الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
السخرية في الكتابة القصصية عند القاصة اليمنية جليلة الأضرعي - مصطفى لغتيري
الساعة 14:49 (الرأي برس (خاص) - أدب وثقافة)

 


غير خاف أبدا أن القصاصين يسعون دوما نحو سلك طرق جديدة غير مطروقة من أجل لفت الانتباه إلى إبداعاتهم القصصية، وكلما خرجت هذه القصص عن المألوف استطاعت جذب القارئ إليها، وخاصة ذلك القارئ المتخصص المسمى ناقدا، الذي يسعى دوما للحصول على لقيا قصصية تستجيب لأفق انتظاره، لكن ذلك لا يتحقق دائما، فكثيرا ما يعثر المتتبع على صيغ مكرورة في الكتابة عموما والكتابة القصصية على الخصوص، التي غالبا ما تسيطر الواقعية على كتابها، وخاصة الكتاب الجدد الذين يتملكهم وهم مطابقة الواقع ونقله إلى القارئ في نوع من الانعكاس، كما نظر له أرسطو في كتابه فن الشعر.
 

ومن بين الأساليب التي يحاول  القصاصون من خلالها الانعتاق من ربقة التقليد والصيغ المسكوكة المتعارف عليها أسلوب السخرية، الذي يمنح الكتابة القصصية قيمة مضافة لا غبار عليها، إن تم التعاطي معها بنوع من العمق والحرفية، تلك التي تحفز الكاتب على بناء الموقف الساخر، الذي يولد في نفس المتلقي نوعا من الكوميديا السوداء.
 

وفي مجموعة "دخان" سعت القاصة جليلة الأضرعي أن تركب هذا المركب الصعب، محاولة أن تجعل من الأسلوب الساخر مطية، توصل من خلالها نصوصها القارئ المفترض بنوع من السلاسة، التي تلمح أكثر مما تفصح عن نواياها المستترة في توجيه نقد موارب للمجتمع وبعض سلوكيات أفراده غير السوية، وهكذا التجأت القاصة في قصة"زنقط" إلى توظيف عالم الجن بأسماء شخصه الغريب التي تبدو لوحدها كافية لبعثة الشعرية في نفس المتلقي، فبقدر ما ترسم أجواء الشخصية في علاقته مع الجن الابتسامة على الشفاه بقدر ما تغرس في القلب شوكة مؤلمة، لأنها تذكرنا بأجواء التخلف التي يحيا على إيقاعها المجتمع، وتكبس على نفسيات الأشخاص وعقولهم، الذين استوطنت الخرافة  أذهانهم، حتى اتخاذوها بديلا عن الحياة الواقعية، حتى وصل الأمر بالشخصية الرئيسية في القصة أن تتخذ من جنية خليلة يعاشرها معاشرة المرأة الخليفة حذو النعل بالنعل. وفي هذا التوظيف نوع من الغرائبية، كما عرفناها من خلال قصص الجن في ألف ليلة وليلة مثلا.
 

أما في قصة "هيدرا" فنصادف السخرية القاتلة، فالأطفال يستقبلون المروحة الكبيرة بفرح لا متناه، لأنهم تعودوا أن تلقي عليهم هداياها الثمينة رغم بساطتها، المتمثلة في قطع الحلوى التي ترميها لهم من عل، فيتنافسون في التقاطها قبل أن تلامس الثرى، لكن المفاجأة ستكون مرعبة، حين تأتي المروحة هذه المرة بنوايا غير سليمة، لكن أنى للأطفال الاطلاع على نواياها، فبراءتهم تمنعهم من سوء النية والتقدير، يهرولون نحوها، فإذا بها بدل أن ترمي الحلوى كالمعتاد، تصب عليهم وابلا من القنابل، فتسكتهم إلى أبد الآبدين.
 

أنها إدانة للحرب بشكل فني، وظفت فيها الكاتبة الأطفال بشكل ذكي وفعال، لأنهم الفئة الأكثر تضررا من الحرب ونتائجها. وقد بدت القصة في  بدايتها ساخرة، لكنها ما إن تصل نهايتها حتى تتفجر في وجه القارئ تلك المفارقة القاتلة، التي يصبح معها الحزن مبررا، والألم مستوطنا للذات ولا يبارحها أبدا.
 

أما في قصة"أحدب" فن تابع الشخصية وهي تحاول التخلص من الحدبة التي تستقر أعلى ظهرها، والغريب أن هذه الحدبة تسكن ظهور الجميع، فلم توفر أحدا، وكأن الأمر يتعلق بتشويه أخلاقي أصاب الجميع بسبب انحرافات، طبع معها المجتمع، حتى أضحت أمرا عاديا ومعلومات بالنسبة للجميع، ولكن البطل في القصة لا يستسلم ويحاول التخلص منها، وكأنها إشارة لدور المثقف، الذي ينشغل بهموم المجتمع محاولا القضاء عليها، يلتجئ البطل إلى الكتب القديمة، للبحث عن الخلاص من الحدبة، لكن شخصيات التاريخ تخرج لها ألسنتها، وتستفزه، ومنها ابن سينا وعنترة وصلاح الدين الأيوبي، فتثور ثائرته نتيجة لذلك ، ويقرر التخلص من الكتاب وشخصياته،  برميهم في النار، وكأن الكاتبة تحاول من خلال ذلك أن تقول لنا أن خلاصنا في الحاضر وليس في الماضي، لكن ما يؤسف هو ما يحدث بعد ذلك حين يقرر البطل التخلص من الحدبة بطريقته الدراماتكية الخاصة، حين يخبرنا بأن استطاع اجثاتها، ونبتت له مكانها أجنحة، ليطير  في الأجواء، وكأن ذلك كناية عن الانتحار، بسبب اليأس من تغيير الواقع والقضاء على مشاكله.
 

أما في قصة "أرنب" فقد اجتهدت الكاتبة لرسم صورة كاريكاتورية لعملية الذبح، التي بقدر ما هي ساخرة فإنها مقززة، ومثيرة للاشمئزاز، وقد ربطتها الكاتبة بأجواء، جعلت منها موقفا  مناهضا للتطرف وقتل الناس وسلبهم  حقهم في الحياة، مهما كانت المبررات التي تساق للفعل ذلك، وقد كان استثمار الأرنب موفقا، لأنه يدل على أضعف المخلوقات، ومع ذلك لا يحق لنا سلبها الحياة بهمجية، دلت عليها الأجواء المأساوية في القصة، إنها السخرية السوداء، التي تجعل المواقف مضحكة لكنه ضحك كالبكاء.
 

وبعيدا عن الأجواء المأساوية القاسية، ترسم قصة "بيكاسو" لوحة بديعة وساخرة، فالفنان مستغرق في رسم امرأة داخل لوحته، لكن سرعان ما تتمرد تلك المرأة الحورية وتغادر اللوحة، ولا تأسف على ذلك، إنها قصة رومانسية شفيفة، توظف السخرية في أجواء فنطاستيكية معبرة، تنقذ المجموعة ككل من الأجواء المأساوية والحزينة، التي اختارت القاصة أن تسجن شخصياتهم في شرنقتها.
 

وتبقى المجموعة القصصية "دخان" للقاصة اليمنية جليلة الأضرعي تجربة إبداعية تستحق التأمل، لأنها حاولت أن تجرب صيغة مختلفة في الكتابة كالسخرية والغرائبية والعجائبية من أجل خلق أثر أدبي جدير بالاهتمام.

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً