الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
غرابة الشاعر في غرابة الزمان "2 " - علوان مهدي الجيلاني
الساعة 18:08 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


يذكر كولن ولسن أن الإصابات أو الصدمات التي يتعرض لها بعض الأشخاص قد تتسبب بإطلاق قواهم النفسية بما يمكن تسميته بديلاً لنوع من فقدان الكفاءة العقلية السوية.. مستشهداً بحالة نقاش هولندي اسمه (بيتر درهورك) سقط من فوق سلمه وأصيبت جمجمته بكسر.... وعندما أفاق في المستشفى اكتشف أنه (يعرف) كل شيء عن زملائه المرضى عن ماضيهم بل وعن مستقبلهم أيضاً.. هذه القدرة العجيبة لازمته وتحت اسم (بيتر هوركس) طارت شهرته بوصفه(مكشوف الحجاب) أو يرى ما وراء البصر و(متكهن نفسي) وكثيراً ما قام بمساعدة الشرطة في حل قضايا القتل، غير أنه في الأيام التي أعقبت الحادث الذي وقع له مباشرة وجد الحياة صعبة لأن قواه النفسية الجديدة جعلت من المستحيل عليه التركيز في الأعمال اليومية العادية.... وكان من الممكن أن يتضور جوعاً لولا أن اقترح عليه شخص ما أن يستغل قواه لكسب قوته بالظهور على المسرح.
 

من الصعب جداً أن نقرأ هذه القصة ولا نتذكر أن كل الحكايات التي فسرت بدايات بكير وتحوله من إنسان عادي إلى ما صار إليه تختلف في بعض التفاصيل ولكنها تتفق أن شيئاً ما (أكلاً،، شراباً) سبب له مرضاً فأثر عليه.. وعندما أفاق منه كان يرى ويعرف كل شيء، على نحو ما أسلفنا إيراده في الفصلين السابقين وما سيتكرر وروده ومناقشته لاحقاً. في غير مكان من هذا الكتاب.
 

لنتذكر أن إحدى تلك الحكايات أخبرتنا أن بكيراً لم يكن قادراً على كسب رزقه قبل أن يلجأ إلى الشيخ الكميت... كما يجب أن نتذكر أن حالة الرامي تشبه حالة بكير في البدايات.. وأن سوداً أصابته شوكة في ظهره سببت له انتفاخاً وورماً لازمه حتى مماته ( 1) .. وأن الحمى التي أصابته إثر انغراز تلك الشوكة في فقرة من فقرات ظهره.. أطلقت..قدراته الشعرية ومعها قدراته على المعرفة والاستبصار والتنبؤ رغم عماه.
 

قطع
- يرى كولن ولسن –وهو غير بعيد عن الحقيقة- (أن العجز عن التركيز على الضروريات الكئيبة للوجود المادي يشمل كل الموهوبين الكبار في عالم الإبداع –خاصة أولئك الشعراء والفنانين الرومانسيين أمثال فان جوخ الذين ماتوا فقراً بسبب عدم القدرة على اكتساب العيش لأنهم مشغولون دائماً بالإبداع)
(انتهى القطع).
إن كل ذلك يوحي مرة أخرى –حسب ولسن- بأن عقولنا تملك قوى خارقة لا يرى معظمنا سبباً لاستخدامها على الإطلاق.. لأن مشكلة البقاء تتطلب أن نمارس الحياة اليومية وننغمس فيها وأن نكون مقيدين بعالمنا اليومي الذي لولاه.. فلربما كنا جميعاً أطفالاً عباقرة حاسبين.. أو أصحاب شفافية نفسية، ومن المحتمل أن نكون جميعاً عباقرة من الأدباء والفنانين إضافة إلى ذلك كله.
إن تلك القدرات –كما جاء في تعليقه على شواهد أخرى أوردها-.. قوة حدس.. تقطع عمليات الفكر الروتينية وتثب مباشرة من المشكلة إلى الإجابة.

***
 

بَحْثُ كولن ولسن الشيق يصل ذروته تحت عنوان (المخ المنقسم) إذ يورد ما يسميه كشفاً حديثاً في فسيولوجيا المخ.... وهو التميز الذي اهتدى إليه (ر. دابليو سبيري): بأننا ننقسم بالفعل إلى شخصين يعيشان داخل رؤوسنا في النصفين الكرويين الأيمن والأيسر من المخ.
الأيمن: يختص بالتمييز والتعرف والتذوق (الفني مثلاً).
الأيسر: يختص باللغة والمنطق والعقل.
الأيمن: فنان.
الأيسر: عالم.
ونحن في كل شؤوننا نعتمد على الأيسر مع الاستعانة قليلاً أو أحياناً. بل ربما نادراً بالأيمن.
وكلما تحضرنا أكثر وتمدّنّا أكثر وازداد احتياجنا للسرعة وولجنا عوالم الحياة المعقدة..اعتمدنا أكثر على الأيسر... العملي.. الذي يعالج المشاكل والتعقيدات اليومية الآنية.

 

ويقل اعتمادنا أكثر على الأيمن. فنكاد نستبعده تماماً ، ولذلك يبدو الإنسان المتحضر في مدنية اليوم أقل حدساً وشفافية واستبصاراً. كما أننا كلما كبرنا في السن نُسَلِّم أنفسنا أكثر للأيسر، ولذلك فإن أيام طفولتنا تكون أكثر وفرة من حيث الحدس والشفافية.. إننا ببساطة.. نقوم بشكل متواصل بِتَيْبِيْسِ الأيمن.. وتهميشه وإقصائه.. إلا أنه أحياناً في مواقف فاصلة قد يتدخل.... 
يضرب كولن ولسن على ذلك أمثلة مختلفة.. ولكني سأضرب مثالين مشابهين لأمثلته من داخل البيئة اليمنية فالسائق الذي يسوق سيارته في منعطفات طريق صنعاء/ الحديدة كثيراً ما يتعرض لفواجع مذهلة، تخيل نفسك مرة تقود سيارتك في تلك الطريق وقبل وصولك إلى أحد المنعطفات الحرجة شعرت فجأة برعشة في كل جسدك، وفوراً استنفرت كل طاقاتك لتكبح جماح سيارتك وتتفادى شيئاً مبهماً.. وفي أثناء فعلك ذلك ظهرت من خلف المنعطف قاطرة ضخمة.. كانت ستسحقك لو لم تصبك تلك الحالة من الارتعاش والتنبه.. مثال آخر من داخل البيئة التهامية... بيئة مبارك بكير وأشباهه: كثيراً ما نسمع أحدهم يقول: أنه كان واقفاً عند ثمامة أو دخنة أو دخل عشة في الظلام ليأخذ محزم عجور كي يضحي ثوره... فجأة – يقول ذلك الشخص-: شعرت برجلي تنتفض وديمي يزرب (جسدي يقشعر) فقفزت من مكاني... وإذا بذلك الثعبان.. الذي لو لم أفقز لكان قضى علي..
هنا في مثل هاتين الحالتين.. يكون الجانب الأيمن من المخ هو الذي خرج عن صمته وهو الذي أعطاك إشارة التنبيه بالخطر المتربص بك.

 

إنه إذاً المسؤول عن اختراق الزمن وعن الكشف والاستبصار، والمتصوفة الذين كانوا يعتزلون في السواحل والجزر والكهوف.. كانوا ببساطة يقومون عن طريق التدريب الطويل ورياضة النفس بفرملة المخ الأيسر من خلال تناسيهم للزمن والحياة ومطالبها اليومية، وصراعاتها المتكررة، ومن ثم استطاعوا إطلاق جانب المخ الأيمن فحققوا تلك النجاحات الباهرة التي صارت عندنا كشوفات وكرامات وتنبؤات تحرك جوانب كثيرة من حياتنا الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
 

(يضرب كولن ولسن أمثلة مشابهة حدثت في الغرب المعاصر فيورد قصة عن إحدى نجمات السينما المشهورات،... نصحت بالعزلة كعلاج لها من قلق وتعب نفسي ألم بها.. وحين اعتزلت شعرت في الأيام الأولى بعدم القدرة على الاعتزال ولكنها بمرور الأيام بدأت تعتاد.. وبدأت تتكشف لها عوالم لذيذة.. وهو ما فسره ولسن بكون الجانب الأيسر من مخها كان يقاوم في الأيام الأولى لاعتياده على العمل.. ثم ما لبث أن هدأ لينفتح المجال أمام الجانب الأيمن من المخ ليسير حياة نجمة السينما المذكورة).
 

وما يسميه كولن ولسن (الملكة إكس) التي يعرفها: بأنها ببساطة تلك القدرة الغريبة التي تدرك بغتة حقيقة زمان آخر أو مكان آخر) هو ما ينطبق على بكير وأمثاله.
الملكة إكس: اسم آخر للبصيرة، الومضة المباغتة للفهم، للمعرفة المباشرة، ولذلك لا نستغرب.. أن تروى لنا قصص.. عن ألغاز فقهية وجهت من علماء صنعاء أو غيرها إلى علماء مدن الزيدية والمنيرة والضحي... فحار فيها علماء هذه المدن.. فأنقذهم بكير الذي لا يقرأ ولا يكتب.. بقدرته على استبصار الجواب.

 

لقد أوردت أشهر القصص التي تتناول بدايات بكير أن الانتفاخ الذي أصابه (التزقيق/الاستسقاء) حتى عجز عن الكلام... لم يذهب إلا بعد لمسة المنصب لبطن بكير،، وتفجر موهبته بادئاً بقصيدته الشهيرة التي تكاد تنظم السيرة النبوية بكل مفاصلها... والتي لا يزال الناس حتى الآن في تهامة الأمي منهم وأصحاب الحظوظ المختلفة من التعليم يتعجبون كيف استطاع بكير أن يورد سيرة الرسول بذلك القدر الكبير من الكثافة والدقة والتركيز على أهم علاماتها وعناوينها.
 

وها هو كولن ولسن يفاجئنا بإيراد حالة مماثلة للروائي الإيطالي (جورج جيسنج) الذي أصابته الحمى في (كروتون) جنوبي إيطاليا، وبعد أن انتابه كابوس وقع في حالة هلوسة بصرية، أو رؤى وهمية رأى فيها سلسلة من الصور عن التاريخ الروماني وقد وصف هذه الصور بتفصيل دقيق بحيث تتعذر روايتها كاملة بسبب طولها.. غير أن (جينسج) نفسه لم يراوده الشك في أنه قد شاهد على نحو ما مَشَاهِدَ واقعية من التاريخ وليست مجرد صور خيالية.
 

*الحلقة التاسعة 
نشرت في صحيفة الثورة، العدد (15953) بتاريخ الأربعاء 16يوليو 2008م
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

الهوامش:
( 1) توفى الشاعر/ سود معمى في يوم الثلاثاء 25/3/2008م.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً