الثلاثاء 24 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
قراصنة الربيع ـ منيف الهلالي
الساعة 18:36 (الرأي برس ـ خاص ـ أدب وثقافة)


هي.. والعكاز في يدها اليمنى، تحدب آخره، وذاك المدى، الذي يجمع بين انفصاله عن شرة الرمان، التي ما عادت هناك, وتلك الصورة الأسطورية التي تمثلها تجاعيد وجه الربيع.. 
قالت وتأبطت عكازها: 
كنت ألتحف البؤس في كوخي البعيد، متدثرة بسكونٍ قارس، حتى أتى رجع ثورتكم فزلزل مرقدي، وأشعل فتيل الأمل، الذي خلته مات في أعماقي أو يكاد.

رجعٌ قدّ صمت الكوخ صداه، فانبرت روحي تصافح مقدم الفجر الجديد، وتنازع الساحات ضوءه .. بيد أن الشمس حين لاحت وأضحت كل الدروب المغتصبة تؤدي إلى المنصات، تدحرجت أحلامنا نحو الريح، والتصق يسيرها بعمامة الشيخ القبلي، الذي ما إن تمترس خلف نظارته السوداء صارخاً: نحن نعاني كما تعانون .. حتى أسقط بقايا حلمنا، وأرسب لهيباً فوق كف الغيب، ما تزال الأيام تتلظى بجحيمه حتى تنتفض الأرض وتلفظ رفات أمجادهم.

أقبلتُ تائهة الخُطى، أستنجد النور المُخبأ فيَّ، كي يمررني خلسة في زحمة الغازات، على تلك المساحة السرمدية، حيثُ كعبة الثورة.. وهناك وجدت في صدر المكان رجالاً، كلما حانت صلاة توضؤوا بدمائهم، وولوا وجوههم شطر الزحف، يرجون الخلاص بإحدى الحسنيين، بينما بالقرب منهم تناسلت الخيام, تكاثرت اللحى، تسابقت الأقدام صعوداً إلى مكبرات الصوت, تزاحم المتبرئون من رجس النظام السابق على أبواب التوبة..
وقف الأب موزعاً صكوك الغفران، ومبشراً بالكرسي، وبالحوريات البيض، اللاتي ينتظرن بشوق في خزانات البنك المركزي، وبين يدي المانحين وأصدقاء اليمن.. تمترس البائد خلف عقال البعير، الذي منحه حصانة الأرض دون السماء.

                                                       * * *
جثا الحبر على صفحات الغيم فاختنقت المفردات في حلق المدينة..
ما زلت أسمع دبيب مسيرة الحياة مستنشقة للغازات، التي امتلأت بها سماء جولة (دار سَلْم), وما زال هدير الشباب يدوي في الآفاق، التي ترقبهم بدهشة وهم يزيحون الجليد من أمام قراصنة الربيع، بينما يتجهون إلى الهامش بصمت، لعل رب الفرقة أراد ذلك، أو لعله رب الحصبة، أو قد يكون ذلك نكاية برب السبعين، الذي أمطرهم بوابلٍ من العنف.

يا إلهي..! 
تعدد الأرباب هنا، وباتت الغاية التي استنهضت سباتنا محصورة بين الكفر بأحد الأرباب والإيمان بالآخر.. 
لكن, هل تذهب كل الدماء التي أُريقت هدراً..؟ 
يبدو أنها كذلك. 

لعل اليد الآثمة، التي امتدت في الأمس إلى تضحيات "الزبيري" ورفاقه، هي نفسها التي سعت للإبقاء على وريث العرش ومغتصبه، كيما يعيثان فساداً بما لم تطُلْهُ آلتهم العسكرية المتوحشة، وهي نفسها، التي كلما نفضنا غبار القبيلة المقيتة عن كاهلنا، باغتتنا بريحٍ صرصرٍ عاتية تقض مضجعنا وتدفننا تحت رمال الجهل والتخلف والرجعية مرة أخرى. 

إننا نرى مخالبها بين ظهرانينا لكننا – كرهاً- نغض الطرف..!!
هل جبُنّا إلى هذا الحد..؟ أم أن تلك اليد، التي ارتكبت رهقاً، أكبر من قدرتنا على بترها، ولن يقدر عليها سوى أولئك الذين يتربصون بها كما تتربص بهم.
لكن، أي تربص هو ذاك الذي تهتز معه البطون فتتزاحم حوله الاستفهامات التي ـ قسراً- تقذفنا إلى ضفة الصمت..؟!
في الحقيقة، كلاهما يتربصان بنا وبثوراتنا، وبالأمل الذي أومض بريقه من هناك.. من تلك المدينة التي يقف (السلطان) متلصصاً على جناحها الأزرق، غير أننا لا ندرك ذلك!
وحدها الأيام كفيلة بتعرية حماقاتنا وتواطؤنا المَعِيب مع دعاة الرجعية والتخلف وعتاولة الفساد.. أما أنا، فقد بات لزاماً عليَّ أن أصبح ريحاً وأغادر فوضاكم إلى كوخي المغتصب، تاركةً تلك السواعد المغتالة، في حضرة وطن مثخن برائحة الموت وأشلاء الأبرياء، وتلك الأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة، التي تأكل ما تبقّى من الجسد والحلم المسروق.

أغادرُ، لا لأني أميل إلى كفة ذلك المحتال الذي صارت تلاحقه اللعنات, حتى أصبح هذيانه يتعب من حوله؛ إذ لا يفتأ - بعدما نهب كل شيء- ينفث سمومه في ذلك الجسد المترنح حد السقوط.. لكن، لأني ما عدت أطيق تدجين الثورة وإحراق الخرائط النهضوية، التي رُسمت بالدم القاني, واستبدالها بأخرى مقاساتها مغايرة، كما حبرها.

                                                           * * *
كنت قريباً من فمها، مذهولاً سألتها:
لماذا كل هذا التشاؤم وقد استنهضتك الرياح التي قذفت بــ "الزعيم" خارج دائرة التسلط، فكان لك وللجماهير التي زحفت إلى الساحات مبتغاكم..؟!
أجابت: ذلك أن اللون الأحمر مازال جالساً على مسافة بعيدة من مآسينا قريبة منـ...
تركتُ تلابيب الصمت التي كنت أتشبث بها، وأمسكت بحروفي الكبريتية المشتعلة.. سألتُ، وكان حتماً عليّ أن أسأل: أين هي المعجزات الخارقة التي كان يتحدث عنها نبي الثورة، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه..؟!!
قالت: دعك من هذا الهراء الذي جلب لنا البؤس والنكسة، ودعني ألتفت إلى ذاتي التي انشغلتُ عنها..!!
فماذا إذن عن زوجك، الذي سجدت المصادفة على مآقيه النائمة..؟!
زوجي.. (عبد الرب)، أطال الله عمره وشواربه.. ذلك القدر المفقوء.. لقد زوجوني به لفرط احتياجهم للعبة لعينة، فهجرني منذ الوهلة الأولى لزواجنا وبدأ يلفلف أنفاسي.. وتلك العصي، التي جمعتها منذ بزوغ فجر ثورتنا الأولى، ليحملها على ظهور الحمير ويرسلها إلى الجنوب..
لعله شطط الدنيا راوده الانفصال عني والاستقرار في كنف الرذيلة.. تُرى هل ستصبح نبوءتي واقعاً مأساوياً، تنتصب بعدها مقصلة التاريخ لتشطر قلبي، عن قلبي وتبتر بقاياي عني لترميها في مهب الشرق الأوسط الجديد، عبارة عن قطع صغيرة لا روح فيها ولا نبض.. تعافها المساحات، وتنفر منها الجهات..!
يا إلهي.. ماذا قلت وبماذا هذيت..؟! 
لعلك استدرجتني إلى مأتمي..! ما لي وللشقاء الذي تجرني إليه..؟!
حسبي أنني وزوجي ومودة تتخلق بينا، وإن كان يصلي طائفاً، ما زلت أمنيني تلك السجدة، التي تقدسني وتذهب به أجراً مكتوباً. عسى رياحاً تتنفس كوخي حياة مضيئة...

                                                           * * *
يبقى الانتظار شاقاً، إنما، علينا أن نتدرب على المشقة والصبر، عسى نثأر من ازدواجية الفصول وتماثلها.
فامضِ .. دربك الطويل يتهجى ذهابك، بينما عكازي تشير حدبته نحو كوخي النائم في حضن المساء، ربما نلتقي في ربيعٍ آخر أكثر نضارة وبهجة.. ربيعٍ كلما بسمت ساحاته بكى الغمام، ومتى تحققت أحلامه غنى الحمام، وجالت دموع الفرح في وجنات النهار، وفاح نسيمه العاطر في الآفاق، منتشياً يصافح الضوء ويقبِّل ثغر الغد المشرق.. ربيعٍ تحيك الأجيال من رونقه البهي عباءة منظومته الحاكمة، كميا تغطي ذلك الجسد العاري الذي تآكل من الداخل..
آهٍ آه .. الطريق أصبحت أطول مما مضى.. لقد تأخرتُ كثيراً.
مَضَتْ .. والحيرة تتعاظم.

                                                         * * *
فتحتُ نوافذ صدري، علّ نسمة ربيعٍ ضالةٍ تأوي إليَّ، غير أن ثاني أوكسيد ثورتهم كان يغطي سماء المكان.. استنشقت ما يسد رمق رئتي، وبألمٍ موجعٍ أخذتُ وضع الابتسام وتظاهرت بترتيب أوراقي، المنزعجة من الغياب .. قبل أن أغلق نوافذ صدري، لأعيد التفكير مرة أخرى في ربيعٍ جديدٍ، نغزل أزهاره بأيادٍ مضيئة وبسواعد لا تلويها الزوايا المنكسرة..!

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً