الاربعاء 27 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
آخر هزائم العطر - مسرة سنان
الساعة 12:46 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


عندما نبدأ بعد هزائمنا العشقية فإننا نرتطم بكيان جاف محترق وآخر أملس شفاف ،
ليس لإننا لا نتقن الحب ، ولكن لأننا نتقن الهروب أكثر، كانت تلك قناعة.
ارتدت سمراء ملاءتها ،سمراء ابنة الخامسة والثلاثين ..
في ليلة تتأبطها الكتابة على طاولة تليق بمن تتقنُ إرهاق الورق وتمزيقها كلما فشلت في كتابة نص أدبي مختلف..
في ليلة كان فيها القمر يرقد على وجه غيمة شاردة :
هزت نوتة مميزة سنابل سمعها الشفاف،
تتأبط الصمت ، ثمة رعشة تغترب مابين أسئلةٍ وحيرة ..
في قلق النافذة الزرقاء ،ثمةَ وحي يتسرب كقطرات ماء تبحث عن غصن أو ورقة ،أو بقعة صغيرة لتبدأ رحلة حيوات كثيرة بدءاً من العدم حتى الخلق الكامل ...
-عـمـتِ مـسـاء أيـتـها 
"الشـاعــرة "..
برعشة خفيفة تشبه ارتطام الورق بالأرض 
اهتز هاتفها المحمول .
ارتبكت "الشاعرة" ودلفت إلى النافذة الزرقاء 
لترى ذلك الذي داهمها كغيمة باردة ..
عندما بدأت أصابعها تتراقص على غواية الكيبورد ، التهمتها حيرة وتساءلت في نفسها :
ماذا عساها ترد ، أترد بنفس تلك الكلمة التي بدأها بها ، ؟
أم أن بإمكانها أن تعيد ترتيب تلك الحروف 
وتشكل منها جملةً مختلفة ..
كتبت "سمراء " :
-أيها الشاعر ، عمت مساءً..
بعد انتهائها من كتابةِ تلك العبارة ، وجدت أنها قد أعادت إليه جملته تلك ، فلم تكن أصابعها سوى رسول لما كان يوحيه عقلها المأسور برجل افتراضي عبق عطره عبر النافذة الزرقاء الافتراضية ، ليشكل بجملته تلك عالماً أخضر من الصمت الشفيف ..
باستعجال حثيث أرسلت إليه :
-من أنت أيها المبلل 
بعطر الحروف؟.
كأنه كان ينتظر ؟ وهو بالفعل كذلك ..
الإشارة الخضراء بدت لعينيها الذابلتين كأنها طرقات من شجن وأحلام اختبأت خلف صبر ملبد..
هي لا تتقنُ سوى الكتابة ، وهو لا يتقن غير التسرب الدافئ عبر مسامات فراغها ليستقر قصيدة مشتعلة..
يرتدي اللغة بجاذبية و يرد:
-أنا الذي كلما قرأكِ اشتعلت أصابعه شمعاً..
أردف:
-أنا "رحمان" ، ياغيمة..
قالت له بعد شيء من الصمت :
-أنا لستُ غيمة أنا امرأة غادرت مدائن
صبرها وبقيت قيد الرماد .
ساد صمت كثيف وعم السكون ، في حين أن سمراء كانت تتحسسُ شفتيها ؛ دلفت من بعيد قبلة حائرة واختصرت المسافات واستقرت في قلبها الطفل ..
أثناء ذلك ، رن هاتفها المحمول مصدراً ترددات هادئة ،تساقطت كأوراق ربيعية ،وكأنها كانت تعترف للسماء بأنها غير قادرة على الفكاك ..
شعرت بارتباكٍ فلم تكن تريد أن تنقطع عن "رحمان " وفي نفس الوقت كان ذلك المتصل يلح
بشدة ..
تنظرُ بمعق إلى شاشة جوالها لترى اسمه مرسوماً كنوتات عبرت وتراً وأضرمت فيه الدهشة..
تفتح المكالمة، وبها فتحت لقلبها نافذة أرجوانية 
تدخل عبرها الشموس والرياح الباردة وروائح الزهور المٰعلقة في الهواء.. 
فتحت المكالمة لينفتح معها ألف ثقب وباب
فللقدر سطوته وللأ سباب حكمتها ..
تجيب بصوتٍ خافت :
-نعم ؟
يندلع صوته كالنار في أعماقها :
-صوتكِ حديقة وأنفاس 
ارتباككِ شلال..
قالت:
-يبدو أنني سأكون قصيدتكَ القادمة ..
-لا..أنتِ القصيدة الأشهى ..
ثم أردف بعد عطر من الصمت :
-لِمَ لا يرتب لنا القدر لقاءاً لائقاً.؟
فجأةً انقطع الاتصال قبل أن يسمع رحمان جوابها ، حاولت معاودة الاتصال ولكنها لم تنجح ، كانت الإشارة الخضراء قد اختفت والنافذة الفيسبوكية قد بهت لونها الأزرق ..
شعرت "سمراء "بأن الخيبة تلقي عليها حبائلها مجدداً ، ،بعدما كانت قد أفردت جناحين من بياض وبدأت رحلة الحرية ...
مر أسبوع على تلك المحادثة"ورحمان" لم يبزغ .
كانت ساعات الانتظار طويلة ومتشعبة ومليئة باليباس ؛تراقب بحنين بداية الشروق ..
فكرت كثيراً في أن تترك له رسالة معلقة 
تحكي له فيها عما كانت تشعره معه وهو يخترق مسامات العالم الافتراضي ويلتصق بها كعطر..
الساعة الخامسة مساءاً من كل يوم تنتظره على قارعةِ "الفيس بوك "ولكنه لم يكن ليأتِ..
تجمدت ألارصفة ذلك العالم الأزرق وهي تحدق بكل ما أوتيت من مشاعر نحو ذلك السكون الذي عم صفحته الشخصية .. 
بدأت تخالجها فكرة أغلاق حسابها "الفيسبوكي" 
والتفرغ لكتابة مجموعة شعرية جديدة ..
ولكنها قبل ذلك قررت أن تكتب رسالة وتودعها بريده رسائله المهجور منذ أكثر من شهر.. 
فتحت جهاز الكمبيوتر ، شعرت بأنها تفتح
جرحاً غائراً منذ سنوات ، أيقظه القدر .
بحنق ترمقُ لوحة المفاتيح كأنها ستبدأ رحلة من الكلمات الحارقة والمنفعلة..
تنفست بعمق وبدأت رحلة التشظي ،كتبت إليه:
-رحمان: إنه إسمٌ محموم ، مورق ، ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه العذاب الحقيقي .
تفاءلت ُ عندما أتيت كغيمة تتبتل إطلالة ﻣﻮﺍﺳﻤﻲ الشاحبة ، وتوقظ موت قلبي الذي أماتته تجاربه القديمة التي أحالتني إلى جثة من كلمات تترصد صفحات التواصل الاجتماعي .
أين أنت ؟ سؤالٌ أسأله لنفسي كل لحظة ،
مالذي جعلك تأتي ومالذي جعلك تختفي ..
كنت بعقلية العاشقة سأخلعُ عقلي وأتركه جانباً 
لكي ألحق بركب جنوني بك..
ليت بوسعي أن أنجب قصيدة تليق بما أشعر به منذ اختفيت ..
لكني يارحمان أزعم أني قد أتلفت كل أوراقي 
وبدأت موسم الاحتراق .
عندما تقرأ رسالتي أكون حينها قد شطبتُ اسمك من ذاكرتي المتفلتة ، كي أتفرغ وأعد هزائم علاقاتي الافتراضية الكثيرة التي غالباً ماتنتهي كأنها لم تبدأ وهاأنا أضيف أخر هزيمة للعطر إلى خيبات عمري الكثيرة ....
"سمراء..."
بعد أرسالها للرسالة ، اعتنقت دين الصبر وأرتدت صمتها الطويل .
أغلقت كل حساباتها على صفحات التواصل الاجتماعي بعدما تطاير الأمل من قلبها كفراشات هاربة من موت مؤكد ..
و ذهبت لفراشها ،تتقلبُ على جمر حزن لفها من كل جانب ،واخترقت حرارته كل عروقها لتنضح ألماً قاتما ... 
أسبوعان مرّا وكأنهما قرون محنطة في قلب سمراء الغض..
كانت بمثابة إيمان مطلق بأنها لن تكون كما تريد مجدداً..
ذات صباح مليء بالصمت ورائحة الارض التي داعبتها خيوط الشمس حتى احترق التراب 
وتيبس بعدما فاح .
رن جرسُ هاتفها المحمول ، نهضت ببطء نحو درج خزانتها لتجيب ..
-أين أنتِ ياوردة المدينة ؟ 
لدينا لقاءٌ يجمع نخبة من شعراء المدينة 
ننتظرك ....
كانت "صباح"تتحدث بلهفة مفرطة فيما سمراء ترتدي الصمت وعلى ملامحها هالة كثيفة من أسئلة تتردد ، كأنها غمغمات يصدرها حنين دفين في عمقها...
-نعم سوف أحضر ..
أغلقت بعد ذلك هاتفها ورمت به على سريرها 
الذي كان يشبه عش عصفورٍ غادره الأمان ..
باتت تتقن جيداً تقمص فصاحة الأوراق ،
وكأنها تنكتب بلا إرادة قصيدة مرادفة لسكرة عشق خرساء..
ارتدت عبائتها وبحركة بطيئة رشت عطرها الياسميني الذي بدوره يدرك تماماً أين سيستقر.
ثم تزحلقت نحو الخارج متجهةً إلى المركز الثقافي الذي يقع في وسط المدينة ..
المدينة التي داهمها الخريف وأصابها الجمود 
هكذا كانت تنظرُ لكل شيء حولها ...
في أحايين كثيرة قد ينصب لنا الحب فخاخاً نقع في عمق أحدها ، وفي نفس الوقت قد يهيء لنا القدر أسباباً نلتقي من خلالها بمن كنا قد أمنا أننا فقدناهم..
هي كشاعرة ،عندما تسير على الرصيف الأخرس
فإنها تسمعه حين يزجر خطواتها الرتيبة .
تسرح بعينيها اللتانِ لا يفهمها سوى الصمت 
في كل اتجاه..
كأن حفيف الأشجار الطويلة بسلماً بارداً يقع على جرح قلبها النازف ..
وأي بلسم قد يشفي جرح قلب أعطبته التجارب الفاشلة ؟..
من بعيد تلمحُ رجلاً يرتدي بذلة أنيقة ونظارة سوداء ، ويبدو من هيأته أنه رجلٌ يهتم بالأدب والشعر ..
كان ترى الأشياء و الأشخاص بعين قلبها وعين ماتعشقه من أدب .
كان يتأبط رزمة من أوراق ، متجهاً بخفة نحو بوابة المركز الثقافي ..
هو الحب إذاً من يجعلنا نرى أشخاص لا وجود لهم أمامنا ..
ثمةَ شعور داهمها توقفت في منتصف الطريق 
تسأل نفسها :
-كأني رأيته من قبل ، أين .. ؟
لم تجد سوى حيرة تسربت من ثقوب سؤالٍ لا يعترف بواقعية إجابة ..
واصلت المسير حتى وصلت إلى المدخل المؤدي لقاعة الاحتفالات الكبيرة .
كانت مساحتها تضيق كلما اقتربت منها وأنغمست فيها أكثر .
تكبر الأشياء في أعيننا ثم إذا اقتربنا منها 
إمّا أنها تبقى كبيرة كما هي ؛أو تصغر حتى تختفي...
دلفت ببطء ، فلم تكن تريد حضور ذلك المهرجان 
لكنها كانت تشعر بقتامة الوقت وثقله على نفسها.
كان المكان مزدحماً بالحضور ، المصورون يأخذون مواقعهم والشعراء المشاركون اعتلو المنصة وينتظرون شارة البدء.
الأصوات متداخلة في بعضها ،وثمةَ حركة غير منظمة وأصوات صاخبة لا تليق بما كتب على اللافتات في مقدمة المنصة ..
الشمس قد تحجبها الغيوم الكثيرة ، لكن الحقائق 
لا يحجبها سوى قلب لا يريد أن يعترف بها .
هكذا كتبت سمراء مقدمة حديثها الذي كانت 
تجهزه لكي تعتلي منصة المشاركة ..
في لحظات عم الصمت المكان ، وعم السكون القاعة ..
ثمةَ صوتٌ شق أسماع المتواجدين وهو يقول :
-نحن لا ندرك كيف ستكون 
نهاية تجاربنا ، 
ولكنا ندرك أين تكمن 
خطايانا ..
انتفضت سمراء واقفة وكأن ذلك الصوت أشعل في قلبها شاسعاتِ من يباس ، ترتجف وهي تسمع تلك الكلمات وذلك الصوت الذي لم يكن بغريب عنها .
تظن بأنها هلوسات عاشقة أنغرز خنجر الفقد في جوفها فأحالها إلى دمية خرساء
بلا روح ..
تقترب ببطء من المنصة ، عيناها أشبه بعصافير غادرت أعشاشها في ليلة ماطرة ..
بعيون قلبها رأته من بعيد ، وهو يحمل رزمة الأوراق ،يقلبها استعداداً لإلقاء كلمة أخرى ..
-ليست مصادفةإذن؟.
هكذا تمتمت شفتاها وهي متسمرة في منتصف القاعة كجذع أطاحت به الريح من علو .
تداهمها "صباح" تأخذ بكفها وتذهب بها لاعتلاء المنصة .
تتابع الاحداث في ذاكرتها المشتعلة ، جعلها غير قادرة على تفسير ماتراه أمامها ..
لم تكن لسمراء المقدرة على الكلام ولم تستطع الفكاك من قبضة صديقتها ..
تصعد سمراء ببطء سلم المنصة لتقف جوار الشعراء الحاضرين .
كانت ذراعها متفالتتين كعسفٍ نخيل تطوحه الرياح يمنةً ويسرةً ؛
كغابة مجدبة وهي تحتفل بمراسم استقبال وابلٍ من الجفاف الطويل ...
يالتك الصدفة ، التي جمعتهما في مكان لم يكن في خاطر أحدٍ منهما، هناك اجتمعت طقوس تجربة وحفل هروب أنيق ..
التقت عيون "سمراء "بعيون "رحمان "
لكنه لم يكن لقاء العاشقين الذين رتب لهما القدر صدفته ، وإنما كان لقاء اثنين لم يسعفهما الصبر لإكمال ما كانا قد بدآه من إشعال شمس أحلام ، رهينة نافذة زرقاء ..

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص