الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
ما الإنسان المتمرد؟ - شهاب جمال
الساعة 11:39 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

ما الإنسان المتمرد؟
يجيب كامو: أنه الإنسان الذي يقول: لا! 

 

في كتابه "الإنسان المتمرد" وضع الفيلسوف الوجودي الفرنسي ألبير كامو (1913-1960) أسس فلسفته، التي كان لها قدر كبير في غربلة الأفكار الإنسانية الحديثة والعالم المعاصر منذ نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى أيامنا هذه.
بحسب كامو، فإن الإنسان الذي يتمرد يضع حياته على المحك في سبيل تحقيق حريته، وهذه الحرية لابد أن تقوم هي الأخرى على استعباد فرد آخر "وهكذا تكون معضلة وتناقض مفرط في الالم" كما يقول كامو. ذلك أنه قد قُدِّر لنا أن نكون إمّا أحرارا أو مستعبدين.

 

وفي سبيل فهم ماهية التمرد، انطلق كامو في سرد وتحليل تمردات إنسانية منذ فجر التاريخ أي ما قبل تمرد سبارتكوس "حين كان العبد كالدمية أمام سيده" مرورًا بتحسن حالة العبودية وتحولها إلى الاقطاعية والأقنان "حين أصبح للعبد (الفلاح) بعض الحرية" وإلى زمن الرأسمالية الصناعية "حين أصبح للعبد (عامل المصانع) حرية أكبر" وهكذا تتحسن العبودية مع تراكم التمردات عبر التاريخ، ولكن بحسب كامو لم يحدث أن وقع تمردًا ماورائيًا قبل الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر. حين أسقط الفرنسيون كل صنم "مادي أو روحي". "أيها الفرنسيون، عليكم القيام بالقليل من الجهد أيضا إن كنتم تريدون أن تصبحوا جمهوريين" ماركيز دي ساد.
 

في العام 1958 كتب ألبير كامو مقالة تحدث فيها عن عقوبة الإعدام وما أن مضى عام حتى أُعلن فوزه بجائزة نوبل وبهذا يكون ثاني أصغر أديب يحصل على هذه الجائزة لكن فوزه هذا لم يكن إلا بسبب مقال واحد تحدث فيه عن عقوبة الإعدام"أن إنتاجه على صعيد الرواية والفلسفة والمسرح ليس بتلك الكثرة، لكنه لا يخلوا من غزارة المعنى.".
 

"نحن لا ننشد عالمًا ليس فيه قتل، بل إلى عالمٍ لا يمكن فيه تبرير القتل" كامو.
إن تراجع الدول التي تصدر أحكام بالإعدام قد تقلصت بشكل كبير، وحتى بعض الدول التي مازالت تمارس هذه العقوبة أصبحت تمارسها على استحياء، تحت ضغط شديد من منظمات حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، وهكذا تكون أفكار كامو قد أثرت بشكل ملحوظ على العالم.

 

وفي العبث كتب كامو مقالة بعنوان "اسطورة سيزيف" تحكي قصة رجل يدفع صخرة إلى أعلى قمة جبل؛ وما أن يصل حتى تسقط الصخرة وتتدحرج إلى القاع ثم يعود ليدفعها مرة أخرى حتى يصل القمة، من جديد، لتسقط مرة أخرى. وهكذا تكون حياة هذا الرجل إعادة مملة للحدث نفسه. ومع هذا كان سيزيف في قمة سعادته وهو يدفع الصخرة مرارًا كل يوم كل صباح كل مساء "إن كامو هنا يعرض لنا صيرورة حياتنا" نستيقظ صباحًا، نذهب إلى العمل، نعود لتناول طعام الغداء، نخرج نبحث عن عمل آخر، نعود لننام. "ما الذي يدفعنا لفعل هذا كله، وتكراره يوميًا إنه "الأمل" بأن يوما ما سينتهي الألم، وستشرق الشمس هناك في أعالي قمة سيزيف". الأمل دافع الإنسان للبقاء على قيد الحياة "لهو محض زيف" كما ذكر كامو. إن الإنسان يفترض الأمل ليجد مبررًا مقنعًا للاستمرار في العيش، ودفع الصخرة مع الإحساس بالسعادة، هكذا تحدث كامو عن العبث.
 

وفي روايته (السقطة) أسهب كامو في تحليل العبث، ووضعه في إطاره أكثر من أي كاتب عبثي آخر. لقد تناول في هذه الرواية قصة محام شاطر، قضى حياته في نجاحات كبيرة وخيبات عاطفية ومادية، وحين التقى في البار برجل شاب لا يعرفه يبدأ في سرد أحداث حياته لهذا الشاب، متسائلاً عن جدوى كل النجاحات التي حققها "في حين تكون سعادته في شيء ما فإنها تتلاشى حين يحصل على هذا الشيء، وتتحول وتصبح سعادته في أشياء أخرى يرجو الحصول عليها. وهكذا تكون الحياة دائرة حتمية لا طائل منها حتى بالنسبة إلى أكثر الناس ثروة ونجاحًا." هنا يصل كامو إلى وصف دقيق للإشكالية الوجودية للإنسان "إن مأساة الإنسان هي وليدة أمنياته." وتتعاظم هذه المأساة حتى بالنسبة للذي يقدر له تحقيق أمنياته فها هو في طبيعة نفسه يشرع من جديد في تمنٍ آخر وصنع أمنيات جديدة. وفي نفس الرواية، يحكي قصة رجل قضى عشرين عامًا في ملاحقة فتاة أحبها ولم تقبل حبه، من مدينة إلى أخرى، ومن حي إلى حي، حتى أصبحت في أحد الأيام واقعة في حبه؛ فإذا هو يشعر فجأة بتلاشي كل إحساس تجاهها، وغدت في نظره امرأة بلا قيمة ليأخذ نفسه بعيدًا عنها، إلى الأبد.
 

ولكن: كيف يمكن للإنسان أن يعبر عن العبث، عن لامعنى كل فعل وكل شيء؟.
يجيب كامو: إن أفضل رد يمكن أن يعبر به الإنسان عن العبث هو "الصمت".
حين يكون الأمل خرافة، ويكون اللا معنى هو جوهر كل الأشياء؛ "ما الذي يمكن للإنسان أن يكونه؟" ما الذي ينبغي أن يفعله تجاه كل هذا العبث "هل ينتحر؟".
كامو يجيب: لا! ليس الانتحار؛ لأن الإنسان حين ينتحر يثبت بذلك الأمل والمعنى بشكل عكسي فلا يكون هذا تعبيرًا عن العبث أو حتى اليأس فبحسب كامو "إن ردة الفعل المناسبة تجاه فقدان الأمل تكون بالتمرد."

 

كان ألبير كامو "الفيلسوف الحالم"، قد شق صف فلاسفة عصره بعصا سحرية، ذلك إن الأحداث المهولة التي شهدها العالم، في النصف الأول من القرن العشرين، بقيام الحربين العالميتين والثورة البلشفية في روسيا، وموجة المجاعة في شرق أوربا، جعلت العالم يسير في محيط من الدماء، بمقتل ما يقارب مائة مليون إنسان، وهذا الرقم قد يمثل ما نسبته عشرة في المائة من سكان العالم، آنذاك. ونتيجة لهذا السقوط المدوي للإنسان، اجتاح العالم وأروبا، على وجه الخصوص، نوع من الإحساس المخزي والضياع الفظيع؛ فإذا كانت الفسلفة الوجودية الثورية التي حملت أفكار فريدرش نيتشه، وماكسيم جورجي قد زرعت في الشعوب منذ بداية القرن نوع مفرط من الأمل.
 

فنيتشه الذي يدعو إلى: "إنسان أعلى متجرد من قيم الخرافات، والاستعباد، ويشق طريقًا جديدًا بالفأس نحو الفضيلة." "فضيلة الطفل والتمرد الطاغي." قد تأثر بأفكاره النازيون والفاشيون تأثرًا ملحوظًا، وانطلقوا يصنعون من هذه الأفكار أيدلوجيا صماء تهدم المعبد البشري، الذي لا يقود إلى إنسان أعلى، رأسًا على عقب، غير معترفين بمن لا ينطوون تحت مسمى هذا الإنسان الأعلى وهذا الإنسان الأعلى الذي يقصدونه، إنما يكون الإنسان النازي (إنسان هتلر)، وأمة واحدة فاشية (أمة موسيليني)، وماكسيم جوركي، الذي دعى إلى اشتراكية تملأ الأرض ثم تصعد إلى السماء "اشتراكية توحد الناس كفرد واحد." ساهمت أفكاره في خلق انتفاضات عمالية، وثورات دموية، وسقوط امبراطوريات رأسمالية، وقيام أنظمة دكتاتورية بوليسية.
 

يمكننا القول أن أفكار نيتشه وجوركي قد زرعت الأمل بحماسة في الشعوب الأوروبية، وهكذا دخل العالم في دوامة كبيرة؛ فالجميع أراد تحقيق حلمه الخاص (إنسان هتلر، أمة موسيليني وفرد ماكسيم). اسيقظت البشرية يومًا ما وقد سقط المعبد كله، ولهذا عندما انتهت الحرب العالمية الثانية، بدأت أزمنة اليأس، وبدأت الفلسفة الوجودية الثورية الحالمة بالتراجع أمام ظهور فلسفة وجودية أخرى تعبر عن الإحباط وهي "الفلسفة العبثية" وبيأس بحث الإنسان من جديد عن أمل آخر وجاء ألبير كامو محاولا إيجاد هذا الأمل.
 

وكان أمله هو التمرد الذي لا يؤدي إلى ظلم جديد وتحويل الظالم إلى مظلوم. ونبذ القتل بداية في إلغاء عقوبة الإعدام وعدم تبريرها حتى ولو على سبيل القانون. إنه يلوم السعادة "سعادة الحجر" التي يشعر بها من يحضرون مراسيم تنفيذ عقوبة الإعدام ويقول إن ثمة جرائم ترتكب بدافع الهوى "بسبب غضب طائش أو حب زائد أو غيرة" لكن ما يتحدث عنه كامو هي الجريمة التي تصدر عن محاكامات عقلية "أي نتيجة سبق إصرار وترصد".
 

إنه ينشد إلى عالم تتساوى في حرية كل فرد. ولا يقوم على المساواة الحقيرة بين الضحايا لكنه ما لبث أن أصيب بالإحباط فزادته عبثيته ليكتب مسرحيات مفرطة في اليأس ويموت في حادث سير في عام 1960. بعد أن كان قد كتب في ريعان شبابه رسالة إلى أحد اصدقائه "إن أكثر موت مفرط في العبثية يمكن لي أن أتخيله هو الموت في حادث سير".
 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً