الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
تحت ظل الكتابة هواجس القراءة - أمير تاج السر
الساعة 15:04 (الرأي برس - أدب وثقافة)



كنت، وما زلت، في كل فرصة سانحة، أتحدث عن الخبرة في القراءة، تلك التي تعادل الخبرة في الكتابة، بمعنى أن القارئ الذي يواجه نصاً معيناً، فيه تفاصيل كثيرة، وغالباً مصوغة بخيال خصب، لكاتب ربما كان متمكناً في صنعته، أو مبتدئاً حتى، ينبغي أن يكون مسلحاً بخبرة ما، تعينه على تلك المواجهة، وحتى نحصل على لقاء متكافئ يستفيد منه كلا الطرفان: الكاتب بما يجده في ردود الأفعال السلبية والإيجابية، والقارئ بما يجده في النص من معرفة ومتعة، وبالطبع قد يحاول الكاتب تلافي نقاط ضعف ربما وردت في نصه، ونبهه إليها قارئ متمكن، في نصوص مستقبلية يكتبها.
 

لقد تحدثت من قبل عن نقل المتخيل من وصف المدن والناس والشوارع، من داخل النصوص المكتوبة، إلى الواقع المعيش، بواسطة قراء غير متمكنين كفاية، والعكس حين تنقل أشياء مهولة من الواقع إلى داخل نصوص لم تكن مرتعاً لها أبداً. قلت إنه ليس بالضرورة أن يكون سكان قرية ما، في بلد ما، ولد فيها الكاتب، وعاش بها زمناً، واستخدم أسماء ربما كان بعضهم يتسمى بها في القرية، هم أنفسهم الموجودين داخل نص كتبه بعد ذلك، والقرية التي اسمها في الواقع، قد يشابه قرية النص، وقد يختلف عنه، ليس بالضرورة هي مكان ولادة الكاتب، وحياته لفترة من الزمن، وقد ضربت مثلاً بأشخاص عاشوا في قرية تخيلية للطيب صالح، جرت فيها أحداث رواياته المعروفة، أوجد لهم الناس بدائل واقعيين، وطاردهم الإعلام بعد موت الطيب، بحثاً عن ذكريات معه لم تكن لديهم في الحقيقة، وشاهدت بعضهم في التلفزيون، يحاول مجاراة استجوابه بواسطة الباحثين عن تلك الذكريات، ويصطنع أشياء لم تحدث، وواضح من لعثمته، أن تلك الأحداث لم تكن واقعاً قط.
 

وبالرغم من أنني أتوقع أو في الحقيقة، أقر بأن شذرات من السير الذاتية للمبدعين، سواء في مجال الشعر أو القصة، قد تتسرب إلى أعمالهم، خاصة الأولى، وتمتزج بحيوات الشخوص المخترعين، إلا أن المسألة ليست بخطورة التصور العام، وإنما هي أشياء بسيطة جداً، لا تعتدي بشراسة على خيال الحكاية وتجرحه أو تمزقه، ولا تضيف سوى بهار، ليس هو البهار المهم للنص، فإن كان الكاتب في صغره وفي قريته التي ولد فيها، يذهب إلى مدرسته على قدميه، أو راكباً حماراً مسكيناً، ربما نجد شخصاً في النص يفعل المثل، وإن كان الكاتب أحب يوماً فتاة بمواصفات معينة، فربما نجد مواصفاته تلك، وقد ارتدتها شخصية نسائية في النص، وإن كانت في القرية أساطير عن الجن، يتداولها الناس، وعاش الكاتب جزءاً من رعبها، فقد نجد تلك الأساطير بالرعب ذاته، في نصه، هكذا.. بينما معظم لحم النص، من خيال صرف للكتابة الإبداعية، اشتهرت به وترتديه في أي وقت، ولن تكون اسمها الكتابة الابداعية إن لم ترتده.
 

قرأت مرة في موقع على الإنترنت، من تلك الواقع الكثيرة، الصاخبة، منشوراً لقارئ يتحدث عن رواية معينة، يقدمها لأصدقائه، وينصح بها، كانت كما أذكر، تتحدث عن عامل في السكة الحديد، يمارس عمله بجدية، ويحلم كثيراً، ويود لو حلق بحلمه بعيدا جدا، وأصبح قائد أوركسترا، ويستمر العامل في تتبع الحلم ليصبح كذلك بالفعل بعد سنوات، وذكر القارئ وهو يقدم الرواية بأن كاتبها كان عاملاً في السكة الحديد، وأصبح قائد أوركسترا.
 

هذا بالضبط ما كنت أتحدث عنه، نقل العامل الراوي في النص إلى الواقع بلا أي تفكير، أو محاولة تفكير، وجعله كاتب الرواية الأصلي، لقد اعتقد القارئ بصدق أنها قصة عامل حلم وحقق حلمه، وقدمها لأصدقائه ربما نوعاً من ضرب المثل على الجلد والتحمل بغية تحقيق الأحلام. الكتاب لم يقل بـأنه سيرة ذاتية، والكاتب يعمل في مجال آخر لا علاقة له بشق الطرق وصيانة القضبان الحديدية، أو الموسيقى، لكن القارئ بخبرته البسيطة في القراءة، تجاوز عن كل ذلك، وجعل ما بداخل النص، خارجه، أي ما بداخل الافتراض، هو فعل مقترف في الحقيقة، سيقرأ كثيرون النص، وسيعجب البعض ولا يعجب البعض الآخر، وربما لا ينتبه أحد أبداً إلى أن ما قرأه مجرد خيال لا علاقة له بأي شيء سوى الخيال.
 

وفي نص آخر لكاتب آخر، تحدث مطولاً على لسان إحدى شخصياته عن مرض عصبي، مزمن وعنيف، أصاب الشخصية، وكتب قارئ أن الكاتب مصاب بذلك المرض ويعرض تجربته. وكان من الأشياء الطريفة، أن تحول كاتب إلى مخبر، بسبب أن شخصيته الرئيسية في إحدى الروايات، كانت لمخبر، يراقب الناس ويكتب التقارير.
 

شيء مهم أيضاً في هذا السياق وأظنه يساهم في غرس التصورات غير الحقيقية لدى القراء غير الخبراء، وهو أن يروج الكاتب نفسه لنصه الروائي، بوصفه سيرة ذاتية بينما تكون السيرة مجرد شذرات داخل النص، وقد يكون بالفعل سيرة حقيقية مثل الرواية الضخمة: قصة عن الحب والظلام للكاتب الإسرائيلي: عاموس عوز الممتلئة بكل ما هو خبيث في الدنيا، وأعني هجرة الكاتب وأسرته إلى الأراضي الفلسطينية، ومحاولة تلوين حياتهم هناك بألوان لا تناسبها، وكيف أنهم كانوا لطيفين ومؤدبين، ويعانون بشدة من إرهاب أهل الأرض. والخبز الحافي للمغربي محمد شكري التي كانت دقيقة جداً في تقصي ماضي وحاضر كاتبها بلا مواربة، وكانت سيرة حقيقية مرعبة. لكنها ليس النموذج الذي يمكن تعميمه على الكل، ومن الممكن اعتبارها رواية استثنائية كان لا بد أن تكتب، ذات يوم وكتبت بالفعل.
 

بالنسبة لذكر المدن والأقطار في النصوص، فهذه معضلة أخرى، تستقطب أيضاً كثيراً من عدم الخبرة، عند مواجهتها داخل النصوص، وقد يصبح الكاتب فجأة محل مساءلة جادة، أو توبيخ، إن أعمل خياله قليلاً واخترع شارعاً غير موجود في مدينة ما، أو كتب عن سوق ربما لم تكن ضاجة في الحقيقة، كما ذكر هو في النص، أو حتى استخدم مواد معينة لبناء البيوت، ولم تكن تستخدم في الحقيقة، وأذكر أن كاتباً صديقاً، تحدث عن بيوت للمنكر، في حي ما، في إحدى المدن الصغيرة، كان وجودها التخيلي، يكمل حكايته التي تدور أحداثها في المدينة وذلك الحي بالتحديد، ولديه شخوص، يغشون تلك البيوت، وواجهه أحد سكان الحي مصادفة، في إحدى الندوات، ليخبره بصرامة، وتشنج، أن ذلك الحي، لم يكن يضم بيوتاً للمنكر قط، وإنما هو اخترع تلك البيوت لتشويه سمعة حيه. نعم، هو اخترعها من أجل الحكاية، ولم يكن يظن أن هناك من سيجرها للواقع.
 

أْعتقد أن الأمر عموماً، يخضع لحسن النوايا وليس لسوئها في معظم الحالات، وما لم يوضح الكاتب أكثر، تظل المسألة، وأعني نقل الواقع إلى المتخيل، والعكس، محور تفعيل دائم من كثير من القراء، وقد انتشرت في فترة ما عبارة أضحت الآن مخضرمة، كان الكتاب يعتبرونها مهمة من أجل قمع أي تدخل قرائي في نصوصهم، تلك العبارة كانت تكتب في الصفحة الأولى للكتاب وتقول: إن الأحداث، والشخصيات في هذا النص، محض خيال، ولا علاقة لها بالواقع من قريب أو بعيد.
 

العبارة انقرضت في السنوات الأخيرة، ذلك أنها فقدت سحرها الأول، وسطوتها الأولى، ولن يصدق القارئ غير المتمكن في الوقت الحالي، إلا ما يريد أن يصدقه، لا يكفي قراءة عشرات الكتب، ولكن كيف تهضم؟

منقولة من مجلة الإمارات الثقافية ...

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً