الاربعاء 27 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
شرود - مصطفى لغتيري
الساعة 14:56 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


من الكتاب القصصي  "سحر المساء"دار النايا سوريا  2014

- لا أطيق عليك صبرا. 
قالت ذلك وتمددت على السرير.قميصها الشفاف التصق بجسدها، فأبرز تفاصيله، بدا الثديان مكورين، على رأسيهما حبتان بارزتان. شعرها انساب على الوسادة، فيما نفرت بعض خصلاته، فحجبت جزءا من وجهها.. حائرا كان يرمقها، ولا يحير جوابا. مسح جسدها الساجي بعينيه المتعبتين، ثم قال وذهنه لا يستقر على حال:
- لن تطول غيبتي كثيرا.
الضوء المتسرب من شقوق النافذة رسم خطوطا متعرجة على السرير، فانطبعت على الجسد السادر فوقه، ترنحت متباطئة، تثاءبت، ودون أن تنظر إليه انسابت كلمتها يمازجها دلال خفر:
- ألا يمكن أن تؤجل السفر؟
انهمك في ترتيب أزرار قميصه. عيناه تجولان في أرجاء الغرفة.. الضوء الخافت ألقى ظلالا كئيبة على الجدران . تعلق بصره بلوحة أعلى السرير، حفظ تفاصيلها عن ظهر قلب: شلال تتساقط مياهه في رحاب خضرة كثيفة.. برقت في ذهنه فكرة أن تكون الصورة غير حقيقية، لكنه سرعان ما تجاهلها وتشاغل بإدخال قميصه في سرواله، رد عليها:
- تعلمين أنه لا مجال للتأجيل. الأمر مستعجل وملح.
تثاءبت وهي تمدد أطرافها. فكرت للحظة أن سفره كثر في الشهور الأخيرة. لم تر يوما أن من حقها أن تحسب علي خطواته، ثقتها في سلوكه لا يتسرب الشك إليها. ما يؤلمها حقا شروده الدائم " ترى ماذا وراء هذا الشرود؟" جال السؤال في خاطرها. كتمته و هي تتمطط على السرير، وفجأة راودتها فكرة لم تملك منها فكاكا:
- هل يمكن أن أرافقك؟
أذهله الاقتراح. بدا الارتباك على ملامحه ، لكنه تدارك الأمر بسرعة. رسم على شفتيه ابتسامة لا معنى لها، ودون أن ينظر إليها أجابها:
- السفر متعب، والأمر لا يستحق. هما يومان فقط.
لفظ الكلمات، وفي ذهنه ترتاع بعض الشكوك " أيمكن أن ترتاب في سلوكي؟". حاول جاهدا طرد هذا الهاجس من ذهنه. عمد إلى حذائه. أسرع في ربط خيوطه، وكأنه أحس أن الأمر قد يتطور إلى ما لا يرغب فيه.
رد فعله ضاعف من توجسها. فكرت أنها لو أصرت على مرافقته، فلن يذعن لها، وربما كان ذلك بداية شقاق بينهما. أخذت تعبث ببعض خصلات شعرها، وبين حين وآخر تفرك عينيها. استحضرت في لحظات أياما سعيدة عاشتها معه . لم يكن يقوى على فراقها يوما واحدا . كلما عزم على السفر يستنفرها لإعداد نفسها. كثيرا ما كانت تتمنع، بيد أنها أمام إصراره تستجيب. مرات عدة أخبرها بالسفر فقط قبيل ساعة واحدة من موعده. كان ذلك يربكها، فتتخلى عن كثير مما تحب أن تحمله معها خلال السفر، ورغم احتجاجها إلا أن انتشاء عظيما كان يعتريها. يبدو ذلك من بريق عينيها ولكنتها التي يصيبها بعض التهدج، بسبب فرحها المفاجئ. ألقت نظرة عليه وهو يأخذ من خزانة الملابس قميصا. لاحظت أنه يتجنب طلب مساعدتها لإعداد لوازم السفر. شيء من الألم طفق ينبث في مكان ما من قلبها.. قاومت إحساسها سألته:
- هل تأكدت من أوراقك؟
أحس بمدى رغبتها في الغوص في أعماقه : التمس العذر لها. وإرضاء لها أخرج حافظته، وطريقة استعراضية فحص أوراقه، ثم أجابها و في نبرته امتنان لاهتمامها:
- كل شيء على ما يرام.
اختلست إليه نظرة متفحصة. بدا لها مهتما بمظهره أكثر من اللازم. لجمت في أعماقها زفرة حرى، كانت على وشك أن تصرخ أو تقتلع شعرها من جذوره، خاصة حين حمل حقيبته الصغيرة. دلف نحوها بخطوات عجلى .انحنى عليها. كان يود تقبيلها في ثغرها كما اعتاد كلما ودعها. مالت برأسها فواجهته وجنتها. طبع عليها لثمة خفيفة، ثم استدار نحو الباب. شيعته بنظرات معاتبة، وقبل أن يختفي جسده، التفت نحوها قائلا:
- اهتمي بنفسك. لن أتأخر.
لم ترد بكلمة، وحين سمعت باب البيت يوصد، دفنت وجهها في الوسادة، ونشجت ببكاء متقطع وصوت مكتوم.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص