الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الترجمة عن لغة وسيطة - أ.د. مسعود عمشوش
الساعة 14:56 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



يمكن تعريف الترجمة عن لغة وسيطة (أو غير المباشرة) بأنها ترجمة لترجمة، مثل تلك الترجمة العربية التي قام بها بشير محمد خان من اللغة الإنجليزية لكتاب (عدن العربية) للروائي والفيلسوف الفرنسي بول نيزان.* وهي ظاهرة لا تزال تمارس اليوم في معظم اللغات، لارتباطها بالتبادلات بين الثقافات والأمم منذ القدم، لا سيما تلك التبادلات التي نشأت بين مجتمعات لغوية متباعدة جغرافيا وثقافيا أو زمانيا. ويمكن أن نذكـّر أن ابن المقفع، مثلا، ترجم إلى العربية (حكايات كليلة ودمنة)، هندية الأصل، عبر اللغة الفارسية القديمة، وأن الروس ترجموا (ألف ليلة وليلة) أولا عبر الترجمة الفرنسية التي قام بها أنطوان جالان من العربية بين 1711 و1717، ثم نقلوها عن الترجمة الإنجليزية التي أنجزها إدوارد وليام لين من 1838 إلى 1840. 
 

ولا شك أن الترجمة عن اللغات الوسيطة، بدلا من اللغات الأصلية التي يتعذر الترجمة المباشرة منها، كانت في بعض السياقات التاريخية مهمة للغاية، إذ أنها أصبحت شرطا للوصول للمعرفة والنهوض الحضاري. فالأوربيون، على سبيل المثال، في بداية نهضتهم في القرن الخامس عشر الميلادي، أطلعوا على كتاب (فن الشعر) لأرسطو، عبر ترجمته العربية قبل أن يعثروا على أصله اليوناني وترجمته اللاتينية. وكذلك نحن العرب لم نكن لنستطيع على الأرجح قراءة النصوص اليابانية لياسوناري كاواباتا (الحائز على جائزة نوبل)، أو لليابانية هاروكي موراكامي لولا أن هناك من سارع إلى ترجمتها إلى العربية عبر ترجماتها الإنجليزية. وفي السبعينيات لم يكن ممكنا قراءة الأعمال الكاملة لكل من تولستوي ودوستويفسكي لولا قيام سامي الدروبي بترجمتها عن اللغة الفرنسية، وكذلك الحال بالنسبة لعدد كبير من الأعمال الهندية والباكستانية المكتوبة باللغة الأردية أو غيرها من لغات الهند وباكستان.
 

وقد انتشرت الترجمات عبر اللغات الوسيطة في معظم بلدان العالم الثالث بشكل خاص. وفي اللغة العربية تركزت الظاهرة في ترجمة نصوص ذات أصل روسي أو فارسي أو تركي أو ياباني، وذلك عبر اللغة الإنجليزية أو اللغة الفرنسية في معظم الحالات. وفي الحقيقة لا تزال هاتان اللغتان (الإنجليزية أو الفرنسية) تقومان بدور مهم في عملية الترجمة غير المباشرة، لأنهما ظلتا تهيمنان بثقافتيهما على المنطقة العربية. 
 

واليوم عملت المنظمات الدولية على ترسيخ مكانة اللغة الإنجليزية، التي أصبحت اللغة الأولى أيضا في مجالات الاتصالات الدولية. وقام محرك البحث (جوجل) بالمهمة نفسها حينما جعل من الإنجليزية (اللغة المحورية) التي تمر عبرها معظم ترجماته الآلية.
 

وتبين الإحصائيات أن نحو 90% من ترجماتنا إلى اللغة العربية تتم عبر إحدى هاتين اللغتين: الإنجليزية والفرنسية، وذلك على الرغم من أن عدداً من المؤسسات الثقافية العربية تقوم بتشجيع المترجمين العرب على القيام بالترجمة من اللغات الأصلية للنصوص. هذا ما قامت به مثلا مؤسسة (عالم الفكر) الكويتية، ووزارة الثقافة السورية، و(المجمع الثقافي) في أبوظبي، و(المنظمة العربية للترجمة) في بيروت، و(المشروع القومي للترجمة) في مصر.
 

وفي عدن مارس كثير الأدباء والكتاب الترجمة عبر اللغة الإنجليزية التي ظلت تتبوأ المكانة الأولى في عدن طوال فترة الاستعمار البريطاني 1839-1967. مثلا قام عبدالله فاضل فارع بترجمة بعض رباعيا الخيام وأبيات من شعر الهايكو اليابانية وكذلك بعض النصوص السياسية الروسية، عبر اللغة الإنجليزية، وفعل مثله محمد بشير خان، وكذلك الشاعر شوقي شفيق الذي ترجم بعض القصائد الباكستانية عبر اللغة الإنجليزية. وفي عدن قليل هم القادرون على الترجمة المباشرة من اللغات غير الإنجليزية، يمكن أن نذكر منهم: أ.د. أحمد علي الهمداني وأ.د. علي صالح الخلاقي اللذين يترجمان من اللغة الروسية، وأ.د. مسعود عمشوش الذي يترجم من اللغة الفرنسية.
 

ومن اللافت أن كثيرا من الكتب التي ألفها أجانب عن اليمن بلغات غير الإنجليزية تم في الغالب ترجمتها عبر اللغة الإنجليزية حتى من قبل المترجمين الشوام، وعلى رأسهم خيري حمادي الذي نقل من الإنجليزية إلى العربية (اليمن من الباب الخلفي) الذي وضعه مؤلفه هانز هيلفيرتيس باللغة الألمانية، وكتاب (سنوات في اليمن وحضرموت) التي ألفته الطبيبة الألمانية إيفا هوك باللغة الألمانية أيضا. وقام أ. د. حميد العواضي بترجمة عدد من النصوص اللاتينية واليونانية عن اليمن عبر اللغة الفرنسية، وضمنها كتابه (اليمن في المصادر القديمة).
 

الترجمة الوسيطة في الميزان:
يُعد نقد الترجمة عن اللغة الوسيطة من أصعب أنواع النقد الترجمي، لأنه يحتم على الناقد الذي يمارسه إتقان اللغات الثلاث التي تتم بينها الترجمة. وهذا أمر ليس واسع الانتشار على الأقل في بلادنا. وهناك كثير من النقاد الذين يربطون الترجمة غير المباشرة بكثير من الدلالات السلبية، ويرون أنها لا يمكن أن تكون إلا "نسخة سيئة من نسخة منقولة"، ويقترحون ألا تستخدم الترجمة "إلا عند الضرورة القصوى". وبالمقابل، هناك من يرى أن اللجوء إلى الترجمة غير المباشرة يمكن أن يؤدي أيضا إلى نتائج إيجابية. فلو لم تمارس الترجمة غير المباشرة، لظلت كثير من المعارف العلمية والأعمال الأدبية من الثقافات الهامشية أو البعيدة مجهولة في كثير من اللغات. 
 

ومن أهم القضايا التي ينبغي التصدي لها عند دراسة الترجمة عبر لغة وسيطة: غياب التكافؤ بين النص الأصل والترجمة الثانية، وسبق إن ذكرنا في مقال سابق عن مبدأ التكافؤ في الترجمة أن المترجم يسعى إلى أن يولّد نصُّه لدى قارئه رد الفعل نفسه الذي يولده النص الأصل لدى قارئه، وإذا سعى المترجم الثاني إلى إيجاد تكافؤ ما فلن يكون مرجعه إلا النص المترجم وليس النص الأصل. وها يعني ضياع (روح النص الأصلي) وتبعثرها بين نصين مترجمين، ومن الطبيعي أن تختلف دلالاتهما بسبب اختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية واللغوية والسياسية لكل منهما. (انظر مقالنا: من مبادئ النقد الترجمي، التكافؤ)
 

وترتبط بهذه القضية مسألة أخرى أكثر خطورة؛ وهي قضية المحمول الايديولوجي الذي ينطلق منه كل من المترجم الأول والمترجم الثاني، وفقا للسياق السياسي الذي يعيش فيه. ويمكن أن نشير هنا إلى أن قيام بشيرمحمد خان لكتاب بول نيزان (عدن العربية) الذي يحتوي على نقد لاذع وساخر للنظام الرأسمالي، ويجعل من عدن في عام 1927 "صورة مكثفة لأوروبا"، كان بتشجيع من النظام اليساري الذي كان يحكم في عدن في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. 
 

ويرى المترجم جابر عصفور أن "التجارب أظهرت أن عملية الترجمة على سبيل الإفراد، أو على سبيل الجمع، ليست عملية بريئة، أو شفافة، خالية من الفعل الإيديولوجي أو الهدف السياسي أو الاجتماعي، وإنما هي عملية منطوية على دوافع تدفع بها في هذا الاتجاه أو ذاك... وأتصور أن سياقات الهيمنة المعاصرة وآلياتها هي المسؤولة عن الانتشار المتزايد أخيرا للغة الإنكليزية التي أصبحت لغة العولمة بامتياز، وتحولت إلى لغة كونية بواسطة الإنترنت وغيره من تقنيات الاتصال التي أدت إلى تحويل العالم إلى قرية كونية صغيرة بحسب التعبير الشهير الذي صاغه أحد منظِّري العولمة". لهذا يرى جابر عصفور أن "الترجمة المباشرة عن اللغة الأصلية بلا وسائط هي الترجمة السليمة التي تحقق المنفعة المعرفية الخالصة من شوائب الإيديولوجية من ناحية، ومن رواسب الآثار الشخصية للمترجم الذي نقل من الأصل مباشرة إلى اللغة الوسيطة من ناحية مقابلة". 
 

وهناك من المترجمين من يبرّر الترجمة عن اللغات الوسيطة اليوم. فالشاعر والمترجم المغربي مبارك وسَّاط، الذي يترجم عن الفرنسية، يؤكد مضاهاة الترجمة عن لغة وسيطة للترجمة المباشرة حين يكون المترجم الثاني متكمنا من أدواته الترجمية، ويقول: "قد يُقدّم لنا مترجمٌ ما نصّاً ممتازاً ولصيقاً بالأصل حتّى وإن كانت ترجمه من لغة وسيطة، وذلك في حالات خاصّة تتوافر فيها شروط عِدّة، من بينها إدراك ثاقب لطبيعة مُتَخَيّل الكاتب الذي يُترجِم له، ولخصوصيّات نظرته إلى العالم، ولما يُشكّل تفرّده الأسلوبي، ومعرفة ممتازة بالعربيّة طبعاً، بحيث يستطيع المترجم أن يقدّم لنا نصّاً عربيّاً له على وجه التّقريب المقوّمات التّخييلية والأسلوبيّة نفسها التي للنص في اللغة الوسيطة التي يترجم عنها، حتّى إذا كان هذا الأخير أميناً للأصل، كان النص العربي أيضاً كذلك، أمّا إذا لم تتوافر الشّروط المذكورة، فلن يُقدّم المترجم نصّاً جيداً سواء اشتغل على الأصل مباشرة، أو على نصّ وسيط".
 

ويذهب في الاتجاه نفسه الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم، الذي قام نفسه بترجمة نصوص فرنسية إلى اللغة العربية عبر اللغة الإنجليزية، مبررا ذلك قائلا: "اللغات الأوروبية تتشابه في البنية والتراكيب اللغوية، وحين يُترجم نصّ من الفرنسية إلى الإنكليزية أو سواها، فإنه لا يفقد كثيراً، لكنه يحتاج إلى مقدرة وسطوة بلاغية من مترجم خبير، حتى يصل إلى قرابة من النصّ الأصليّ أو يكاد. المهم في هذه المسألة شيئان: أولهما، ألاّ يقوم على الترجمة مترجم ضعيف، فهو يقدم مصائب لا تُغتفَر في هذه الحالة، وهو ما شاع أخيراً للأسف، وثانيها، أن يكون النصّ أصلاً ذا قيمة، فليس كلّ ما يأتي من الآخر يعني أنّ له قدسية، عليك أن تبذل وعيك في انتقاء النصوص التي ستقوم بترجمتها".
 

وفي الختام نقول: إننا في الوطن العربي لا نزال في مؤخرة البلدان في مجال الترجمة، وعليه فنحن بحاجة كبيرة إلى الترجمة بمختلف أنواعها، حتى إن تمت عن طريق لغة وسيطة. فلولا الترجمات عن اللغات الوسيطة – الإنجليزية والفرنسية - لما كنا قرأنا في لغتنا العربية عيون الأدب الإسباني والياباني والروسي، وتظل الترجمة عن اللغة الأصلية هي الأفضل، طالما كانت ممكنة.
 

* انظر دراستنا عن (بشير محمد خان مترجما)، ودراستنا (صورتان لعدن في كتابات بول نيزان، في كتابنا، صورة اليمن في كتاب الغربيين، دراسات في تمثيل الآخر)، دار جامعة عدن للطباعة والنشر 2010.

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً