الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تداعيات الزمن الإلماحي في بنية القصة القصيرة جداً في السعودية
نص : (علي) و (أمل) ، للقاص / أحمد إسماعيل زين ، أنموذج - البروفسور / آمنة يوسف
الساعة 14:26 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)




الزمن مكوِّن سردي مهم في بنية النصوص السردية الحديثة ، خاصة . اعتنى به نقاد السرد إلى الحدِّ الذي عدّوا فيه النصوص السردية المهيمن عليها عنصر الزمن السردي فنوناً زمنية خالصة ، شأنها في ذلك شأن الموسيقى التي تعد فناً زمنياً خالصاً .
 

وابتداءَ من الرواية المنفتحة على تقنيات ما يسمّى تيار الوعي الحديث ، تحديداً ... تجلت الكتابة السردية ذات التداعيات الزمنية المختلفة منذ أن يؤدي التوظيف البنيوي للزمن فيها إلى ما يسمّى تكسُّر الزمن السردي في منطق وحدات السرد الثلاث ذات البداية والوسط والنهاية . حتى نجد أنفسنا أمام جملة من التقنيات الزمنية الحديثة ، وأبرزها : الفلاش باك أو الاسترجاع بأقسامه الثلاثة المتعارف عليها عند نقاد السرد . وهي : الاسترجاع الخارجي الذي يحيل إلى ذكريات بعيدة تسبق زمن الحاضر السردي . والاسترجاع الداخلي الذي يعود فيه السرد إلى استكمال أحداث لاحقة ، قريبة وواقعة في سياق حاضر السرد وزمنه . والاسترجاع المزجي الذي يتداخل فيه الاسترجاعان : الخارجي والداخلي في كامل البنية السردية للنص الروائي ، غالباً . كذلك يبرز أيضاً ما يسمّى تقنية الاستشراف ثاني المفارقات الزمنية بعد الاسترجاع التي لا تصبح في بنية الكتابة المنتمية إلى ما يسمّى تيار الوعي .. مجرَّد إعلانٍ مسبق عن أحداث لاحقة سوف تتحقق بالفعل بل إن الكتابة الحديثة المهيمن على بناها السردية عنصر الزمان بتداعياته المختلفة أصبحت تستعين بتقنية التوقع لا الاستشراف . هذه التقنية التي تحتمل سلفاً تحقق الحدث اللاحق من عدمه ، الأمر الذي من شأنه أن يحافظ على عنصر الإمتاع والتشويق الفني .
 

ينضاف إلى ذلك المونولوج الذي يعد أيضاً من أبرز التداعيات الزمنية في الكتابة التي تغدو تيار وعي ولا وعي بسبب هيمنة هذا الزمن النفسي غالباً ، عليها . وذلك حين تحاور الشخصية نفسها بصوت غير مسموع أو بهمس أقرب إلى المناجاة ، حواراَ يتمسرح فيه العقل الباطن مستعيناً في ذلك بالضمير المتكلم أو الغائب أو حتى المخاطب عند المناجاة الذاتية ، في مقابل الديالوج المسموع (المشهد) الذي يتم بين اثنين فأكثر ويؤدي إلى إبطاء حركة السرد نسبياً لوظيفة بنيوية يشترك من خلالها مع تقنية الوقفة الوصفية في الكشف غالباً عن جملةٍ من الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات الروائية مع ملاحظة ما تؤديه الصورة الوصفية إلى البعد التأملي ــ حسب جيرار جينيت ــ الذي يكون لصالح الزمن ومضيه قدماً وليس مجرد وقفة تعطل الزمن السردي وتوقف سيرورته ، حسب المتعارف عليه غالباً عند نقاد السرد . ولذلك برزت في مرحلة متطورة للوصف ما أسمته سيزا قاسم في كتابها (بناء الرواية) بالصورة السردية الدالة على حركة الوصف حين يرتبط بنيوياً بإيقاع أفعال السرد (حركته الزمنية) في بنية الكتابة الحديثة في مقابل الصورة الوصفية للأوصاف الخالصة من أفعال السرد ، في الكتابة الكلاسيكية عموماُ . وفي الكتابة المنتمية لتيار الوعي الحديث يمكن للوصف أن يصبح وصفياً نفسياً تتداعى على مستواه السردي جملة من المعاني ذات الصلة الوشيجة بالحلم (الفنتازيا) والخيال الفني المكثف والمؤدي إلى تجلي الوصف المجازي بالمفهوم البلاغي الصرف .
 

وكنت في دراسات سابقة لي قد جرَّبت بالتنظير وبالتطبيق ... البحث عن تداعيات الزمن على نصوص روائية متباينة من حيث اتجاهاتها الأدبية (التقليدية أو الحديثة) .
وكان التجريب النقدي لتقنيات تيار الوعي الحديثة تحديداً يغريني بالبحث عن تداعيات الزمن في النصوص القصيرة المكثفة التي تختزل في بناها السردية شتى العناصر الفنية بأسلوب إلماحي موجز للغاية وهي تعبر عن لحظة حاسمة وعن انفعال مكثف وعن موقف عابر . وهي تنفتح على جنس الشعر ، خاصة ، بأسلوب تعبر من خلاله جنسها الأدبي ، بل نوعها الواحد إلى ما أسماه إدوار الخراط في كتابه (عبر النوعية) بظاهرة "القصة ــ القصيدة" التي تشترط لإنجازها عدداً من الشروط الفنية ، كالإيجاز وضيق المساحة الزمنية على مستوى البنية السردية حتى وهي تستدعي كافة الأزمنة الحاضرة والماضية والمستقبلة بأسلوب إلماحي صرف ، غالباً . وكالكثافة والتركيز بدلاً من الحشو والإسهاب الذي لا يليق بشكلها الفني الذي بنيت عليه القصة القصيرة جداً ، تحديداً . وكإيقاعية التشكيل وموسيقية الجملة والتركيب التي تجعل أفعالها السردية منفتحة برحابة على جنس الشعر ، كثيراً . أما أهمها وأفعلها ولعلها المعيار ، فهي ، في النهاية سيادة السردية التي تجعلها ، مهما انفتحت على فضاء الشعر تكثيفاً وإيقاعاً ، قصة قصيرة يهيمن إيقاع الحكي (السردية) على منطوقها الفني ، بالدرجة الرئيسة .

 

ذلك وسواه ما دفعني إلى أن أتتبع المنطوق السردي للقصص القصيرة جداً السعودية ــ موضوع دراستي البنيوية ــ محاولة رصد مدى التداعيات الزمنية التي تجلت على مستوى هذه الظاهرة السردية المذهلة ببريق ومضاتها لغةً وتقنية ، بأسلوب إلماحي للغاية ، لا يخلو البتة من شتى الوظائف البنيوية التي تؤديها للنهوض بالبنية السردية ، على النحو الآتي :
ـ

ـ قصة (علي) لأحمد إسماعيل زين .
يقول المنطوق السردي للقصة :
"كانت تحب علي حتى تمنت الموت والدفن معه بقبر واحد . وفي عصرية شوق قامت تكنس القبل وتستعين على شقائها ، لتهجد نار الشوق المتأججة بداخلها منشدة :
علي علي سميت طوقي علي بك
يا ليتني مشخص ذهب تحت طيبك
ولا سباط امجنبية واحتلي بك
علي علي جمع الخلايق علي بك
أما علي بي الموت ولا علي بك
لتموت بوجدها من فقد علي وحلمها حيّ !!"
هنا ، نلاحظ بقاء الإيحائية بهيمنة المنطق الكلاسيكي لوحدات السرد الثلاث ذات البداية والوسط والنهاية ، بغية التأكيد على سيادة السردية وأن الزمن لم يتكسر حتى مع حضور الإيحاء بأطلال بعيدة يلمح إليها الراوي بضمير الـ(هو) بالأفعال الماضية منذ أول القصة تارةً (كانت ، تمنت) ثم وهو يلمح بحضورها المستمر في ذاكرة المحكي عنها بالأفعال المضارعة المستمرة (تكنس ، تستعين ، تهجد) واسم الفاعل المستمر (منشدة) حتى مماتها في نهاية البنية السردية التي يظل معها الحلم ــ حلم اليقظة ــ حياً لا يموت بموت صاحبته حقيقةً أو مجازاً . مع الإشارة إلى ما اتخذه النشيد الشعبي من حيز على مستوى البنية السردية التي انفتحت على القصيدة وانتهت بالإيقاع الدال على مستوى البنية على الاستمرار في الفعل (لتموت) ، غير أنه على مستوى الدلالة يدل على النهاية الحتمية التي حافظت على الإيقاع المنطقي لوحدات السرد المشار إليها وعلى سيادة السردية ، إذن .

 

 

ــ وفي قصة قصيرة جداً لذات القاص ، تحمل عنوان (أمل) يقول المنطوق السردي للقصة :
"تكونت في أفقي سحابة ، قمت أنشد : ستمطرين وأنتظر ، دلقت على الأرض جراري انتظاراً ، لكنها اقتربت ، أمطرت ، ذهبت وجراري على الأرض جافة ."
القصة توهم فنيّاً باستشراف كلاسيكي متحقق في كلمة (ستمطرين) مادامت أمطرت بالفعل حسب ما يبدو . غير أن النتيجة التي رافقت الإمطار هي التي حققت عنصر المفاجأة غير المتوقع من نشدان المطر الذي أراد السارد من ورائه ملأ جراره ذات البعد الرمزي في علاقتها بالمطر ذي البعد الرمزي الإيحائي ، أيضاً . ومن هنا تتجلى حداثة الزمن في بنية هذه القصة التي يتخذ الاستشراف في علاقته بالنهاية السردية فيها منعى التوقع غير المتحقق ، إذن . والجدير بالإشارة أن النهاية السردية في بنية القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً تحديداً ، تأتي غالباً محملة بعنصر المفاجأة الباعث على مطلق الإدهاش والكاسر منطق ما يصدر عن وحدات السرد من رتابة تزول مع تفاجئُنا فوراً به لحظة التنوير المختزلة بكثافة لا متناهية عكس ما اعتادت عليه توقعاتنا الكلاسيكية الواقعة خارج سياق زمن السرد الفني الذي يشترط توافر الموهبة الإبداعية الخلاقة . ذلك وفق ما تجلى لنا ونحن نتأمل النهايات السردية في النصوص القصصية المختلفة موضوع دراستنا البنيوية هنا وسواها من القصص العديدة ، التي يؤدي التوظيف البنيوي فيها لإيقاع الأفعال السردية المتتابعة والمتناغمة إلى ما يسمّى برأينا :

 

الصورة السينمائية حين تبدو عين الراوي الشاهد تحديداً شبيهةً بتقنية الكاميرا المتحركة التي تلتقط بالصوت وبالصورة كل ما يبدو أمامها التقاطاً آلياً خارجياً ومحايداً عبر الإيقاع المتناغم لأفعال السرد المحتفظة بشتى تداعيات الزمن الإلماحي داخل نسيج إيقاع السرد : حركةَ وحيويةً وتنامياً مكثفاً للغاية .

أستاذة في قسم الأدب بكلية اللغة العربية ــ جامعة صنعاء اليمن.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً