الاربعاء 27 نوفمبر 2024 آخر تحديث: الخميس 21 نوفمبر 2024
براثن العبث - مسعد السالمي
الساعة 13:25 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)


إلى قلب إب النابض بالحياة و روح الشهيد خليل المهنا.

متأملاً الرصيف بشرود لا آخر له، كان هناك يا للقسوة.. قالها غير منتبه.. حمل الأغراض إلى المنزل وعاد مهرولا إلى الحي القديم الذي ترعرع فيه برفقة (وائل و أشرف و أسامة) الرباعية التي عاثت طفولتها بكل مكونات المكان؛ حيطان، أعمدة، أرصفة، حتى الأحجار الصلدة المحشوة في الخرسانة بشكل عشوائي، ملامساً بأطراف أنامله كل ما يمر عليها لتناله برودتها تاركاً خياله يغوص في ذكريات لن تتكرر.
وائل ذهب إلى الغربة لكتابة حياة مختلفة عن أحلامهم، تاركا كراساته الدراسية لأدغال الحي لتلتحفها القطط وبعض الكلاب المتكورة برداً، أشرف انتقل إلى مدينة أخرى لاستكمال مشواره التعليمي، أسامة يفارق التعليم عنوة ملتحقاً بالجولة؛ لبيع الماء والفاين؛ تباً؛ نحن نتنفس هواء مدينة ماطرة سوياً ولا نلتقي، يا للهول رحلت أعوام لم أرَ أسامة سوى مرات محدودة، وهو يرف بقنينة الماء نحو سيارة أبي.. يا الله.. كيف سأقابل أمه وأنا بهذه البشاعة من الغياب؟ خطواته أكثر تيهاً وعيناه طائشتان في كل الوجوه عله يرى شخصا ما يعرفه، أثر لسجاد في باب المنزل لرجل منحنٍ حول نفسه:
السلام عليك.
ملوحاً بالاقتراب: أنا لا أسمع جيداً.
السلام عليك، هذا منزل الحاج عبده والد أسامة؟
أسند الرجل ظهره الى الجدار تاركا المجال لآهات كادت أن تخرج على إثرها رئتاه..
ماذا تريد ؟
أنا زكريا جئت أطمئن عليه. زكريا طيلة حياته في الحي لم يشاهد والد أسامة إلا نادرا جدا، في أوقات متباعدة، لعمله في مدينة المكلا، لا يقيم مع أسرته سوى أيام قليلة أغلبها أثناء المناسبات الدينية.. يكتفي بإرسال أقل ما يحتاجونه من النقود لزوجته وطفليه (أسامة و فاتن)، عاد أخيرا من غربته للاستقرار مع عائلته أثناء الاحتجاجات الشعبية التي خرجت لإسقاط النظام نفس فترة انقطاع أخبار الحي لدى زكريا تماما.
اجلس يا ولدي.. صاحبك له عامين مختفي ولا نعرف مصيره، لم نترك مستشفى أو قسم شرطة إلا وفتشت فيه، سألنا الكثير من كانوا معه في تلك الجولة اللعينة، الكل لم يعلم شيئا باستثناء واحد قال إنه رآه مع جماعة يتحدثون ويأخذون منه الماء لمدة أسبوع تقريبا حسب قوله، بعدها اختفت السيارة بمن فيها من الرجال، ولا يتذكر هل هو برفقتهم أم لا، تواعدنا للذهاب إلى مركز الشرطة لمعرفة الصور التي لديهم لمطابقتها مع من رآهم، نفاجأ للأسف بأنه قتل برصاصة راجع استقرت في مؤخرة رأسه ليفارق الحياة حينها في المستشفى، عدنا نجر أذيال الخيبة، إحساس يتملكني يا ولدي إنه لا يزال على قيد الحياة، لكن لماذا لا يتصل ويطمئننا؟ ولماذا يترك هذا المنزل؟ ومن أجل من؟ لم نستطع عمل المزيد ومنتظرون ما يختاره الله لنا، كم بوسعي أن أشرح لك وأنت ترى أنني صرت عاجزاً حتى عن حمل نفسي.
زاد يقيني بأنني سأجده وأعيده إلى هذا المنزل، لا أعرف حينها كيف غادرت وكلماته الأخيرة في وضع زوجته وابنته وترددهن الدائم على المستشفى قسم الأعصاب لاستكمال العلاج الطبيعي جراء الصدمة التي كادت أن تودي بحياتها منذ عام عندما انتشرت وشوشة خبرية عن مقتل ابنها. 
صار دوري للبحث بطريقتي عن أسامة، من على الانترنت كل العمليات الإرهابية وخلايا الدمار وتواريخ أحداثها، مدققا في صور كل منفذي العمليات الانتحارية لخلايا القاعدة، أعيد مطابقتها بما في ذاكرتي لشكل أسامة وبشدة علِّي أجد أي أثر، ولحسن الحظ لم أر أي شبه له مما زادني تحفيزا للعمل أكثر أولاً قبل أي شيء آخر.
لا أعرف كيف غفوت لأجد والدتي في صباح اليوم التالي تخبط الباب بشكل قوي زكريا انهض، أسرعت غير عادتي للقاء بوالدي لإخباره عما حدث.. كان على عجلة.. دعاني للحاق به، دخلت المكتب الذي لا أعي كيف وصلت بقدر ما يهم ما جئت من أجله، جلست في المقابل وكان هناك أصدقاء لوالدي، قلت ما علي حوّل أسامة ختاما حديثي بحماسة: علينا أن نعمل ما يجب!
رمقوني بنظرات غريبة وعادوا إلى بعضهم.. لاستكمال حديثهم بكل برود، لحظات يلتفت والدي إلي مبدداً شرودي وخيبتي: سنتحدث لاحقاً. معلناً فشل خطوتي الأولى، غادرت المكتب بكومة سخط لا حدود لها، عكفت على عدة اتصالات لذات الموضوع، عاد أبي ولم يناقشني أو يشِر إلى ذلك، ذهبت أيام عدة وربما شهر ولا جديد سوى غصة، تقتلني ولا أستطيع بلعها أو حتى نسيانها لأستريح قليلاً لمعاودة ما يجب.
صباح الأربعاء 25 ديسمبر بادرت بإخبار والدي إنني سأذهب إلى مركز الأعصاب لمقابلة أم أسامة وسأكون برفقتهم بقية هذه الأيام، لم يرفع ناظريه وببرود: ما تريده فقط كن حذر.
في بهو المركز، أقبلت أم أسامة مع امرأة يافعة حتى كاد الأمر يلتبس عليَّ إنها ليست فاتن، حييتهما وعرفت بنفسي ولماذا أنا هنا. زودت ببعض المعلومات وغادرنا سويا.. في الصباح الأخير من عام 2014م كان يبدو يوما مختلفا وأكثر حيوية، أمشي بصحبة العمة مريم إلى المستشفى على الإقدام؛ أحدثها بثقة كبيرة بأن أسامة لا زال على قيد الحياة، وسيعود من غربته عما قريب، أجدد الأمل لهذه الأم المتعبة قلباً، تنهال علي وأسرتي بدعاء يلين له الصخر ولفتاها الذي لا تعي جيداً ما حدث له باستثناء إيمانها السامق أنه حي يرزق، بضع خطوات على إثرنا فاتن، لحظتها نسقط في حضن الرصيف، انفجار ضخم يخرجنا مع المدينة من هدوئنا الأخضر، تحديدا باتجاه صالة المركز الثقافي التي في الجوار*، أحاول السيطرة على خوفي، أرى وجوه العابرين والهلع يتملكهم من هول الفاجعة، أصرخ بصاحب دراجة نارية بالكاد توقف لحمل العمة مريم إلى المستشفى، الحسرة تكسوني، وصول أكثر من سيارة لإسعاف الجرحى، حالة الطوارئ جنونية، تنطلق عربات الإسعاف قاطعة الشوارع المحيطة كسكاكين متوحشة محاولة أخيرة لإنقاذ ما تبقى من حياة للمتواجدين في مكان الكارثة، ذهابا وإيابا علي أسيطر على توتري، الدماء والأشلاء لا تزال تتدفق من اتجاه البوابة، ألعنه كثيرا كونه من أحدث هذه الفوضى ليقين كاد أن يقتلني أنه هو، يا الله، ماذا عساي أن أصنع..؟ صوت رخيم من الخارج: أفسحوا الطريق، الارتباك متسيد اللحظة مرضى وأطباء وإداريين، سماعات المستشفى تثرثر تنادي مرارا بأسماء الأطباء والإداريين، صوت آخر: البوابة يجب الإغلاق فوراً باستثناء الحالات الحرجة جدا من ضحايا المركز، قام المشرفون بإخراج المتواجدين في الممرات، وقع خطوات نحو الطوارئ تتسارع.. يشدني صراخ الجندي: ييييي أنت، لم يلتفت، يهرع الجندي خلفه سريعا شاحذا سلاحه: توقف.. توقف.. يتوقف قليلا غير ملتفت، تقدم إليه الجندي محذرا الجميع بالابتعاد، أتجمد في مكاني لمراقبة ما يحدث، بلمح البصر يتلاشى جميع من حولي باستثناء ثلاثتنا، أصداء جهاز الإرسال لا تزال مدوية في الحيطان: اقتله، سينفجر، إنه الهدف، اقتله، أتحرك خطوتين للأمام باتجاه الشخص المعني، أدقق في وجهه والصمت يتسيدنا جميعاً، يا للعنة، إنه أنت أسامة، اقترب خطوتين إضافيتين، لحظة يقيني كونه أسامة أنستني سيناريو كارثة ما قد يحدث، يصرخ الجندي.. ابتعد.. تتسمر قدماي، وأقف عاجزا مرة أخرى عن الحركة، يتبقى لساني المنزلق بسرعة إلى مرحلة الجفاف التام، تتأبطه الكلمات بتلعثم: أسامة أمك هنا في العناية من هول ما حدث. 
الجندي بشدة: سلم نفسك.. يصل كم من الجنود في الخارج يتحركون بشكل تكتيكي للغاية، بعض الجثث يتم نقلها من البوابة الخلفية بسرعة فائقة، الهلع يسيطر على المكان، أحتوي خوفي مبادرا بخطوتين إلى الأمام دون اكتراث: أسامة أوقف هذا العبث فجنتك هنا هي أمك، لا تصدق غير هذا، أرجوك يكفي، الجندي يصرخ وإصبعه على الزناد كلفظة أخيرة للتحذير، فالوقت ينفد وبسرعة في بقائه حياً: لقد انتهى الأمر أيها المأجور.. أباشر بقبضة كف أسامة لرفعها عاليا وبصوت لا أعرف كيف أعيد إلي: ثق بي، ستكون أمك بخير وستعود إليكم، أرجوك.. هيا.. استمع لما يقوله الجندي ارفع الأخرى.. أوقف هذا العبث بحياة الكثير وأولهم أمك، وهاهي أختك تنتظرنا في الخارج، الجميع بغيابك يموتون ألف مرة. لن يؤذوك ، صدقني سنكون بجوارك ثق بي، أسامة ثق بي، وللمرة الأخيرة، ينهار أسامة باكياً بطريقة هستيرية، قيام فرقة الهندسة بإلغاء الكارثة من على جسده وأخذه بعيدا عن المكان، أفاقت العمة مريم، غادرنا بفرحة لقاء أسامة وعودته من براثن العبث إلى قيد الحياة.
********************************************
*الحادث الإجرامي الواقع في صالة المركز الثقافي مدينة اب صباح الثلاثاء الموافق 31ديسمبر2014م في ذكرى المولد النبو ي وسقط ضحيته العديد من الأبرياء.

اليمن الحديدة 
5 فبراير 2017م 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص