الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
أغنية أو الموت .. حكاية أو الموت - مسعود عمشوش
الساعة 07:02 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



في (الأوديسة (، تمكـّن أوليس، أثناء مغامراته في البحر المتوسط، من النجاة من سحر غناء الحوريات، عرائس البحر [les Sirenes]، حينما اقترب من صخرتهن. وهو البحار/المخلوق البشري الوحيد الذي سمع غناءهن ولم يقع في غوايتهن ويموت. ويحكي الشاعر المنشد الراوي هوميروس، وفق ما جاء في الأسطورة، أن الساحرة كيركي حذّرت أوليس من المخاطر التي سيواجهها، -مثل أي بحار- في البحر، قائلة له: "أولا، ستلتقي بالحوريات اللواتي سحرن كل بحار اقترب منهن. إذا اقترب أي شخص من أي واحدة منهن، وسمع غناءها، فإن زوجته وأولاده لن ترحب به ثانية أبدا، لأن الحوريات ستجلس في حقل أخضر وتغني على عظام الرجل الميت من حولها". وقد نجح أوليس في حماية نفسه والبحارة المرافقين له من سحر غناء الحوريات بأن وضع في آذانهم شمع النحل، وعندما أراد أن يسمع غناءها بمفرده ربط نفسه بالصارية حتى ابتعد عن المكان الذي تقطنه الحوريات، ولذلك غضبت الحوريات كثيرا لأنهن فشلن في الإيقاع بأوليس .. وانتحرن. إما أقتلك أو أقتل نفسي.
 

وفي منتصف القرن الماضي أعجب الروائي التشيكي فرانز كافكا بأسطورة الحوريات ووظفها في صياغة جديدة في قصته القصيرة (صَمْت الحوريات)، التي يحكي فيها أن الحوريات، في الحقيقة توقفن عن الغناء وصمتن عندما رأين أوليس بوجهه البريء وقد أبقى أذنيه مسدودتين بالشمع، لكن (صَمْت الحوريات) كان سلاحا قاتلا أكثر من الغناء، فأوليس لم يعرف أن الحوريات كنّ صامتات عند مروره أمامهن، وكان حرمانه من السماع أشد وقعا عليه. 
 

ويتناول الناقد تزيفتان تودوروف في كتابه (شعرية النثر) السرد في أوديسة هوميروس قبل أن يتحدث عن السرد في (ألف ليلة وليلة). وفي سياق حديثه عن الأوديسة، يكتب: "يبلغ الكلام المسرود أعلى درجات السمو [sublimation] في غناء الحوريات [عرائس البحر les sirenes]، فللحوريات أجمل الأصوات، وغناؤهن هو الأعذب، ولا يختلف كثيرا عن غناء الشعراء المنشدين. وما دام الشاعر المنشد يغني فليس بمقدور أي إنسان إلا الإصغاء له، دوما. وليس بمقدور أحد مغادرة الشاعر وهو ينشد، والحوريات مثل المنشد لا يتوقفن عن الغناء. إذن فغناء الحوريات يعد درجة سامية من درجات الشعر الملحمي. والسرد. ولنتذكر، بشكل خاص الوصف الذي أطلقه عليهم أوليس: عمّ يتحدث هذا الغناء الذي لا يقاوم؟ هذا الغناء الذي يفني البشر الذين يستمعون إليه من فرط عظمة جاذبيته؟
 

إنه الغناء البلسم. والحوريات لا يقلن إلا شيئا واحدا: إنهم مستغرقات في الغنا! "تعال تعال إلينا يا أوليس المبجل، يا شرف بلاد أكاثيا. كف عن الترحال، وتعال اسمع شدونا! ما من سفينة سارت بالقرب من صخرتنا قط إلا وأصغت للأغاني إلى تنبجس من بين شفاهنا.. أجمل الكلام هو الكلام الذي يقال. وفي الآن ذاته هو كلام سام وعنيف جدا. لأنه يقتل. فكل من يصغ إلى غناء الحوريات لا يمكنه أن يبقى حيا: الغناء يعني الحياة والاستماع يساوي الموت.
 

ووفق ما جاء في بعض شروحات الأوديسةك قمن الحوريات برمي أنفسن من أعلى الصخور كمدا حينما مرّ أوليس بهن ولم يستمع لغنائهن. فالغناء يعني الموت إذا فرّ منه من يصغي إليه. غياب القارئ/المستمع/المتلقي يعني تغييب الكاتب/الشاعر المنشد/الراوي. فالحوريات إما يذهبن بحياة من يستمع لهن أو فقد هن حياتهن".. ولو لم يهرب أوليس من غواية غناء الحوريات، وفقد حياته عند صخرتهن لما عرفنا نحن غناءهن، فكل أولئك الذين سمعوه ماتوا به، ولو يتمكنوا من نقله. وأوليس الذي وضع الشمع في أذنيه كيلا يسمع غناءهن منعهن من الحياة ومنحهن الخلود.... بوساطة هوميروس.
 

وعند الحديث السرد في (ألف ليلة وليلة) كتب تودوروف: "تتلقى عملية السرد في الحكايات العربية تأويلا لا يدع مجالا للشك من حيث أهميته؛ فإذا كانت الشخصيات كلها لا تكف عن سرد القصص، فذلك لأن هذا الفعل تم إكسابه مستوى ساميا: الحكي يعادل الحياة. والمثال الأكثر جلاءً هو مثال شهرزاد نفسها التي تعيش فقط في حالة إن هي استطاعت مواصلة سرد القصص. وهذا الوضع يتكرر باستمرار داخل هذه الحكاية الإطارية، وقد نال الدرويش سخط العفريت لكنه نال العفو بعد أن روى له حكاية الحسود، واقترف العبد جريمة واضطر سيده أن يحكي قصة للخليفة لينقذ حياته بها وقد حذره الخليفة: إذا ما حكيت لي قصة أغرب من هذه سوف أعفو عن عبدك وإلا فسآمر بقتله....
 

ويقول تودوروف: "إذن السرد يساوي الحياة وغيابه يساوي الموت. لو لم تجد شهرزاد المزيد من الحكايات لأعدمت. صرخة ألف ليلة وليلة ليست: محفظة نقودك أو الموت، بل: حكاية أو الموت".

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً