الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ثـــــــــــــأر ... بإيقاع العصر
تراكمات حزن لأحلام متعثرة في قصص زليخات يوسف للقاص العراقي علي السباعي - كريم شلال الخفاجي
الساعة 13:45 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


 

إيقاع وجد بخطى صامتة ، وجري هائم وسط صرخات ، وضغوطات عصر وسجن بأغلال التقاليد وسط دهاليز ضيقة مسدودة النهايات ، صرخات غير مجدية وهذيانات مستمرة لكسر أتون مفروضة تقابلها تحديات انسلاخ عن كل ذلك (إنني منتمي إلى الإنسانية / مريم البلقاء / ص6 ) ، خرابات تقابلها انتفاضات ورفض لقيود ألبست عليه قسرا ، ليبوح بوحا راقيا وليخرج بعده خالي الوفاض كما هو حال عنترة بن شداد ليعود بنوقه ولم يجد عبلته . إلا أن " السباعي " وجد نفسه الرافضة ، إلا للقيم والمثل العليا برغم أصوله البدوية التي ترتوي بدماء الثار والقتل ليخرج حاملا حبا (ما تزال أخلاق أبيه ... وقوله : بني لا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا أن الله لايحب كل مختال فخور /مريم البلقاء / ص7 )
من رحم رافض لكل ما تقدم ولدت " زليخات يوسف " الصادرة عن دار الشؤون الثقافية / بغداد / 2005 / بصفحات بلغت " 144 " من الحجم المتوسط ، وبمجموعة قصص بلغت " عشرة " ، حيث تمكن من توظيفه لدلالات تاريخية واجتماعية وسياسية ، وإحالات كثيرة تغني المتلقي ، يزجها ضمن ثنايا نصوصه ، ليثريها بتلك الاحتشادات التاريخية المتماهية مع واقعه ، بأسلوب شعري مكثف ، وبلغة ترتقي لتلك السلسلة اللغوية المدججة بالتورية والرمزية . يرقى بها لواقع تاريخي كان قد غادرنا ، مع إحكام الربط بوشائج تكاد تكون مخفية أحيانا ، بحبكة ومهنية تشير إلى ذلك الغدر والفجيعة أحيانا كما في " وتبقى قطام " ( سأحظى بمهر غال / وتبقى قطام / ص66 ) ـــ أي فجيعة قبالة مهر الخديعة ـــ حيث غرائبيات الخيانة وتهاوي المبادئ ـــ ( سنعيش بذلك محنة اينانا مع الرجال / وتبقى قطام / ص70 ) بعد أن يقول حال لسان المتخاذل  ما أنا إلا خروف يخاف الخروج عن القطيع / وتبقى قطام / ص77) موغلا بروية لتلك الدسائس التي غادرتها بعض القصص ، معريا حقبة تاريخية من خلال حشد صور ودلالات وأحداث مخزونة في اللاوعي( كالوأد.../ وتبقى قطام / ص72 ) في محاولة للسمو عنها إلى عوالم حالمة بالخلاص من الظلم والاستبداد . 

 

ويبقى أسلوب القاص السباعي جاد وملتزم ضمن سياحاته في فضاءات واسعة في محاولات لاستنطاق تلك الموروثات ضمن تقاربات بالاتكاء على رموز ودلالات (قطام / رمز وجب الخيانة... ) في توظيف مخيلته وما يملكه من رصيد معرفي ، لتبقى مجموعته تشع مع الأيام . هذيانات واعية تمكنه من مزج الشعر في قلب القصة ليعشق القصة القصيرة فهو لديه الإمكانية في منح متلقيه فرصة المشاركة والتخيل والتأويل ، فالتفاتاته الميثيولوجية الجميلة لتلك الشخوص المسحوقة والحكايات المتوارثة ليستقي من زفراتهم وآهاتهم زاده المعرفي والثقافي ، حيث غوره العميق فيها ، مثل: ( أبو طبيلة / ص58 ، ياحوتة هدية / ص64 ، الشميطرة / ص112 ، الكنين / 118 ، سنة لوعة ) 
 

أن المناخات السردية تكاد تشترك بثيمة مميزة في مجموعته حيث اللغة المتوالدة، والأفكار الهاربة المتموجة القابلة للتأويل . وان كانت قريبة إلا أنها كالسراب تكاد تمسك بشق الأنفس . إما لغته طيعة تنثال بسخرية لتتناغم وواقع مر عاشه :
( أنفقنا عمرنا في ظل الجب ، بداخله ، نبنيه ، نعليه حتى تطاول بناؤه حول قاماتنا ، آنئذ أمسى لكل واحد منا جبه الذي يقع فيه ، بئره ، سجنه / وتبقى قطام / ص77) ليجلد تلك المواقف الخادعة مستخدما عناوين مثيرة تحفز الذاكرة وتثير الفضول ، فخيوله الهاربة تشير إلى دلالات وإيحاءات .
ومريم ... تشكل خط شروع اخضراره ، بل بوابة أحلامه ، وصراعه المتأرجح بين كفتي : نياق عنترة / إلى وخزات الحب القاتل لجلال الدين الرومي ) الذي لم يزل يحبو إلا إن الأيام أجهضت ثمار وجده واقتضمت لباب حبه ، ولما تزل بعد طرية ليتحول فقدها ، إلى هذيانات مبثوثة في ثنايا نصوصه (... كانت خلاصة حياتي شبيهة بخلاصة حياة زهور حسين ، نصيبها الرقص فقط ! / مريم البلقاء / ص7 ) ، احتجاجات تنفذ بين الفينة والأخرى ، كمعادل موضوعي نتيجة ضغوطات نفسية ، لكنه يسوقها بجرعات صامتة . لقد وظف آهاته صرخات تنوء عنها صورا فنطازية بارعة الدلالة : (آدم يسير شرقا وغربا . خطواته حائرة ، دفعته شمس غروره ، لفه ليل ملغوم بالصمت ، صمت مدن تنتظر المخاض ، وأخرى حبلى باليأس ، شمالا أو جنوبا ، حركاته مذعورة ، جمدتها مدن أدمنت قضم الثلج بأسنان ضاجعها الدم ملهوفا . فابتلعته مدن تستحم بدفء الشمس على شطآن عذراء / وساخات ادم / 56) .

 

يتلمس المتفحص للمجموعة القصصية ، أنفاس مؤلفها الحزينة ، الذي تكمن من تسويقها ببراعة " رموزا وإيحاءات " لما تؤول إليه آهاته ، التي هي ، آهاتنا وحيفنا( المدينة ظمأى تبكي نهرها / عطش ذاكرة نهر / ص119 ) وهو ظمأ للحياة وللقيم وللأخلاق ، حيث هو جفاف وجدب ابلغ منه إلى جفاف لقمة العيش ، وهي صورة رامزة ودالة صارخة ، وهكذا يصل الإحباط والقنوط أوجه عند القاص ، ليهتف ( جئت لأموت . امنحوني قبرا / عطش ذاكرة نهر / ص122 ) وبعد أن يصل اليأس ذروته يستنطق شخوصه " المتسولة " أن يتذرعوا لباب الله أن يمنحنهم الموت هربا من الحياة ( الله يا محسنين قبرا لفقيرة ... !!! / عطش ذاكرة نهر / ص122 ) وهي صورة تفصح عن خواء الأنفس وجدب الهمم التي باتت عاجزة عن تلمس أسباب الحياة . لتمد يديها لله تعالى لمنحها حفرة صماء تلوذ بها . لتغطي سوءتها كما تفعل النعامة .
 

ويسدل ستارة الحزن على مجموعته بسمو يخيم على خاتمته ، يرفع عزاؤه " بكاء غربان " لمدن تنوء بحيفها ، ملونة بالدم ، تفجع ، ونعيب لأمواج متلاطمة في عالم الخوف والفجيعة ، الذي ينتفض من ضعفه بهتاف بائس : لماذا تذبحونا 
وما كان جواب جلاديهم إلا أكثر وطأة وإيلاما : إما كفاكم هابيل ؟ / زليخات يوسف / ص139 ، لتظل تلك الجماجم معانقة لأرصفة البطالة ... تنتظر بزوغ شمس من بطن السماء بعملية قيصرية / زليخات يوسف / ص140 .

 

أن تفرد القاص " السباعي " بزليخاته " ما هي إلا بعث روح في أعجاز نخل خاوية، بل هي صارخات واستغاثات وان كانت لاتصل مسامع الموتى " الجماجم " إلا أنها تصل إلى أبواب السماوات ، أملا بفتح نوافذ الرحمة ، وهي إضافة تنظيرية وقراءة ناضجة بمنظار أنساني لمرحلة كان لابد أن ينفض عنها غبار القنوط ، ويسدل ستارها . وبقدر نجاح القاص في زج ومشاركة أخيلة شخوصه ، وإثارة فضول متلقيه ، إلا أن كشف تناصاته وتسمية مراجعه ، افسد متعة اكتشاف إلية التناص وعمله بالعودة إلى ما يسميه " نقاد التلقي ( ذخيرة القارئ ) ونلاحظ أن بعض هوامشه طويلة ، فقد يضطر قارئه إلى متابعتها في أكثر من صفحة ( ص8 / 9/ 10 ) ، أن إسناد وظيفة مزدوجة لنصه، ما نجم عنه كثرة الاستطرادات والاكراهات اللغوية والدلالية والإيحاءات ، وهو جزء من قلق القاص وخوفه المتأتي من عدم فقدان التواصل مع متلقيه .
 

أن ما سطره الرائع " السباعي " رموزا وإيحاءات ، بليغة ( قطام .. زليخة)، جديرة بان تترجم كتشخيص لمرحلة يباس وجدب للضمائر الخاوية ، التي نامت عند جلاديها آملة الرحمة منها ، وهي لعمري صرخة ويقظة ضمير بارعة لقاص واعد .

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً