الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
من التعبير إلى التجربة (1) مدخل لدراسة تجربة الشاعر عماد زيد - قاصد الكحلاني
الساعة 11:30 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)



للشاعرية أسرارهارالرقراقة وجدانا وفكرا ، وللشعرية قوانينها التي تمنح النص صفته الأدبية ، وتجعل منه أثرا خالدا. ولعل الحس الإنساني الراقي والشفاف هو أحد أهم منابع الشاعرية، إلى جانب القدرة على النفاذ إلى الجوهر ، وملامسة الكوامن، واكتناه الحقائق.
 

هذه هي المقدمة الأنسب عند تأمل قصائد الشاعر / عماد زيد ، حيث تبدو الإنسانية نبعا دفاقاً ، تتناسل منه كل المشاعر والأحاسيس التي تتمظهرها قصائده، فهو يتشارك وجدانيا مع الكائنات متعاطفا معها، حاساً بأوجاعها. هذا هو نبل الشاعر ، الذي رأيناه يختفي عند تيار من الشعراء انغمسَ في تقليب النزوات العابرة ، والتعبير عن النزعات الغرائزية ، تجسيدا لطريقة معينة في التفكير والنظر إلى الكون والحياة.
 

لكن بالحديث عن شاعرية عماد زيد ، فقد تمسك الشاعر بالعروة الوثقى للإنسانية النقية ، في حقيفتها المستوعبة لارتباط الإنسان باحتياجاته، غيرِ المنغمسة في وهم اليوتوبيا.
ولذلك نجد الشاعر يهدي ديوانه الموسوم (عيناك آخر من تراك) إلى الإنسانية بكلها ابتداء من " خليفة الله في قلبه" والده ناجي محسن ، وانتهاء بكل " أثرٍ تحاشته الحصى" ، ومن ضمن من أهداهم ديوانه " زهرة الجردس" التي قطفتها يد الانحطاط القيمي ، فانتصر لها برواية كاملة حملت نفس العنوان. ولم ينس في إهدائه " إخوة (له) في جب القصيدة لا يعرفهم يوسف".

 

يقول الشاعر في مقدمة ديوانه: "لعل الاستغراق في الذات ، يجعلني أتأرجح بين أناتين - 
أنا الطين وأنا الروح 
ربما لتلك النفخة التي اصطفانا الله بها 
سر الآدمية وبوح الكرامة. " ص5. 
ومن هنا نجد الشاعر - في قصائده - يغني لأحزان الضعفاء ، ويتألم لمعاناة المقهورين. 
" يا أهلَ غزةَ 
قالها قلبي رسولُ النور 
لا زالوا على أكناف بيت الله 
بيت المقدس العربي 
لا زال مثواهم حياةً كاليقينْ 
بشراكمُ " بشرى النبوة" 
أيها الباقون في غمد البطولة 
تزرعون الفجر أحلاما 
تضيء لنا الطريق 
أنى سنلقاكم؟ 
عسى تجلو ملامح أفقنا حينا 
وقد حانت نهايتهم 
كما آنَ اللقاء" ص51-52.

 

يقف الشاعر / عماد زيد عند ظواهر عادية مألوفة ، فيضربها بعصا القصيدة ، لتنبجس منها مياه الدهشة قصائدَ تقطر روعةً ، وتندى إبداعا. وهذا هو الرافد الثاني من روافد الشاعرية، إذ يتجسد في اكتناه القضايا، والقدرة على النفاذ إلى أصلها واكتشاف سرها، بترسيخها يقينا، أو هزِّ جذوعها ليسّاقط رطبُها تساؤلا وتشكّكا. ها هو يقف على ساحل البحر ناظرا في الأفق: 
"في الأفق يبقى الزمان كخارطةٍ حبرْها الأمكنة 
معانٍ لها كلّ نافذةٍ أفقها 
في الأفق مئذنتان وسجادة للصلاة 
الصلاة صِلاتٌ 
وفي الضفتين أكفٌّ تضوع 
****

 

يؤطرنا الضوء 
حين نشعّ ظلالاً 
نطالعه شجناً عالقاً كالمجيء 
ويطبق جفنُ المدينة عودتنا دون قربى 
على أمدٍ عامرٍ كالفراع" ص60-61. 
يتأمل الشاعر في الحياة فيراها ذاكرةَ طريقٍ ليس إلا : 
" ليس إلا طريقاً هي الأرض 
نعبرُها حيث أجسادُنا آخر الخطوات إلى الموت 
نتركها أثراً أطفأته المرايا 
ونسمو وأجنحةَ النور
حيث الفضاء الذي تكبُرُ الوقتَ أزمانُهُ" ص10 ِ

 

يخرج الشاعر من مجرد التعبير إلى الخلق ، ومن البوح إلى قول ما لا يقال : 
" و تدبّ أشرعةُ الجليد مناجلاً في مقلتي 
فتفيقُ أجراسُ القصيدة في دمي 
"قدّاس قلبي الصمت في بهو الوجيب"
… ..
يا سائلي عما تعاقبَ في فمي 
إني نشيجُ الرمل في شفة الرياح، حلمٌ تعطّبَ إثرَهُ دربُ الإياب" ص38-39.
ولذلك فإن جدّةَ الفكرة المنتَجة ، وحداثتَها، تخلق بالطبيعة جسدا لغويا جديدا، يناسبها، ويقدر على إبرازها ، لأنها ليست فكرة جاهزة منفصلة عن قالبها اللغوي، بل فكرة منصهرة في جسدها اللغوي، فلا تظهر إلا فيه ، ولا تحيا إلا به، فإذا افترقت عنه ماتت، فلا ينفعها أي تشكيل لغوي آخر. ولعل هذا الانصهار بين القالب والروح، أحدُ أهم سمات الأدبية التي قارب شطها الحاتمي منذ أكثر من ألف عام، وشارف على فتحها عبدلقاهر الجرجاني بنظريته العبقرية عن النظم، وخط كثيرا من سطورها رولان بارت، وتزفيتان تودوروف. 

 

وإذا كانت شاعرية عماد زيد تتدفق من نبع صافٍ ، فإن شعريته لم تقف عند باب النبع، وإنما ذهبت لتُجاوُزَ الآفاق، بل جاوزت نفسها ، وما تزال ترغب في مزيد من التجاوز.
 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً