهكذا ننعته دوماً ، ميمون اسود اللون ، قالت جدتي ان جدي اقتناه بعد ولادتي بسبعة اشهر ، في احدى اذنيه الطويلتين خرم لا اعلم متى حدث ، و عينيه تبدو حزينه على الدوام ، كنت اتسائل ما الذي يحزنه ولا يستطيع الافصاح عنه يا ترى . اهتمام جدتي بالحمار يأتي من اهميته بالنسبة لحياتنا في القرية ، على ظهره ننقل الماء كل يوم من السيل ، و يحمل اكياس الدقيق والسكر التي نشتريها كل بضعة اشهر خلال طرق القرية الوعره ، كما انه يحمل الاعلاف والحبوب ايام الحصاد ، و في ايام القحط عندما تجف العيون التي تشرب منها الاغنام ننقل على ظهره جالونات الماء لسقي الاغنام ايضا . 
عادت جدتي بعد ان ملأت وعاء الكلب بالماء ، ما كادت تغلق الباب حتى تشققت السماء وانساب الماء المحبوس اعلاها بشده ، زمجرت الرعود ، لمعت البروق ، الضوء المتسلل من خلال شقوق بابنا الخشبي مخيف ، افر الى حضن جدتي ، ادفن راسي في صدرها ، واغمض عيني ، استمع الى همسها المتكرر " يالطيف الحال ضعيف " . كان صوتها يرتفع كلما طرقت حبات البرد باب الخلوه . امطرت بشده ليلتها ، وتحولت فرحة أهل القرية الى رجاء وخشية . 
اسيقظت القرية المبللة باكرا ، خرج الناس لتفقد حالة مزارعهم ، كانت السيول قد جرفت الكثير من المزارع المطلة على السيل بينما لا يزال الوادي كله غارقا بالماء ؛ فكان انعكاس الشمس الذهبية على صفحات المزارع ساحرا ، ما كادت ترتفع الشمس لتحاذي خيوط الدخان المتصاعد من بيوت القرية حتى استهل الناس اصلاح الاضرار التي لحقت بمزارعهم جراء السيل . كانت مزرعتنا تقع في اعلى الوادي تحاذي جبلا تتخلله الكثير من الشعاب التي تصب في حوض المزرعة ، حملتني جدتي على ظهر الحمار ، تجاوزنا الكثير من الناس الذين يحصون خسائرهم، حثت الخطى لتفقد حال المزرعة الاكثر نصيبا من السيول ، عندما وصلنا لم تكن كباقي المزارع ترزح تحت وطاة المياة البنية ؛ بل كانت جافة بعد ان تسرب الماء من حفرة عملاقة انبثقت في وسطها ، بدا الامر وكأن هناك قذيفة سماوية سقطت عليها ! كان منظر المزرعة مفزعا بعد ان تحول ثلثيها الى مجرد فوهه عملاقة تنتهي باخدود عميق يمتد الى خارجها ، انجرف الطين وبقيت جزر متفرقة منه ، كان الحزن واضحا على وجه جدتي كوننا لقد لا نتمكن من الزرع هذا الموسم ، بعد ان اتى المطر اخيرا اختفت المزرعة ، يا لحسرة جدتي المسكينة ، لابد انها افرطت بالدعاء ليلة البارحة قلت في نفسي . حدثتني جدتي ان هذه المزرعة دوما ما يحدث بها "سمّه" اي ان تتفتح تلك الحفرة كلما داهمتها السيول ، رغم انه يتم دفنها في كل مرة بالحجارة العملاقة و حصى الشعاب و جذوع الاشجار الخضراء قبل ان تردم بالتراب في اخر المراحل ، الا انها تعود كما نشاهدها الان . 
عُرف القرية يقضي بأن يصلح الناس مزارعهم بشكل جماعي ايام السيول ، يبدأون بالمزارع المطلة على السيل خشية ان يعود المطر مجددا ثم الابعد فالابعد ، كان الرجال يتصببون عرقا وارجلهم تغوص بالوحل ، يرددون اهازيج تعينهم على العمل، الأطفال يلهون على وقع خرير ماء السيل الذي غاب لسنوات، النسوة تغسل الثياب و الفراش بعيدا عن تجمعات الرجال، بينما العجائز يوجهن النصائح للرجال ويتحدثن في كل شيء كالعادة، كان الرجال يتحدثون عن مزرعتنا كونها الاشد ضررا على الاطلاق و قد يتطلب الامر اصلاحها عدة ايام ، جدتي تبادلت الحديث مع عجائز اخرى عن المزرعة ، تذكرن انه لم يسبق ان حدثت "سمّه" في اي مزرعة مرتين خلال خمس سنوات اطلاقا ، ولابد ان طرق الردم هذه الايام غير مجديه ، هزت جدتي رأسها موافقة على ما ذكرن واضافت انها تعزو سبب ذلك انه لم يتم دفن رأس حمار عند ردم الحفرة في اخر مرتين كما هو مطلوب وفق اساطير القرية . في اليوم التالي استيقظت ولم اقصد بيت الحاج مثنى بحثا عن ميمون الذي لم يكن في مكانه بعد ان عرفت سبب الحزن الغامض في عينيه.

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً