الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
من التخفي تحت بردعة الحمار إلى حفظ القرآن جدتي وأنا - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 13:24 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


كان خالي علي " الحرد" مريضاً بلين العظام ، ولكي يشفى من ذلك المرض كان يجب أن يكون أكله كثير السمن والعسل واللبن والبيض وما شابهها من أطعمة ، وكنت صغراً ومولعاً بخالي ، لكنني كنت مولعاً بجدتي أكثر ، كانت نموذجاً فريداً بين النساء ، جميلة ونظيفة ، لا يتوقف اهتمامها بالنظافة على جسدها وألفاظها وملبسها ، بل يتعداه إلى كل زوايا البيت والمطبخ ، وأدوات الحياة كافة ، كان حرصها على النظافة يجعل كل نساء القرية يخشين ملاحظاتها . وفوق ذلك كانت امرأة حازمة شجاعة ونافذة الكلمة ، لا يعجبها الغلط أو الحال المائل .. مع كونها أكثر من نهر حنان دافق..
 

كنت صغيراً لكني أحمل في داخلي مؤقتاً عجيباً يدفعني في الوقت المناسب لمغادرة بيتنا والتوجه إلى بيت جدتي ، هكذا كان هذا الفعل يتكرر صباح كل يوم فما أن تخرج جدتي قرص العيش "الكدر" من موفاها لتقديم القراع المخصوص لخالي المريض حتى أكون واقفاً أمامها اهتف كالعادة " فتو علي سمنو " .. ! 
 

كانت جدتي تنزل المحمة عن المركب ساخنة فيها السمن مع الخلاصة " البقيطا" وتفت فيها قرص العيش الساخن وتتركه قليلاً حتى يتشرب العيش السمن ثم تضيف إليه الرائب بارداً ثقيلاً تصبه من دبية نظيفة تعتني بها فوق ما تفعل سائر النساء .
رائحة العيش المفتوت بالخلاصة والسمن والرائب كانت تصيبني بالجنون وتظل هي هدفي دائماً مهما كان حولها من قوار او سقيل أوحوت مالح أوبيض ..

 

كانت تشجع نهمي الشديد بفرح بالغ لكنها كانت تحرص كل الحرص أن آكل بأناقة ونظافة وأن لا أساقط الأكل على الأرض أو أوسخ به نفسي وملابسي ..
***
 

 

تعافى خالي وكبرت وصار مستحقاً علي أن أدخل المعلامة .. كانت المعلامة عريشاً بناه جدي في حوش منزلته ، وجاء بالفقيه على أبو الغيث الفروي - من دير عطاء حيث شمس الشموس أبو الغيث بن جميل رضي الله عنه - ليقوم بتحفيظنا القرآن وتعليمنا القراءة والكتابة والحساب ومبادىء الفقه .. كنا نناديه سيدنا .. وكان رجلاً صالحاً نقياً مباركاً لم أر حتى اليوم أحداً يتصف بصفاته.
 

لكني لسبب مّا نفرت من الدراسة .. اخترعت كذبة ظلت موضع تندر بين الأهل لزمن طويل ، زعمت أن سيدنا قد رخصني حتى موسم الخريف .. ولم أكن أعرف بالتأكيد ماهو موسم الخريف .. لكن أبي أصر بحزم أن أدخل المعلامة .. استهدى لي جزء عم " كان مكروها أن نقول اشتريت القرآن كنا نقول استهديت" واشترى لي دفتراً وقلماً 
 

وحين عاد من الزاهيب حوالي الساعة الثامنة كي يزود الشقاة .. مر بالمعلامة فعرف أني لم أذهب إليها ... رفس حماره الأبيض صارخاً : يانه علوان ... 
قالت أمي " في امعلامة ..

 

قال بغضب : لا ليس في المعلامة ، أين هرب النجس .. لابد له اليوم من ديم 
بالطبع كنت عند جدتي التي ما أن سمعت صراخ أبي حتى قررت أن تخبئني لم يدعها تحكم حيلتها فقد وصل بسرعة ، لم تعرف ماذا تعمل ، رمتني خلف الصلى " الملحة " والتفتت كانت بردعة حمار إلى جانبها فألقتها علي .. ثم خرجت إلى أبي لتقول له بلغة حازمة : لم يأت اليوم عسى ماله ؟
- هرب من المعلامة 
أجابها وهو يجول بعينيه في المكان قبل أن يلكز حماره وينصرف ..
بعد أن تأكدت من ابتعاده أقبلت علي وجسدها كله يهتز من الضحك .. أبعدت عني البردعة وأمسكت بأذني وهي تقول : قم أيها الحمار الصغير خلاص الأمان .
قضيت ذلك اليوم كله عند جدتي لكن أمي أعادتني المغرب إلى البيت واقترحت أن أنام مبكراً كي أتفادى أن يراني أبي مستيقظاً فيضربني ..

 

تكرر السيناريو نفسة ثلاثة أيام أو أربعة وجدتي تغطيني كل مرة بالبردعة لا لانعدام مايمكن أن تغطيني به بل لاستحالة أن يفكر أبي أو غيره أن تحت البردعة طفلاً يختبىء .. حتى فاجأها أبي في اليوم الثالث أو الرابع ..هذه المرة لم يصرخ تحرك بصمت وضبط جدتي وهي تضع البردعة عليّ ، تقدم غاضباً دون أن ينظر إليها ووقفت هي متحفزة بكبرياء عجيب ، لكنه أمسك بأذني وسحبني ثم قفز بخفة على الحمار الأبيض الطويل قبل أن يتناولني ليضعني خلفه وينطلق بي مهمهماً : لوفعلتها ثانية سأجلد ظهرك بمخباط أخضر ...
***
 

وضعني بين يدي سيدنا وقال له : لك اللحم ولي العظم 
أجلسني سيدنا وكتب لي : أ ، ب ، ت ، ث حفظتها على الفور ، زادني ثلاثة أحرف فحفظتها أيضاً ، ظل يزيدني وأحفظ حتى أكملت حروف الهجاء ..
بعد أيام كنت قد حفظت الفاتحة .. ومعها آية الكرسي .. كان حفظي لآية الكرسي غريباً فلم يكن مقرراً حفظها لكني كنت أسمع سيدنا يقرأها كثيراً ضمن أذكاره اليومية .. ولم أكن أعلم أن حفظي لآية الكرسي سيسعد جدتي إلى تلك الدرجة .. كان عمنا علي ماس والد زميلي جيلان يسمر كل ليلة عند جدي وكان محمد سيفاني والد الشاعر أبو صخر يسمر كل ليلة لأنه كان خطيباً لخالتي وكلاهما يقرأ القرآن .. خاصة محمد سيفاني (رحمه الله ) كان يتمتع بصوت يستنزف الدمع من العيون .

 

جدتي من شدة فرحها بحفظي لآية الكرسي كانت تناديني كل ليلة لأسمعهما .. هما ومعهما جدي يدعون لي بفرح ومحبة .. وجدتي تكون قد جهزت المعلوم ربع ريال بحاله ورقة حمراء لا يحلم بالحصول عليها أثخن شاب في القرية .. ويا الله طريق دكان هفن .. كل ليلة حلاوة وبسكوت وشكليت ومليم ..
تتابعت الأيام وانضافت سورة يس إلى آية الكرسي وزاد إغداق جدتي علي تدليلا ومكا فآت حتى ختمت القرآن ..

***
 

كان ختم القرآن يتحول إلى طقوس مبهجة تتعدد دلالاتها ،فهي فرح بحفىظ الفتى لكتاب الله الكريم ، وهي تكريم للفقيه الذي علمه وحفّظه القرآن ، وهي سعادة للناس وشكر لله .. لذلك كان الأساس في الطقوس حفظ قصيدة الشكرانية وهي قصيدة أبدعها الولي الشهير أحمد بن موسى عجيل رضى الله عنه .. وكانت العادة أن ينشد الطالب الخاتم القصيدة أمام كل أسرة من أسر القرية في بيتها .حيث يقف رب الأسرة وربتها ومعهما الأولاد والبنات وزوجات الأولاد والأحفاد إن وجدوا .. هكذا يقف الخاتم في بيوت القرية وخلفه كل زملائه وهم في أحسن هيئة وينشد :
الحمدلله الذي تحمدا .... حمدا كثيرا ليس يحصى أبدا
كلم موسى واصطفى محمدا ... وأنزل القرآن نورا وهدى 
على قلوب العارفين سرمدا...سألت ربي أن يريني أحمدا
في جنة الخلدمقيماً أبدا .... لا خارجا منها ولا منطردا
مع النبيين كذا والشهدا
الحمد لله الكريم المنعم .. حمداً كثيراً ليس يحصى بالفم 
علمنا القرآن بالتعلم ... وخصنا بالهاشمي الأكرم 
وبالصفا وزمزم ... وبيته المشرف المعظم
ياسيدي إنا بنوك فاعلمي ..جئنا إليك بالمسير نرتمي 
نسابق الخيل بوادي الأهيم ... نريد منك رفعة المعلم 
وكل ما يرضيه حتى نغنم خمسون ديناراً والف درهم 
لا نبرح الباب ولو دعانا .... ولو كسانا حللاً ألوانا
الخ القصيدة 

 

التي ينتهي إلقاؤها بمال يدس في جيوب الطالب أو كيلات من الذرة أوالدخن تصب في آجاب يحملها زملاؤه الأكبر سناً
جاب موكب ختمي المترع بالفرح بيوت القرية كلها حتى وصلنا إلى آخر بيت وهو بيت جدتي 
وقد وصلناه بأربعة جاب ملأى وعدد وافر من البقش والأرباع والأنصاص والريالات ..
لكن جدتي التي لم تكن الدنيا تسعها في ذلك اليوم قدمت قدحاً كاملا من الدخن وخمسة ريالات حمراء تسلب الأ لباب .. دفعت بها وفتحت ذراعيها لتأخذني إلى صدرها الذي طالما أسرتني رائحته الطيبة وظللني حنانه الدافق ..

 

 

# االصورة يوم عرسي في الأول من نوفمر 1993م وبجواري جدتي غالية بنت حسن عبدالله الجيلاني ... وقد رحلت في العاشر من نوفمبر 1995م رحمها الله وجعل مسكنها االفردوس الأعلى ،

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً