الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
في الشأن القرائي - أمير تاج السر
الساعة 15:28 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


كنت وما زلت طوال فترة انغراسي في المسألة الكتابية، أهتم بشدة بالقراء، أعتبرهم الفقرة الأهم في المسألة الإبداعية المكتوبة، أي أن الكتاب الذي يبذل فيه أحدهم جهداً كبيراً، من أجل تأليفه، ينبغي أن يبذل فيه قارئ أيضا جهداً مماثلاً من أجل استيعابه، ومن ثم التعليق عليه بعد ذلك. وقد شاركت بهذا المفهوم، في مؤتمرات للقراءة، وسعدت بوجود طلاب وموظفين، وأطباء، وغيرهم، مشاركين بجدية في المسألة، وبعضهم يلخص كتبا قرأها، ويشارك في المسابقات التي باتت تجرى في العواصم العربية، لاختيار قراء، بمعايير لا أعرفها حقيقة، وأتوقع أن تكون ذلك التجانس الذي ينبغي حدوثه بين استيعاب الكتاب، وسلاسة عرضه للآخرين، ودرجة الجودة في اللغة أثناء إلقاء التلخيص على الحاضرين، إن كانت المسابقة فيها جانب إلقائي أيضاً.
 

وحين أنتهي من كتابة عمل إبداعي، أحاول دائماً أن أنسى أنني من كتبه، وأقوم بقراءته بذهن قارئ مختلف، مرتين أو ثلاثاً، قد أعثر فيها على بعض النواقص بحسب رأيي كقارئ، وأقوم بتكملتها ككاتب، وقد أعثر على فقرات كثيرة زائدة، أحذفها، وأخرى من المفترض أن تكون موجودة ولم تكتب، أقوم بكتابتها، وبالطبع وبرغم المحاولات الجادة، للتملص من ثياب الكاتب والقراءة بحيادية تامة، تبدو الأمور صعبة، وهنا يأتي دور القارئ الآخر، القارئ الذي لا علاقة له بالنص، ولا بكاتبه، ليقرأ ويستوعب ويدلي برأيه، إن كان سلبياً أو إيجابياً، فهذه الأمور تعتمد على أشياء كثيرة كما هو معروف، ولا ينبغي أن تفصل لها ملابس شخصية، ويعتبرها الكاتب لصالحة أو ضده، فقد يكتب أحدهم رأياً إيجابياً، ويأتي آخر ليكتب رأياً سلبياً، وثالثاً يدلي برأي محايد، لا يشبه الرأيين الأولين. إذاً الكتاب ينشر، أي يطرح للتداول والنقاش، وفي هذا الزمن بالذات، لا يعني نشر الكتاب، أن داراً كبيرة أو صغيرة للنشر قامت بطباعته وتوزيعه هنا وهناك، وأن أخباراً كتبت عنه في الصحف، ولكن المسألة أوسع من ذلك، حيث يسعى كاتبه بكل ضراوة لإخبار الآخرين عنه في مواقع التواصل، البديل الجديد للمقاهي القديمة، حيث كانت تنتقل الأخبار لتصل بمحدودية شديدة، إلى من يهمه أو لا يهمه الأمر. هنا لا نتحدث عن مئات الأشخاص ولكن مئات الآلاف، يقرؤون الأخبار ويشاركونها لمتابعيهم، وهكذا.
 

أنا أتابع، كلما وجدت طريقة للمتابعة، وأحاول العثور على قراء حقيقيين وسط عدد كبير من غير الحقيقيين، وربما عقدت صداقة مع بعضهم، وأرسلت إليهم أعمالاً يطلبونها مني، سواء أن كانت أعمالي أو أعمالاً لغيري، قد لا يعثر عليها القارئ حيث يقيم، ومعروف أن الحروب والأحوال الاقتصادية، صنعت هجرات شرسة إلى بلاد قد تعثر فيها على كل ما يمكن أن يدعم الحياة، ويصنع المستقبل، ولكن لا تعثر على كتاب بلغتك، تتمنى مطالعته. أقول بأنني أرسل أعمالي لأولئك القراء الذين يصادقونني، من دون أن أحس بأنني أرميها، أو أمنحها لمن سيضعها على رف مكتبة مغبرة وينتهي الأمر، وفي زيارة أخيرة للخرطوم، كنت أحمل نسخاً من كتب عدة، لقارئ صديق، بحث عنها كثيراً ولم يجدها، وكانت ثمة فرحة عظيمة في عينيه، حين احتضن كتبا لكونديرا، ويوسا، وموراكامي، طالما حلم بقراءتها. أيضاً كنت تحدثت إلى فتاة صغيرة قارئة، تحلم بأن تنشئ مكتبات صغيرة في الأحياء السكنية والحدائق العامة، والطرق الرئيسية، والجامعات، يضع كل قارئ فيها كتاباً، ويأخذ آخر، وهو المشروع نفسه الذي طبقته مؤسسة كتارا في قطر مؤخراً، بإنشاء ما سمي رواق الكتب، وفيه تلك الخزائن الصغيرة حيث يمكنك أن تضع كتاباً، وتأخذ آخر، بكل سهولة ويسر.
الذي أردت مناقشته هنا، هو حب القراءة، من عدمه، أي متى يكون القارئ حقيقياً، ومتى يكون مزوراً، يتمدد في مواقع القراءة، وبرامج التواصل المختلفة بلا أي داع، وحتى الناقد نفسه، ذلك الذي من المفترض أن يتابع ما يحدث في عالم الإبداع، ويتصدى له بطريقة علمية، متى يكون حقيقياً، ونستطيع تصديقه؟ ومتى يكون غير حقيقي، ولا نسمع لما يقول.

 

حقيقة تتبعت قارئاً معيناً، لكاتب معين، كنت وجدته يتصدى لإنتاج ذلك الكاتب منذ نحو سبع سنوات، لا يعرض الكتاب كما ينبغي أن يعرض، أي يتحدث عن أجوائه وشخوصه، ووقائعه، وإن كانت القصة أعجبته، أو لم تعجبه، هو فقط يشارك بجملة واحدة لا تتغير: رواية سطحية ومملة، ولا تستحق القراءة.
 

هذه الجملة ليست في كتاب واحد ولكن في كتب عدة، أي كل الكتب التي يفترض أن القارئ طالعها، وخلص إلى هذا الرأي، وبالطبع ليس كل الكتب تشبه بعضها، لتحمل نفس ملامح الوجه الكئيب. توجد أفكار مختلفة، في كل نص، يوجد مكان مختلف، وجوه وحكايات تروى بألسنة مختلفة، هكذا، والقارئ الحقيقي، لا يحمل جملة بصمة، يضعها على كل نص، هو بحكم مشاركته في العملية الإبداعية التي ذكرتها، يضع أيضاً في كل نص يراجعه، بصمة جديدة، وقد يستفيد غيره من ذلك، ويوجد سؤال في موقع أمازون المعروف للكتب، تحت كل مراجعة يكتبها قارئ، سؤال موجه للذي يمر بكتاب ما، ويقرأ مراجعة من سبقوه: هل ترى أن هذه المراجعة مفيدة؟
 

وبالطبع ثمة مراجعات مفيدة جداً، تدخلنا في لحم نص قد لا نكون نفهمه جيداً أثناء قراءتنا المفردة، وأيضا مراجعات لا معنى لها، مثل مراجعة الذي يكتب باستمرار: سطحية ومملة ولا تستحق القراءة.
بالنسبة لاستحقاق القراءة، أنا شخصياً أعتبره مثل استحقاق الحياة، لأن في القراءة حياة بلا شك، والذي يصادر حق الآخرين في قراءة كتاب، هو بالضبط مثل الذي يصادر حقهم في قضاء عمر معين، فمهما كان الكتاب في رأي أحد، مهلهلاً، وسيئاً، فهناك من لا يعتبره كذلك، وهو بالتالي يستحق القراءة، والإنسان الفقير المتشرد، لا يستطيع أحد أن يقول بأنه لا يستحق الحياة، لذلك أتمنى كقارئ فقط، أن نقرأ بجدية، ونكتب ملاحظاتنا بجدية، ولا نكتب جملة لا تستحق القراءة أبداً، إنها جملة مؤذية كثيراً.

 

في ندوة لي في الخرطوم مؤخراً، تحدثت عن مسألة الآراء التي تتبع آراء أخرى، كجزء من تجربتي في الكتابة والقراءة، وهذه ملاحظة أخرى استخلصتها من متابعتي لهذا الشأن، حين يكتب مجموعة من الناس رأياً إيجابياً أو سلبياً في عمل، ليأتي آخرون ويكررونه.
 

هي أيضاً سلبيات بحاجة لمعالجة، وحتى تستقيم تلك العلاقة الأخوية كما أسميها بين كاتب وكتاب وقارئ، لن يظلم الكتاب ولن يمنحه أكثر من حقه.
أخيراً، أذكر كما أذكر دائماً، أنني أناقش الأفكار فقط، وأدلي برأي قد يكون سديداً، وقد يكون مجرد رأي، لا يهم أحداً.

منقولة من مجلة الإمارات الثقافية...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً