الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
التجريب الروائي في (تراي شيزوفرينيا) - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 19:18 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الشيزوفرينيا كلمة إنجليزية تعني حالة من الاضطراب النفسي والانفصام التام والانطواء عن الواقع، وعدم القدرة على تمييزه، وهي هنا جزء من مركب عنوان الرواية الأولى لكاتبها جمال الشعري، ويقينًا أنها بداية متميزة تلفت الانتباه بقوة لكاتب يلج عباب الفن الروائي بمهارة، وستجد هذه الرواية مكانًا متميزًا بين الروايات اليمنية التي صدرت مؤخرًا، بما توفر لها من عناصر تتصل بشعرية خطابها الروائي.
 

في الطبقة النصية الأولى تتناول الرواية أزمة الذات وتشظيها في ظل واقع الحرب المرعب الذي تشهده بلادنا العربية، وبذكاء تتوقف على مشاهد متخيلة لآثار الحرب في اليمن وسوريا على نحو خاص، مشاهد يفتر المتخيل الروائي عن تسريد وقائعها، لأنها أكثر جنونًا وسوريالية من المتخيل نفسه، تسبق فيها المشاهد الواقعية الشيزوفرينية المعاشة حدود عبقرية التخييل في جذبها إلى داخل المتون الروائية، ولأنه لا يمكن أن يقال كل ما يجب قوله عن آثام الحرب وبشاعتها، فما كان أمام الكاتب إلا اجتزاء بعض تفاصيل صغرى دالة إلى داخل الرواية، استطاع من خلالها أن يعمق إحساسنا بمأساوية هذا الواقع الذي من حولنا، وهو بذلك يدعونا لتخيل ما نعيشه واقعًا ملموسًا من جنون هذه الحرب وآثارها العبثية.
 

تحكي الرواية محنة كاتب صحافي يهرب من حكم بالإعدام عليه أصدرته جماعة الحوثي، بسبب مقالاته الجريئة التي كان يكتبها ـ وهي محنة جماعية يواجهها جميع الصحافيين وأصحاب الرأي في الداخل اليمني ـ ما يدفعه للتخفي ومغادرة اليمن مكرها إلى القاهرة التي يمكث فيها نحو عام، ثم يذهب إلى بيروت، وفي رأس سنة 2016، وفي أثناء زيارة وحيدة مع بعض أصدقائه لأحد المواخير، يتعرف على فتاة تتحدث باللهجة الشامية، وتخبره بأنها فتاة من أسرة سورية، قذفت بها الحرب وسماسرة الاتجار بمآسي البشر إلى الماخور، يكتفي بالحديث وإبداء التعاطف معها، وبعد أيام يكتشف أنها لم تكن غير (إرادة) الفتاة اليمنية ابنة مدينته (تعز) التي كانت تراسله عبر الفيسبوك، وتستنجد العالم النظر إلى محنة شعبها، وقد دمرت الحرب منزلها وأسرتها، وأخذتها عصابات التهريب إلى بيروت، تنتهي الرواية في طبقتها النصية الأولى بمحاولة الصحافي البحث عنها واستعادتها.
 

في الطبقة النصية الثانية تمارس الرواية نزعة تجريبية واضحة في خرقها لمألوف السرد الروائي، إذ تقدم شكلا سرديًا مخاتلا جديدًا، يعتمد على استراتيجية المفارقة على مستويات الحدث والشخصية والتصوير واللغة السردية التي تميل إلى التكثيف وممارسة التشفير، والمفارقة كذلك على مستوى الراوي ووجهات النظر، حيث راوٍ لا يروي، وإنما يتحول إلى مروي عنه، وراوٍ فعلي للسرد يتخذ اسم (القارئ الافتراضي) في مفارقة واضحة في تخيّر الكاتب للأسماء من أجل خلخلة مسميات أطراف السرد، وكل من الراوي، والمروي له أو القارئ الافتراضي، ثم الراوي المفارق لمرويه الذي سيظهر في المشهد الأخير من الرواية، ليسوا غير شخصية روائية واحدة تنشطر إلى ثلاث ذوات: الذات الأولى (الراوي) وهي التي تكتب في مجموعة نصوص مبعثرة لرواية بعنوان (إعدامي الأخير قرار من الله)، فتقرأ الذات الثانية ـ التي يطلق عيها اسم (القارئ الافتراضي) ـ هذه النصوص، وتجمع أشتات أوراقها، وتشكل منها ومن سرد اللقاءات التي تجمعها بالراوي، نص رواية (تراي شيزوفرينيا). والذات الثالثة ذلك الراوي الذي يحاول أن يلخص مغزى السرد في الفصل الأخير.
 

القارئ الافتراضي هو قارئ متصور، ولا يتطابق مع القارئ الحقيقي أو الواقعي، يضعه المؤلف نصب عينيه في أثناء التأليف، وربما يخصه بإشارات خاصة غير مباشرة، في (تراي شيزوفرينيا) سينهض هذا القارئ المتخيل بمهة السرد، وهو في الرواية ذات مرآوية انعكاسية أخرى للراوي، تتجه بالسرد نحو الفانتاستيكي، تظهر من خلال المرايا أو الأسطح الملساء التي تحدث انعكاس للصورة، مفارقة للراوي في وعيها ورؤيتها للأشياء، صورة منعكسة عنه في كل المشاهد التي تجمعهما، تتمرد على وضعها الداخلي في المتن الروائي، وتقرر القيام بوظيفة الراوي، فتصبح رواية (تراي شيزوفرينيا) التي نقرأ بين أيدينا ثمرة سرد ذلك القارئ الافتراضي، المنهمك في تجميع النصوص التي كتبها الراوي الذي يختفي صوته منذ الفصل الأول، بعد رسالة يتركها للقارئ الافتراضي، يخبره فيها أنه مضطر للتخفي والتوقف عن الكتابة، بعد أن باتت حياته مهددة، فتصبح رغبة اختفاء الراوي منسبة لظهور الذات الافتراضية، يتحول إلى القارئ الافتراضي الذي يتكفل برواية الرواية، إلى أن يصل إلى المنتصف، فيقرر التمرد على حصر وظيفته في مجرد تأطير سرد الراوي، ويغادره وجوده الانعكاسي المرآوي داخل غرفة الكتابة المعزولة عن عالم الواقع، ويحتل شخصية الراوي، ليخرج بها إلى عالمه الخارجي، مكتشفًا الحياة الأخرى للراوي التي لم يدونها في أوراقه:
 

"إن عليَّ أن أخرج من كابوس القارئ إلى واقعية الكاتب. وألا أترك لغيري فرصة ثمينة كهذه، والتي ربما ستنمي بداخلي صراعي في القراءة، وتمنحني نصيب الأسد في ذياع صيتي ككاتب.." ص78.
تشكل لحظة خروج القارئ الافتراضي إلى شوارع بيروت برفقة أصدقائه بالنسبة لنا نحن قراء الرواية مناسبة للتعرف على الحياة الأخرى للراوي، والخروج عن رؤية القارئ الافتراضي، أو الذات الثانية للراوي/ المؤلف، لنشاهدها وهي في حالة اتصال مباشر في الواقع، ونتعرف في أثناء ذلك على قصة الفتاة (إرادة) التي تمنح الرواية حق وجودها.

 

وفي الفصل قبل الأخير المعنون (يقظة) يستعيد الراوي الصحافي صوته من جديد، ويحاول أن ينقض احتمال وقوع الأحداث المسرودة، ويخبرنا أن كل أحداث الرواية التي عشناها في الصفحات الماضية في حدود عام من الخامس والعشرين من مارس عام ألفين وخمسة عشر إلى الثامن من يناير من عام ألفين وستة عشرة، لم تكن غير كابوس عاشه، ويصحو منه في تاريخ الخامس والعشرين مارس ألفين وخمسة عشر، حيث يشير التاريخ الواقعي لهذا اليوم، غير أن التاريخ المكتوب على يومياته والمدون على جهاز التلفون المحمول يشير إلى الثامن من يناير من العام التالي، وبسبب حالة الذهول التي يعيشها الراوي بين الواقعي والتخييلي وتداخلهما في وعيه في أحداث الرواية، بين احتمال حدوثها الفعلي أو عدم حدوثها، يقرر دعوتنا نحن القراء للمشاركة في تخيل نهاية للرواية، ويقترح على القارئ خلق شخصية ثالثة، تقوم برواية الفصل الأخير من الرواية:
 

"مرت ساعات كثيرة منذ الصباح كنت أحاول فك اللغز ولم أفلح، حتى انتهى بي المسار لإضافة شخصية ثالثة تكمل المسار الدرامي لهذه الرواية، وتترك لكل قارئ الحق في تكملتها.." ص141.
نحن إذن أمام رواية تجريبية تحكي نفسها، معتمدة على أسلوب الميتاسرد، أو الميتارواية، وهو أحد أساليب الرواية الجديدة، يخلخل المفهوم التقليدي لمبدأ الإيهام بواقعية المروي، ولم يعد يُطلب من القارئ الاندماج في تصديق الحكاية واستهلاكها، وإنما يُنادى إلى المشاركة في تخيل أحداثها والتفكير مع الراوي في طريقة بناء السرد أو التعليق على الأحداث، ويحدث ذلك حين توجه الراوي إليه بالخطاب مباشرة، وقد تتكرر الإشارات إلى مخاطبة القارئ، والتعليق على أحداثها لاستخلاص الدلالة الكلية للرواية:

 

"هل لتلك الأحداث أمر يتعلق بمصيري ككاتب يمني في ظل هذه الحرب، أو مصير إرادة الفتاة التي أجهل لها تعليلا في وجودها بين أوراقي إذا ما افترضنا وجودها الغامض؟. الإجابة بنعم.. هي تعنيني، تعني مصيري، تعنيك أيضًا، ومصيرك، تعنينا جميعا" ص146.
 

وهذه النهاية المفتوحة على اللانهاية السرد، وتشظي الذات إلى مجموعة من الذوات الساردة، يُعدُّ بمثابة موقف احتجاج على الواقع نفسه، تنتج الرواية دلالة تماهي مع ما هو مرجعي خارج الرواية، وهو الأكثر تشظيًا وانفتاحًا على المزيد من الأحداث غير المحسومة. تضع الرواية بين يدي القارئ عددًا من التساؤلات التي تستدعي مشاركته في بناء التخييل، وهذه من سمات الرواية الجديدة.
 

وعلى الرغم من ذلك هل يمكن أن نقدم إحدى النهايات المقترحة للسرد، نستمدها من أحداث واقعية جرت للمؤلف نفسه، بُعيد نشره للرواية والعودة إلى مدينته تعز في أثناء الحرب، وتعرضه لإصابة خطيرة بسبب شظايا قذيفة طائشة في البطن كادت تودي بحياته، ولم تزل هذه القذيفة تكرر سقوطها اليومي حاصدة المزيد من الأرواح البريئة، أي سوريالية وجنون تغيب فيه حدود الفصل بين ما هو واقعي وما هو تخييلي في حياتنا، وأي شيزوفرينيا هذه التي نعيش، وتفقدنا القدرة على الإحساس بلذة الاندهاش التي ينبغي أن يحدثها الفن الروائي، حين يحاول كاتب ما تسريد بعض مأساوية هذه الوقائع الذي تسبق دهشته التخييل بخطوات، وهنا ربما يحسن تدمير المسافة المفترضة بين النص والقارئ.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً