الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رواية «يحدث في بغداد»: حربُ الكتابة على الواقع - عبد الدائم السلامي
الساعة 15:49 (الرأي برس - أدب وثقافة)



لئن ظلّ الفعل الكتابي العربي طيلة الخمسين سنة الماضية محكومًا بقانون «ما يُكتَبُ في مصر يُطبَعُ في لبنان ويُقْرَأ في العراق»، فإنّ ما عاشته منطقتنا العربية من حروب وغزوات وانتفاضات أوجدَ واقعًا للكتابة جديدا صار فيه الكلُّ يكتبُ والكلّ يطبعُ والكلّ يقرأ، وذلك ضمن حركة أدبيّة كبرى شجّعت على انتشارِها وفرةُ التكنولوجيا الحديثةِ ومثّلت فيها الروايةُ سبيلَ الكاتب العربي إلى الإنصات لأسئلة معيشه والانصباب بكلّ ما له من جُهد إبداعي على تفكيك ما يمور في جسده الاجتماعي والسياسي والثقافي من مَعاطِب وفوضى، مع نزوع لديه جريء إلى نقدها ضمن أفق انتظارٍ جمالي ودَلالي، واتسعت جرّاء ذلك خريطة الكتابة الروائية لتشمل كلّ أقطارنا العربية وبرزت فيها عناوين جديدة على غرار رواية «يحدث في بغداد» عن الدار المصرية اللبنانية للكاتب العراقي رسول محمد رسول.
وطن في مواطن

 

رواية رسول محمد رسول جديرة بصفتها الأجناسية، فهي تسريدٌ لوقائع المعيش العراقي وتنضيدٌ لمعانيه، بل هي تسرق القارئ من وقته وتزجّ به في وقتها فإذا هو فضاء لصراع ثيمات اجتماعية وسياسية وثقافية تنوء بشهوةِ المحوِ: محو كلّ شيء؛ الأرض وساكناتها وأفكارها، تفعل ذلك بفضل ما توفّرت عليه من قدرة على حكايةِ كمٍّ هائل من الفوضى، وكمّ هائل من الموت، وكمّ هائل من خيبة الوطن والمواطن إلى الحدّ الذي تتشبّع فيه ذاتُ قارئها بهول ذاك الواقع ويصيرُ فيها وجعًا من مفردات أوجاعها. والرواية إلى ذلك تُوقِع المتلقي بيُسرٍ في دائرة اندهاش ذاتيٍّ وناعمٍ هو سبيلها إلى استدراجه إلى أفق انتظارها من كلِّ فعل قرائيّ يكون الوكدُ فيه تأويل النص أفعالاً وأحوالاً. ومتى اطمأنّت الرواية إلى وقوع القارئ في سحر حكايتها رجّت الأرض من تحت يقينه، مُحوِّلًة إيّاه إلى نبعٍ سُؤاليٍّ يجري في أحداثها ويكون منها بمنزلة القارئ والمقروءِ معا. 
 

رواية «يحدث في بغداد» روايتان، واحدة تتسرَّبُ من أخرى، بل قل: واحدة تتخلّق من أخرى وتتصل بها شديدَ الاتصال؛ الرواية الأولى تتعنّى عبر راويها «سعيد الشبلي» وزوجته «مريم» مواساةَ أمِّ صديقه المتوفّى «مرهون الشاكر» والاعتناء بها والتخفيف من وحدتها، مع البحث عن فصليْن ضاعا من رواية ثانية بعنوان «ينحني الصابر للوجع» كان كتبها صديقه «مرهون» لكي يرسلها إلى ناشر لبناني. وفي خلال البحث عن ذينِك الفصليْن يترحّل بنا الراوي في طرقات بغداد وضواحيها وعائلاتها، ويصوّر لنا حال البغداديّ بعد الغزو الأمريكي وهو يعاني الخوف من التفجيرات المفاجئة والتشريد اليوميّ الواقع ضمن دائرة ويلات الحرب الطائفية التي تغمر العراقَ بكلّ عنفوانها الدمويّ في زمن «فَقَدَ فيه اليقينُ كبرياءَه، والإنسانُ كرامتَه، والذاكرة نصاعتَها".
 

والظاهر أن تصوير فظاعة الحرب لم يحضر في الرواية بوصفه إخبارا عن حال الوطن فحسبُ، وإنما حضر بوصفه وسيلة الكاتب لتصوير وجه من وجوهٍ امتزاج مأساة الوطن بمأساة المثقّف فيه – وهي مأساة ثابتةٌ في تاريخنا العربي وتزيدُ – على غرار محنة الكاتب «مرهون الشاكر» الذي دفع روحَه المبدعةَ ضريبةَ انهيار الواقع عليه بجميع منظوماته الثقافية والسياسية والاجتماعية التي لم تُمهله ليعيش طويلا، فلم يتعدَّ عمره «أربعة عقود وثلاث سنين أمضاها مُلتاعا بين الدراسة والقراءة والكتابة والعمل والجوع والخوف من رهبة الحروب التي دمّرت كيان وطنه المعذَّب حتى استحال إلى خراب موحش أفقدَه بهاءَه الذي كان عليه".
 

مِحْنة المثقَّف
لمّا حاصر الجيش العبّاسي مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية قال لمرافقه عبد الحميد الكاتب: «اُنْجُ بنفسك يا عبد الحميد، فإنهم إن قتلوني خسرني أهلي وحدهم، وإن قتلوك خسرك العرب جميعاً». هذا الشاهد التاريخيّ يُحيلُ إلى إمكان وجودِ صورةٍ من صورِ احتفاء السياسة بالأدب وتثمين وجوده بين الناس. ولئن كانت مثل هذه الصورة نادرة الحضور في تاريخنا كلّه فإن حضورَها في رواية «يحدث في بغداد» صار قرينَ تهميش المثقَّف وتهشيم صروح معانيه وأحلامه في وطن «أصبح الموت فيه معتادا، رخيصا، لا ثمن له، أولاد الشرّ يذبحون الناس على الهُويّة والمذهب والدِّين والثقافة والعِرق والأصل». 

 

ولا شكّ في أنّ واقعا بهذه المواصفات سيُجبر المثقَّف على اختبار محنة الوجود المنقوص؛ محنة الوجود على الهامش. وهي المِحنةُ التي تقصّدت روايةُ رسول محمد رسول تمثيلَها سرديّا عبر شخصية الكاتب «مرهون» وتفكيكها إلى مكوّناتها الأولى على غرار محنة الاسم ومحنة الأنثى ومحنة الكتابة.
 

مثّل اسم «مرهون» البابَ الذي دلفت منه الرواية لتأكيد وقوع هذا الكاتب في حيّز المفعولية بمعنيَيْها الرمزيّ والماديّ، إذْ تُحيل دَلالة هذه اللفظة في مستويَيْها المعجمي والاصطلاحي على كونه كائنا رهينة لشروط غيره، فاقدا لأيّ حريّة ذاتية تُخوّل له أنْ يكون فاعلا في تصريف أحواله واختيار مآله. وهو ما تجلّى في الرواية بأكثر من صورة، إذْ انفتحت صفحاتُها الأولى بإعلان موته إعلانا مَنَعَ عنه المشاركةَ الفعلية والفاعلة في أيّ حدثٍ من أحداثها والاكتفاء فيها بأن يكون موضوعَ إخبارٍ وحنينٍ، قانعا من أمره بأن يتدخّل صديقه الراوي «سعيد» لكي يُخلِّصه من عذابات ماضيه ويكشف عن حقيقته وينتصر له ولأدبه. وستظلّ هذه المفعولية اللغوية تَسِمَ حال «مرهون» في باقي وجوه محنته. إذْ يفقد زوجته الأولى «فاطمة البصري» التي «استُشهدت في حرب عام 1991 بقصف صاروخيّ هدم منزل أهلها شرق العاصمة بغداد»، ثم هو يلبّي رغبة والدته في أن يحافظ على نسل عائلته وذلك بتزويجه بـ "نُهى" من دون أن يكون بينه وبينها حبّ، إذْ هجرته في لحظات ضعفه ومرضه بالمشفى، بل وتفطّن إلى كونها تخونه مع رجال آخرين ستكشف الرواية في منتهاها عن كونهم متطرّفين استقطبوها وحفزوها لأنْ تفجِّرَ نفسها في أحد شوارع بغداد. وتكتمل محنة المثقّف «مرهون» بوجه لها آخر صورتُه محنتُه مع الكتابة، ذلك أن الرواية تكشف لقارئها عن أنّ الزوجة «نُهى» هي التي سرقت فصليْ روايته «ينحني الصابر للوجع» وأحرقتهما لأنّه كتب فيهما توصيفا لخياناتها له، وبذلك حرمته من نشرها مكتملة. والجليّ في محنة مرهون الكتابية وإصرار صديقه على البحث عن فصليْ روايته هو نزوع رسول محمد رسول إلى تبليغ قارئه حقيقةَ أنّ الكتابة الروائية ليست وسيلة للتلهّي بنقل الأحداث وتوصيف الشخصيات وتحديد أفضيتها المكانية والزمانية وبناء قصص الحبّ، وإنما هي ميدان للحرب، بل هي فعل حربيّ: حرب الكتابة على الصمت، وحرب المتخيّل على الواقع، وكأنه يعلمنا بهذا التأكيد أنّ انتصار الإنسان العراقي على الحرب المشتعلة في بغداد لن يتمّ إلا متى أعلن المثقّف حرب الكتابة عليها.

منقولة من القدس العربي ...

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً