الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
الملكة المغدورة رواية عن عدن السبعينية وحيها الشعبي الكبير - د.عبدالحكيم باقيس
الساعة 15:24 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


الرواية رحلة في الزمان والمكان، وهي بلا شك تتميز بخصوصية قصوى في تعاملها مع هذين المكونين الجوهريين، ويصبح للبعد التاريخي الزمني أهمية كبرى عند دراسة تشكل المكان في أي خطاب روائي، من وجهة نظري أهم الروايات التي قدمت البعد التاريخي لمدينة عدن هي: (سعيد) لمحمد علي لقمان 1939، و(يوميات مبرشت) للطيب أرسلان 1948، اللتان تصفان مدينة عدن في فترة الثلاثينيات والأربعينيات، ثم (السمار الثلاثة) لسعيد عولقي 1989، و(الملكة المغدورة) لحبيب سروري 1999، حيث تصف الأولى واقع المدينة في الثمانينيات، وتستدعي تاريخًا أبعد من ذلك عبر عن استرجاعات الشخصيات، والثانية تصف إحدى ضواحي مدينة عدن في فترة السبعينيات لحظة ولادة النظام الماركسي في الجنوب.
 

ستتميز لا حقا رواية (بخور عدني) لعلي المقري 2014، ورواية (ستيمر بوينت) ﻷحمد زين 2015، في تسريد مروي تحولات المدينة عدن في ظل الاحتلال البريطاني عند نهايات النصف اﻷول من القرن الماضي، ستقدم عدن في الروايتين بوصفها الفضاء الكوزمبوليتاري حيث التعدد في مختلف مستوياته.
 

سأكتفي هنا بالإشارة إلى رواية (الملكة المغدورة) وإلى شذرات من البعد التاريخي/ الاجتماعي للمدينة الذي يدرك عبر منظور الشخصية المحورية ناجي, وهو شاب صغير يعيش في أحد أحياء المدينة (حي الشيخ عثمان) الحي المصب الذي توافد إليه المهاجرون إلى عدن منذ بدايات القرن الماضي من كل المحافظات والجهات، الذي تشكل بعد الاحتلال البريطاني لعدن، وفي هذا الحي الشعبي يمارس الشاب الصغير ناجي حياته اليومية كأي فتى في سنه, لكنه يصف واقع لمدينة من الداخل في فترة السبعينيات من القرن الماضي، لحظة ولادة النظام الثوري الماركسي في جنوب اليمن، ومن خلاله تًرصد التحولات التي تشهدها المدينة, عندما يقدمها عبر منظوره الأيديولوجي, ويبث في أثناء ذلك نقده العنيف لتابو الثورة والنظام السياسي، فعبر سيماه الفكرية يحاول أن يؤطر الفضاء الانتقالي الذي مرّ به حي الشيخ عثمان، يصفه الأفواج الكبيرة من أبناء القرى تأتي إليه مع ولادة النظام السياسي الجديد، وكيف كان يعج بالمسيرات والمليشيات والهتافات المؤيدة للخط السياسي الجديد، وكيف كان يستولي على هؤلاء – حسب وصفه – حالة من الهستيريا والفرح الثوري تصل إلى حد المطالبة بتخفيض الرواتب، وهي لحظة تاريخية مفارقة في تاريخ اليمن الحديث شهدتها السبعينيات، عندما أُخرج الموظفون للمطالبة بخفض رواتبهم دعمًا وحفاظًا على الدولة الناشئة، وعبر سلسلة من المشاهد الحافلة بالمفارقات بين المتظاهرين ومسيراتهم التي تطوف الشوارع وتقلق هدوء الحي الكبير، وصورة شباب المدينة المنهمك في ممارسة الألعاب والجلوس في المقاهي غير مكترث بما يجري حوله من تحولات، وهو بذلك إنما يرصد تاريخًا حافلاً وحاسمًا من تاريخ عدن والجنوب، حسب منظورة الأيديولوجي، بداية بمفتتح الرواية: "عبث ينخر المدينة ويجوس خلال شوارعها ويحاصرها من كل الجهات، ويتحكم بكل شيء فيها، وينتشر في كل مكان" ص7.
 

 

ويتجلى البعد التاريخي (الزمكاني) للمدينة الصغيرة الذي يصفها عبر منظور الشخصية المحورية على المستوى المكاني والزماني والأيديولوجي، إذ لا يقف بالوصف عند المظاهر الديموغوجية التي تعج بها المدينة وشوارعها، بل يكاد يقدم وصفا طبوغرافيا تاريخيا دقيقا للحياة البائسة لحي الشيخ عثمان وشكلها الخارجي، فتبدو وقد اتخذت شكلا مستطيلا عبر بيوتها الصغيرة المتلاصقة: "من يعرف الشيخ عثمان يعرف تماما أن الحزن يعيش فيها مسرورا بين أهله وذويه، في معقله المثالي، في مسقطه العمودي على كوكبنا، وسيستنتج من ذلك أنه إذا كان للحزن شكل هندسي فإنه سيكون مستطيلا تماما … إن الحزن والشيخ عثمان يشكلان ثنائيا مثاليا مختوما إلى الأبد بحب عميق مستطيل…." ص 98 . كما يصف جانبا مؤلما من الخصوصية المعمارية للمدينة التي تنظم جميع بيوتها الفقيرة التي تشير إلى حالة البؤس في فترة تاريخية معينة عبر لغة هجائية مرة مرارة واقعها البائس، إذ يقول: "غرفة المطبخ في الشيخ عثمان غرفة كريهة مظلمة، شديدة الرطوبة، مفصولة عن (الجلي) بسور هش، وكل مطبخ أكثر من كابوس، ولو لم يكن الأكل ضرورة لن يقترب أحد من هذا المتحف المرعب، ولن يعجب بهذا المتحف سوى مليار من الصراصير، ومثله من السحليات، ومثل ذلك الفئران، كلها تعيش في الجلي، تصل إليه بسرعة مخترقة أنبوبا طوله متر واحد يربط المطبخ بالجلي …." ص 99 ، ويقدم السارد ناجي خلال حركته بين أجزاء الشيخ عثمان بعض التفاصيل والمعالم المميزة للمدينة حتى السبعينيات من القرن الفائت, قبل أن تتشكل وتتغير ملامحها الرئيسية، من قبيل وصفه لـمنطقة اسمها (الدُرين) جانب الحي الذي تتجمع فيه الورش والمعامل والحرفيون، والفراغات الهائلة التي تتخلل بعض أحياء المدينة، و(الأكواد) أو منطقة باريس كما يرسمها السارد، حيث الكثبان الرملية الصغيرة التي تحيط بضواحي المدينة قبل أن تتسع وتبتلعها المباني الحديثة، وعندما كان يجد فيها العشاق والسمار وطالبو الخلوة مكانا ملائما لاحتضان لقاءاتهم وجلساتهم ومواعيدهم الغرامية، ومن قبيل مقهى الشهداء أحد أشهر مقاهي المدينة الذي جمع لقاءات السارد برفاقه وممارستهم للعبة الشطرنج فيه، وهم يرقبون شوارع المدينة التي تطوفها المسيرات ومليشيات النظام، وغير ذلك من الأمكنة التي ارتبطت بها ذكرياته للمدينة في فترة السبعينيات.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً