الأحد 22 سبتمبر 2024 آخر تحديث: السبت 14 سبتمبر 2024
محمود درويش في قلب "أوروبا" - محمد الخضيري
الساعة 14:01 (الرأي برس - أدب وثقافة)

 


تحتفل القارة الأوروبية بمحمود دوريش شاعرًا فلسطينيًا وإنسانيًا. ففي بلجيكا، أعلن عن إطلاق كرسي جامعي يحمل اسم شاعر فلسطين (في جامعة بروكسيل الحرة وجامعة لوفان الكاثوليكية)، خلال الأسبوع الماضي. كما أعلن عن جائزة دولية تشجع الدراسات الجامعية (رسالات الماجستير وأبحاث الدكتوراه) التي تتطرق إلى الأدب الفلسطيني والنتاج الإبداعي لشاعرها درويش. بينما أصدرت مجلة "أوروبا" الفرنسية عددًا مزدوجًا خاصًا بـ"عاشق فلسطين".


يتحدر محمود درويش من سلالة نادرة من الشعراء، جعلت القصيدة وطنًا والوطن قصيدة. وفي كل مرحلة من حياته تجددت ولادته كشاعر يعيش تحولاّت تغير من مشهد قصيدته، ومن واقع القصيدة العربية. "أوروبا" EUROPE المجلة الأكاديمية المحكّمة، فتحت شهية قرائها على العام 2017، بعدد مزدوج لشهري يناير/ كانون الثاني – فبراير/ شباط، يستقرئ التجربة الشعرية والحياتية الحافلة لشاعر فلسطين. إثر سبر عميق في حياة درويش وآثاره الشعرية والأدبية، تمخض عدد ثري يقدم بانوراما شاملة عن موقع الرجل في القصيدة والأدب العربي والفلسطيني المعاصر. العدد المزدوج أشرف عليه وأعده الكاتب والأستاذ الجامعي في "المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية" INALCO في باريس كاظم جهاد، الذي راهن على تقديم الوجوه المختلفة لدرويش. وإن لم يكن صاحب "سجل أنا عربي" مثل البرتغالي فرناندو بيسوا بأنداد متعددين، فإن درويش الذي وقّع قصائده باسم واحد استطاع عبر منجزه أن لا يكون شاعر القضية ولا المقاومة، ولا المجال الجغرافي ولا اللغة فقط، بل كان أيضًا وخصوصًا شاعرًا إنسانيًا من قامة كبار الشعراء في القرن العشرين شهد تحولات عبر مساره الشعري الممتد لعقود.


ومن خاصيات العدد أنه ترجم مقاطع من كتابات نثرية لدرويش وقصائد لم تترجم من قبل إلى الفرنسية، إلى جانب مراسلات وحوارات ودراسات نقدية بالعربية، لم يكن للقارئ الغربي اكتشافها لولا نقلها إلى لغة موليير في هذا العدد، الذي يبدو أنه سيصير مرجعيًا في اللغة الفرنسية عن حياة وآثار درويش.


"أثر الفراشة"

هل يحق لنا أن نلقب محمود درويش بالفراشة؟ سواء كان الرد بالإيجاب أو النفي، فإن لدرويش أثر فراشة، يمتد إلى ما لا نهاية. أثر الفراشة بمفهومه الفيزيائي الذي يقول إن خفق جناح فراشة في بقعة من الأرض قد يحدث عاصفة في جهة أخرى من الدنيا، وبمفهومه الطبيعي، فلطالما حلق درويش بين الأزهار، يمتص رحيقها، ويجعل منه نصوصًا شهية تجاوزت الشعر إلى أجناس أخرى. وهو ما انتبه إليه بالضبط منسق العدد كاظم جهاد الذي ينبه في تقديمه للعمل بأن عدد "أوروبا" خلافًا لمقاربات أخرى، تفضل الشاعر على حسابات نتاجات أخرى من إنتاجه، المتعدد وغير المتشظي… مساهمات هذا العدد تهتم بنثره (سرد، سير ذاتية، مقالات وحوارات) بقدر قصائده".


هذا الاختيار الذي أقدمت عليه إدارة المجلة هو ما يقدم تلك الوجوه المختلفة لمحمود درويش. فنجد هنا رسائل إلى سميح القاسم، وهناك قصائد تترجم للمرة الأولى إلى الفرنسية (أو تعاد ترجمتها لأغراض قراءة نقدية)، وفي جزء آخر من المجلة حوارات طويلة، ومقالات نقدية تهتم بظاهرة من الظواهر المتعددة في حياة وشعر محمود درويش.


شاعر الصرامة


تنقل محمود بين العديد من المدن والعواصم العربية والغربية. من قرية البروة، في ضواحي عكا، إلى القاهرة وموسكو وباريس وتونس العاصمة وعمان ورام الله، كان الرجل يعيش تجارب صقلته إنسانًا وكاتبًا. وهي التجارب التي نتبينها في قصيدته وتحولاتها العميقة، التي تفتّحت شيئًا فشيئًا على تجارب العالم، ومدت جذورها عميقًا في تربة القصيدة العربية. وما بين تجربة وأخرى لم يكن الرجل منجرا وراء شهرة "شاعر المقاومة"، ولا الحب "القاسي"، كما سماه في واحدة من مقالاته الشهيرة، التي ينبه فيها إلى ضرورة قراءة الشعر الفلسطيني انطلاقًا من رؤية نقدية تحددها بوصلة الشعر لا غيره. درويش كان قاسيًا مع ذاته أيضًا ومع أعماله الشعرية فحذف الكثير من قصائده لاحقًا، ويظل أشهر الأمثلة على ذلك إغفاله لديوانه عصافير بلا أجنحة (1960) من أعماله الكاملة. 

في مساهمته في عدد "أوروبا" عن درويش لا يتردد الكاتب والمؤرخ السوري فاروق مردم بك بأن يصف درويش بـأنه "أحسن نقاد شعره". نص المساهمة الذي يحمل عنوان "شعراء محمود درويش"، يعكس هذه الفرادة التي سكنت روح الشاعر وتعدد أصواته منقطع النظير، الذي تعمق باكتشافاته الشعرية المختلفة التي قادت بوصلته في الشعر. من النصوص الدينية إلى جميل بثينة ومجنون ليلى وأبو حيان التوحيدي وأبو فراس الحمداني والمتنبي ووصولاً إلى شعراء معاصرين كبابلو نيرودا وبول إيلوار وناظم حكمت وآخرين. يقدم مردم بك شهادة فريدة عبارة عن ذكرياته برفقة محمود درويش حين تسلم جائزة "التاج الذهبي" في مقدونيا، وكيف أن المتوجين بها كانوا يزرعون شجرة في الحديقة العمومية للمدينة التي تقدم فيها. 

خلال جولة في الحديقة التي تحمل أشجارها أسماء الشعراء الحاصلين على "التاج الذهبي"، كان درويش يقدم شهادة عن كل واحد منهم. فنيرودا "محيط مثل المحيط الهادئ"، وفي دعابة يصف أودن "بأنه شاعر كبير لكن لا يعرفه إلا قلة من العرب، يقرأ اليوم في العالم بأجمعه أكثر مما حدث في حياته وهذا بفضل قصيدة ألقيت في فيلم، وليس بسبب التاج الذهبي!". 

وحين يصل أمام شجرة الشاعر يهودا أميحاي، فإنه لا يتردد في أن يقول: "يحدث معي حين أقرأه أن أتساءل إن كانت الأرض التي يسميها إسرائيل هي نفسها فلسطين التي في شعري. إنه يصفها ببراعة، لكنها بلاد أخرى تغطي بلادي".


"ذاكرة للنسيان"


في ذاكرة للنسيان، يعلنها درويش صراحة: "لا وقت للوقت". وفي هذه المتاهة الزمنية التي تعبر الأنا، هناك الأثر الذي قد يمّحي مع الوقت. لهذا وجب الحفاظ على أثر هذه البلاد عبر الذاكرة. فهي التي تبني المخيال الجماعي. الذاكرة التي إن أصابتها الأعطاب فقدت معها الهوية.


كثيرة هي المقاطع في مساهمات المشاركين في العدد التي تعود إلى هذه الدعامة الأساسية في قصيدة درويش التي تجعل من ذاته صوتًا للجماعة أحيانًا وأحيانًا أخرى تدفعه إلى رؤية ذاته في "مرآة الآخرين". جون ميشال مولبوا، الناقد والشاعر، وأستاذ الأدب في جامعة باريس العاشرة، يذكرنا في مقالة عن "غناء فلسطين محمود درويش": "إن كان الشاعر متنبهًا إلى التاريخ، فإنه يظل مصوبًا نظره تجاه الأساسي لحفظ الذاكرة. يجعل الحميمي يتداخل مع الجماعي، حب امرأة مع حب الأرض، الرغبة في العيش مع النضال السياسي. أساس عمل القصيدة هو أن يعطي هوية لفلسطين بأن يعدد من الصور التي تُلمِّع حضورها: امرأة أو أرضًا فإنها تتخذ جسدًا عبر السيرورة الغنائية المزدوجة للاستعارة والاحتفاء (...) فينقذ المتخيَّل ما كسره التاريخ".


إنها إذاً الإجابة التي يقدمها الشاعر أمام جرح التاريخ الذي لا يندمل والتهجير القسري ثم التراتبية العنصرية، والإخفاقات المتتالية التي كان متيقظًا لها، هو الذي لم يكن راضيًا عن اتفاق أوسلو، لكنه قرر العودة للعيش إلى جانب إخوته، واختبار حلم الدولة.

إيفانجيليا ستيد، وهي الأستاذة في المؤسسة الجامعية العريقة "المدرسة العليا للأساتذة"، ارتأت أن تسير في الاتجاه نفسه. لكن من خلال قراءة قصيدة واحدة لمحمود درويش، تعود إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي من ديوان "العصافير تموت في الجليل" (1969)، ويخص الأمر "ضباب على المرآة". قصيدة مطلعها: "نعرفُ الآن جميع الأمكنهْ/ نقتفي آثار موتانا/ ولا نسمعهم./ ونزيح الأزمنة/ عن سرير الليلة الأولى، وآه../ في حصار الدم والشمس/ يصير الانتظارْ/ لغةً مهزومةً". تقترح الناقدة ترجمة جديدة للقصيدة غير تلك التي كان أنجزها عبد اللطيف اللعبي في سنوات الثمانينيات، وترجع الأمر لرغبتها في تقديم ترجمة أقرب إلى الأصل، "تعكس هذا الضباب الكثيف الذي يثقل كاهل الأرض، ويشكل استعارة لفلسطين الثكلى"، لتخلص إلى أن هذا الفقدان المضاعف (للأرض، واللغة والقطيعة الزمنية) يدفع بشعر درويش إلى استخلاص استراتيجيات كتابية للتخلص من هذا المأزق. وهي العودة إلى الشعر الجاهلي بالوقوف عند "الأثر أو الأطلال" في جزء أول ثم الانتقال إلى المأساة الإغريقية (حرب طروادة) وصولاً إلى النص الإنجيلي. ليبني النص لغته "المهزومة التي تطلق صرختها". إنها هنا بداية جديدة للمقاومة.


ورد أكثر


عدد مجلة أوروبا يرمي ورودًا كثيرة على الشاعر لا شك في أنه يستحقها. فها هو الشاعر الإسباني ميغيل كاسادو يقارن بين النص السير ذاتي لدى جبرا إبراهيم جبرا ودرويش. ليخلص إلى أن درويش لا يعبر إلى سيرته الذاتية من الأحداث الكبرى. بل "عبر الفكر، والإحساس: تنتشر كتاباته السير ذاتية من خلال الأحاسيس، تقريبًا بلا تفاصيل، أو عبر لقاءات عابرة. الأحاسيس، الشديدة دائما، تعوض الأحداث الغائبة".

إنه هذا الحضور الغائب ما تتلمسه جيهان السوكي، في مقالها "محمود درويش من المنفى إلى المملكة"، حين تتنبه إلى حضور ثالث يأتي إلى جانب الحبيبة في "سرير الغريبة"، إنه هذا التنوع المذهل في الأصوات الذي يتداخل في كورالية لطالما تحكم الشاعر في زمامها. وكأننا أمام النشيد الكنسي. الذي لا يتردد روني كورونا في دراسة أخرى بوصفه بـ"الألف صوت".


لكن هذا التعدد في الأصوات، وهذا التطور الأسلوبي لم يأت بمحض الصدفة. بل نتيجة جلد وصبر كبير، كما يشير كاظم جهاد في دراسة تضمنها العدد، تتبّع فيها التطور الأسلوبي للشاعر في كل محطة من محطات حياته، والتحولات في حياته الخاصة والعامة التي واكبتها. وحين صار "واعيًا رغم كل شيء أنه حافظ على الاسم والهوية الفلسطينية من المحو المبرمج، سيشرع مهمش التاريخ في بناء تدريجي لملحمة. لنشيد مسهب لرجل الظل، الذي يقترن بتيه كوكبي "بطله" كل الأفراد والمجموعات المحكومة بالعبور فقط، أو بالانتظار في أماكن ليس العبور منها مكفولاً، مع فلسطين دومًا كمنبع للجرح". إنه نشيد "النوستالجيا المهددة والبحث الأبدي"، كما يشير عنوان مقال آخر لنجاة رحمن.

يقدم عدد مجلة أوروبا شهادات لأصدقاء وعشاق لقصائد محمود درويش، كإيتيل عدنان، وطاهر بكري، وحبيب تنكور، ومراد يلص ومحمد برادة الذي لا يتردد في أن يعلنها: "سيعيش داخلنا، كما ترغب لغته". كما تتخلل الكتاب نصوص نقدية لصفاء فتحي وعلاء خالد وريما سليمان وبلراج ديلون وأريليا هيتزل.

رفاق محمود درويش، في الكتابة والحياة، كإلياس صنبر وصبحي حديدي وحسن خضر سكرتير مجلة الكرمل، شاركوا أيضًا في العدد. فترجمت مقالة مهمة لصبحي حديدي، كانت نشرت في الكرمل، عن الحب في تجربة محمود درويش، يتقفى فيها تحولات العاشق الفلسطيني، وكذلك مقاطع من دراسة مطولة لحسن خضر، نشرت في العدد الأخير من مجلة الكرمل أيضًا. بينما كتب إلياس صنبر شهادة مؤثرة عن علاقته بـالذي التقاه خَفِرًا في مكتب بمقر مؤسسة الدراسات الفلسطينية، قبل أن يصير من أعز أصدقائه في باريس ومترجم الجزء الأكبر من أشعاره إلى الفرنسية "الأشعار الوطنية وليس القومية"، كما يصفها صنبر. شهادة صنبر تركز على علاقة درويش بالقارئ الفلسطيني. ذلك الإنسان البسيط الذي استعادت له قصيدة درويش إنسانيته وموقعه في العالم. ليختم نصه بمقطع من أثر الفراشة يحيل إلى هذه العودة الدائمة لدرويش إلى الأرض: "هنا تداخلتُ في العشب والزغب والنمَش وسواه، تحت ضوء القمر! حيفا تقول لي: أنت، منذ الآن، أنت!".

 

منقولة من ضفة ثالثة ..

 

 

لمزيد من الأخبار يرجى الإعجاب بصفحتنا على الفيس بوك : إضغط هنا

لمتابعة أخبار الرأي برس عبر التليجرام إضغط هنا

شارك برأيك
المشاركات والتعليقات المنشورة لاتمثل الرأي برس وانما تعبر عن رأي أصحابها
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص
اختيارات القراء
  • اليوم
  • الأسبوع
  • الشهر
  • الأكثر قراءة
  • الأكثر تعليقاً