الاثنين 23 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
رواية "الأسواد يليق بك" جدلية الحب والإرهاب - علي أحمد عبده قاسم
الساعة 21:14 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 

إذا قرأت شيئاً من روايات أحلام مستغانمي، فإن الذي يأخذك من تلك الروايات اللغة الفلسفية العالية، اللغة التي يمكن القول عنها فوق الشاعرية والذاتية؛ لأنها تخاطب الوجدان والذات وتلامس شغاف المتلقي، بوصف كل جملة خطاب وتجربة، ولأن أحلام مستغانمي الروائية الجزائرية أخذت من الشهرة الكثير، بدءاً من روايتها (ذاكرة الجسد)، إذ تختم المجموعة بالروايتين (فوضى الحواس وعابر سرير)، وكنت أقرأ في روايتها الأخيرة (الأسود يليق بك) والتي صدرت في 2012م عن مطابع نوفل دمعة الناشر هانشيت أنطوان بيروت لبنان 2012م، والتي تحاكم فيها الحب كما في مجموعتها الأولى، إلا أن هذه الرواية تحاكم الحب والعشق الجديد الذي دخل فيه الوسائل الحديثة الالكترونية، وتناولت الإرهاب كتفصيلة مناقضة مع عموم الحب، والذي أخذني في الرواية لغتها الرفيعة بأسلوب الروائية الناضج والذي يستمد روحه من الثقافة الواسعة الممزوجة بالثقافة الأوربية خصوصاً الفرنسية، وسأبدأ بعرض شيء من تلك اللغة التي أصبحت ظاهرة في روايات أحلام لاسيما في المقدمة والتي تعتبر تمهيداً لأحداث الرواية وتمهيداً وجزءاً من أحداثها وبنائها، وأظن أنها اختزلت الأحداث في المقدمة السردية الغيرية.
 

 

ففي رواية (الأسود يليق بك)، تقول عن الحب الخاسر "سيف العشق كسيف الساموراي من قوانينه اقتسام الضربة القاتلة بين السياف والقتيل"، على الرغم من الصورة التشبيهية والتي تعتبر سهلة إلا أن عمق الأثر في النفس للقارئ يجعلها من أروع المؤثرات العميقة في المتلقي، وتردف الروائية "كما يأكل القط صغاره، وتأكل الثورة أبناءها، يأكل الحب عشاقه، يلتهمهم وهم جالسون على مائدته العامرة".
 

 

لعل روايات أحلام، تود أن تخفف الحدث الجاف على القارئ وتسلك منهجاً جديداً في مقدمة سردية لإبراز المعاناة بصورة رفيعة المستوى حتى تعكس للمتلقي نصاً لغوياً ممزوجاً بتقنية الرواية، ولذلك تكون بصمة الكاتبة لها خصوصية وفرادة، ولقد قالت في روايتها (ذاكرة الجسد): "إن الكاتب الحقيقي من يجبر القارئ على قلب الصفحة"؛ لأن المقدمة تكمن أهميتها في جذب القارئ والاندهاش لإكمال القراءة، لذلك يرتكز الوصف في الرواية خصوصاً في المقدمة على استخدام التركيب الجدلي الفارق ليصل بالقارئ إلى حالة من الإعجاب والاندهاش، فعندما تصف الشخصية الرئيسية في رواية (الأسود يليق بك) يقول السرد الواصف: "إنها إحدى المرات القليلة التي تمنى فيها لو استطاع البكاء لكن رجلاً باذخ الألم لفرط غيرته على دموعه اعتاد الاحتفاظ بها، وهكذا غدا كائناً بحرياً من ملح وماء" ص22.
 

 

استخدام التراكيب الفارقة والجدلية في المقدمة "باذخ الألم، كائناً بحرياً من ملح وماء"، تعطي القارئ المساحة الحقيقية والإثارة السردية لدخول أحداث الرواية، مما يحول المقدمة الروائية إلى تقنية محكمة يبدو أن الكاتبة تعكف عليها شهوراً لتكون خليقة بتمهيد جذاب للمتلقي وبداية بناء وتأسيس قوي لعالم الرواية. 
 

 

لذلك كان النص يهتم بالجانب السردي التمهيدي لمدخل مترابط ببقية الأحداث، ويهتم بالبناء مما حول النص إلى نص روائي ولغوي بديع، فالمقدمة السردية في روايات أحلام مظهراً متميزاً لتتكون بذرات البناء العميق، سواءً في زمن الكتابة أو القراءة المستمرة مما يفضي إلى تكامل فارق، فتتحول المقدمة السردية في رواياتها إلى مناقشة مستفيضة للقضية من جوانب مختلفة، فهي بهذه الرواية تحاكم العشق والحب العاطفي من كل الجوانب خلافاً لمناقشة الحب الثورة في رواية (ذاكرة الجسد)، ففي السطور الأولى من الأحداث ناقشت معاناة العشاق من العشق نفسه، فكانت صورته كسيف الساموراي وكالقط الذي يأكل أبناءه ليعيش هو، فكان الاختيار لهذه الجزئية في المقدمة له بالغ الأثر لتغدو المقدمة الروائية نظاماً مترابطاً لعلاقات متشابكة يعتصرها الألم والامتداد، ومن ثم تناقش المقدمة دخول عالم التكنولوجيا، عالم الحب والعشق ونتائجها على العشاق والحب "يوم شاهدها لأول مرة تتحدث في حوار تلفزيوني، ما توقع لتلك الفتاة مكانة في حياته، فلا سمع باسمها يوماً ولا هي كانت تدري بوجوده… كان واثقاً أنها لا تتوجه لسواه، فما كانت أبهتها إلا لتحديه" ص13.
 

 

فكانت هذه الجزئية كبداية حبكة الأحداث تعكس قدرة وابتكار الكاتب في بناء المقدمة الروائية لتكون عتبة سُخرت فيها الإمكانيات الروائية لتغدو سياقاً لعالم الرواية وأحداثها ليطلع المتلقي على التفاصيل ويلتفت الروائي للعالم العصري حتى يحقق التشعب لعالم العشق والحب، "الحب لا يعلن عن نفسه، لكن تشي به موسيقاه… وإن الله خلق هذا العالم المبهر كي لا تستطيع أمام عظمته إلا تتحول إلى كائنات موسيقية تسبح في جلاله في تناغم الكون". 
 

 

فكأن الترميز اللغوي للمعاناة، حيث وصف النص الروائي معاناة العشاق بذبحة سيف الساموراي والسيف نفسه، وكان القط رمزاً للعشق الأناني، وكانت الضحية المحبون والعشاق، فتكريس كل الإمكانيات السردية واللغوية عامة سيفضي مقدمة روائية ناجحة وعتبة تختزل قضية الرواية ليتحقق البناء المترابط ويتحقق رسم العالم العصري المتناقض.
 

 

ولعل العنصر المسيطر في الحوار في المقدمة، الحوار الداخلي بمصداقية عالية ليتحقق التأثير البالغ في المتلقي وفي نقل أحداث الرواية بواقعية، وتنوع الانتقال في الحكي ما بين الماضي والحاضر في المقدمة السردية، حتى تأتي الإثارة والجذب أعمق وأكثر إبهاراً، فضلاً عن التنوع في الأسلوب ما بين اللغة التصويرية الفلسفية إلى لغة الحكمة والعقل، ليكون التأثير أبلغ في المتلقي "الحب هو ذكاء المسافة، ألا تقترب كثيراً فتلغي اللهفة" ص44.
 

 

وإذا كانت الرواية تحاكم الحب العصري المجاني، فإن المقدمة حاولت أن ترسم هذه الظاهرة بأروع تأثير "أي حدث جلل أن يخط المرء "أحبك" بيده، أية مجازفة أن يحتفظ برسالة إلى آخر العمر.. اليوم "أحبك" قابلة للمحو بكبسة زر هي لا تعيش إلا دقيقة ولا تكلفك إلا فلساً" ص34.
مما يعكس أن الرواية والكاتب يصور الأحداث العصرية التي طرأت على حياة المجتمعات كالإنترنت والمحمول، ليتسنى للحدث الروائي مناقشة الزمن الجميل وصفاء زمنه، ليتحقق العمق والتأثير والاستمرارية، وإن الزيف أصبح ظاهرة عالمية حتى في الحب، ولكي يتكون الصراع، فإن المقدمة حاولت أن تناقش الحب وتناقش تفصيلة الإرهاب، "كذلك التلميذ الذي نقلت الصحافة الجزائرية قبل سنتين قصته قد اقترف جرم كتابة "أحبك" ووضعها على طاولة في الصف، وما أن وقع الأستاذ على الورقة حتى ألغى الدرس وأعلن حالة استنفار عن صاحب الرسالة وطلب الأستاذ من التلاميذ كتابتها وإحضارها إلى مكتبه لمقارنتها انتهى التدقيق المجهري بعثوره على الجاني، أثارت القضية ضجة بين التلاميذ جلهم وافق الأستاذ في إدارته "الجرم" الذي ارتكبه تلميذ لم يبلغ سن الرشد العاطفي، بعد أيام نقلت الصحافة أخبار مذبحة بن طلحة التي نحر الإرهابيون 500 قروي" ص35.

 

 

فكأن المقدمة الروائية تحاكم ذبح العواطف منذ الطفولة، وذبح الجمال من سن البراءة ليرتسم السواد في هذا العالم، فكان ارتداء للأسود شخصية القصة "هالة" لم يكن إلا احتجاجاً على الزمن لأنه لا يليق بالزمن إلا السواد والظلام باعتباره مجارٍ له، مما أفضى أن المقدمة اختزال نصي لظواهر العالم المتخلفة، مما ترتب عليه صراعاً في نفسية القارئ والمتلقي وإعجاباً في البناء المحكم والأسلوب "إن امرأة لا تخشى القتلة تخاف مجتمعاً يتحكم حماة الشرف في رقابه، ثمة إرهاب معنوي يفوق الإرهاب" ص16.
 

 

وإذا كانت الرواية تحكي سيرة غيرية بإعادة حركة التراقص مع الكون والتغير مع الذات، بتحريك ذاكرة الحب الرماد فإنها بذلك تحاول أن تعطي درساً في الحب الصادق وعدم الاستسلام والهزيمة من خلال شخصية الفنانة "هالة" والشخصية المقابلة لها "طلال"، لإعادة الحركة للعواطف محاولة حتى يتحقق للشخصية شيء من التوازن والقدرة. ولقد ناقش المقدمة الحاجة للحب باعتباره حاجة إنسانية، ومن خلال المقدمة رسمت الرواية هذه كبرياء المرأة والرجل، مع حاجة كل منهما للآخر، "هذه المرة أخذ أجمل بذلات جديدة، يجب أن يتحرش بالجمال وأن يرتدي أجمل بذلاته؛ لأنه موعد مع أنثى تدعي الحياة"" ص20.
 

 

ولأن المقدمة اختزال وعتبة نصية، فإن بداية الحبكة من باقة الورد التي أهديت إليها من مجهول والتي حملت عبارة (الأسود يليق بك)، حيث يقول النص: "أياً كانت الكلمات والألوان، كانت جاهزة للتعثر بأول حب تضعه الحياة اليوم بالذات في طريقها" ص39.
 

 

ولعل الرواية برمتها تبحث عن الحب بمعناه الشامل، لاسيما وإنّ النص الروائي يحاكم الحب بمقابل الإرهاب، سواءً كان أيدلوجياً أو إرهاباً متخلفاً، يتمثل بالفكر المتقادم الذي يرى أنه كل شيء ويمانع الجمال ويتمثل حتى بالمستغل للأرض والإنسان "المستعمر أو الحاكم"، وعند قراءة روايات أحلام فإنك تجد أنّ القراءة لذاتك وللواقع من خلال اللغة الشاعرية المتفلسفة بجدلية ووضوح وبناء روائي يعكس قضية عصرية ممزوجة بالتاريخ عبرة ومحاكمة، مما يفضي أن المتلقي يرغم على تقليب الصفحات منخطفاً بالأسلوب الشيق، ويكفي دلالة العنوان (الأسود يليق بك)، والذي يشير للتميز والتفرد والسخط والنقمة على الواقع، ويشير للجمال بوصف "وردة التوليب" جميلة ورائعة وذات رائحة عطرة ووسطها أبيض، مما يشير إلى أن السواد ظاهري لكن في الداخل الجمال والصفاء والحب وإضفاء الحب والجمال على الواقع وكأن الكراهية ما هي إلا شيء عارض والإنسان والمجتمع، وكان العنوان معادل للشخصية الروائية المتمثلة بـ"هالة" ومعادل موضوعي للجزائر التي كلها جمال وحب زاخر، وكأنّ اللون شيء عارض يماثل التخلق والفكر، وما هذه القراءة في عتبة دلالة "المقدمة الروائية" إلا انخطافاً بالأسلوب واللغة والثقافة والبناء. وقد يعكس العنوان مرحلة ما، ويأتي بعد ذلك التغير والتخلص من السواد.
 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً